(12)

نزل من المترو فى محطة الأسعاف ..
مضى ـ للمرة الأولى ـ ناحية شارع بولاق . مبنى مصلحة الكهرباء والبنايات القديمة والدكاكين المتلاصقة والزحام . مال ـ كما حددت له العنوان ـ من الشارع الجانبى ، قبالة سينما على بابا . مقهى ـ على الناصية ـ تشغل مساحة الطابق الأرضى . امتلأت بالطاولات والدخان والصيحات والنداءات والشتائم . الحارة الضيقة تفصل بينه وبين البيت الذى يقصده ..
تحسس طريقه ـ فى ظلمة السلالم الحجرية ـ يلتفت ـ بعفوية ـ إلى الظلمة المتكاثفة . توقفت خطواتها فى الطابق الأول ، وضغطت الجرس ..
الخالة إيفون . هى الشقيقة الكبرى لأمها . رآها يوم جنازة السيدة كاترين ، واليومين التاليين .
تقترب من الستين ، وإن بدت ـ على امتلائها ـ نشطة ، وخفيفة الحركة ، وتكثر من الكلمات المرحبة ، وتعبيرات الوجه واليدين . الوجه مستدير ، ممتلئ ، والجبهة عالية ، والصدغان متهدلان ، والعينان طيبتان ، لا تخلوان من مكر . لها شارب خفيف فوق شفتيها ، ترتدى فستاناً من الكستور المشجر ، بطول قامتها ، تحيط معصمها بسوار من الخرز الزجاجى ، وتدس قدميها فى شبشب من البلاستيك المتشابك .
ما رسمه خياله لم يتفق مع ما شاهده .
طرح التساؤل نفسه فى الأختين الأميرتين ، تقيم الصغرى فى فيلا بالزيتون ، والثانية فى بيت قديم ببولاق ؟
الردهة الضيقة تفضى ـ على اليسار ـ إلى حجرة صغيرة ، بها كنبة فرشت بسجادة من مزق الأقمشة الملونة ، وكرسيان من خشب الزان ، ومنضدة مستطيلة ، فوقها بوتاجاز مسطح وأوعية . على الجدار المطلى ـ بالجير ـ بلون سماوى ، صورة نصفية كبيرة للعجوز الجالس قرب الشرفة ، ونتيجة انتهى عامها ، فلم تنزع من موضعها . الشرفة الخشبية ، المتشققة ، تطل ـ من الجانب الأيمن ـ على شارع بولاق ، تطأها قدما الخالة إيفون ، فتحدث صريراً .
استعادت أيام ما قبل 1956 :
ـ لم يعد إلا القلة من الجاليات الأجنبية . لا بأس من أن يعودوا إلى أوطانهم . أنا وعمك لويجى .
أشارت إلى زوجها ..
استعاد ماهر ملامحه فى الجنازة ، بجسده الممتلئ ، ووجهه المكور ، وأذنيه العريضتين ، وعينيه الخاليتين من الرموش ، والذقن العريضة ، والندبة البنية الداكنة بحجم الترمسة فى خده الأيمن . تتباين التجاعيد فى وجهه مع شعره المصبوغ بالسواد . يرتدى بلوفر من التريكو ، فى هيئة مربعات لونية ، يغلب عليها اللون الأسود .
افتر فمه عن أسنان مهشمة ، مصفرة .
ووشى صوتها بالتأثر :
ـ ولدنا فى القاهرة ، لا نعرف مدينة سواها ، ولا نتصور أننا نبتعد عنها .
لاحظ فى صوتها غنة واضحة . إن ابتسمت ضاقت عيناها ، بدتا خطين يعلوهما حاجباها المقوسان .
وتطلعت إلى الصورة المعلقة على الجدار :
ـ الشجرة الصغيرة يسهل نقلها . إذا كبرت فإن محاولة النقل تميتها .
ورف على شفتيها ظل ابتسامة :
ـ خمس سنوات بعد الحرب أثبتت صواب ما فعلناه .
كانت سيلفى قد حدثته عن الخالة إيفون :
ـ روت لى من الحكايات ما يكفى لأن أستعيدها على امتداد العمر . أتصور أنى نسيت ، لكننى ألتقط طرف الخيط ، فلا أصل لنهايته .
وهو يغتصب ابتسامة :
ـ إيطاليا بلد جمهورى . حدثتنى سيلفى عن أمها الأميرة .
قالت الخالة إيفون :
ـ نحن إيطاليون بالفعل ..
واتته جرأة :
ـ لكنها ليست أميرة ..
دون أن تجاوز بساطتها :
ـ قيام الجمهورية بدل أوضاع العائلات ..
وأشاحت بيدها :
ـ ذلك زمن قديم ، نحن الآن مواطنتان من مصر .. هى من الزيتون ، وأنا من بولاق ..
وربتت صدرها :
ـ أنا من بولاق .
ثم فى نبرة متأثرة :
ـ لا أحد من أبناء أختى يزورنى ، عدا سيلفى !
وخنق التأثر صوتها :
ـ حتى كاترين ـ أدعو لها بالرحمة ـ كانت سيلفى تنقل عنها السلام .
خمن أن سيلفى تعانى ـ فطن إلى تأثرها بما كان لدى الأم ـ ربما ـ من ميول استعراضية ، تستخدم مفردات الأم ، وتحاكى ما كانت تحرص عليه من تصرفات .
حدثته عن الاعتزاز الذى كانت تنظر به السيدة كاترين إلى نفسها . هى أعلى فى المكانة الاجتماعية من زوجها . من حقها ، وواجبها ، أن تفرض سيطرتها على البيت ومن فيه ، تتحكم ، وتصدر الأوامر والتحذيرات ، تحدد أوقات الطعام والفراغ والسهر وسماع الأسطوانات . وكانت ترتدى ثياباً أنيقة كما يليق بحفيدة أميرة إيطالية ، وتحرص على ثياب الخروج داخل البيت .
يدفعها الشعور بالتفوق إلى إبداء ملاحظات قاسية . يتظاهر المسيو ميكيل بالموافقة ، وإن حرص ألا يترك لها فرصة حقيقية للسيطرة عليه .
عرف ـ من تناثر كلمات أنطوان الملمزة ـ أن المسيو ميكيل تعرف ـ بعد إحالته للمعاش ـ إلى بائعة أربعينية ، لحيمة الجسد ، مكحولة العينين ، فى سوق الخضر القريب من الكنيسة . تحدث عن السأم الذى يدفعه للتردد على فرشتها داخل السوق . يضيفان إلى البيع والشراء حكايات تشرق وتغرب ، تتراوح ردود أفعالها بين البسمة والضحكة العالية . يضيفها إلى الكفين والقدمين المخضبة بالحناء ، واهتزاز الثديين إذا تحركت ، أو تكلمت ، وأساور الذهب الملتمعة فى ساعديها ، ومنديل الرأس الأسود الذى عصبت به رأسها ، زينت أطرافه بحواش مطرزة ،
فطن أنطوان إلى أن العلاقة جاوزت الحكى لما رأى أباه يغادر ـ ذات مساء ـ بيت البائعة فى عطفة خزام .
لزم المسيو ميكيل البيت دون أن يشير إلى ما كان ، ولا إلى بواعث انقطاعه عن البيت . هل رأى أنطوان ، الذى تظاهر بأنه لم يره ؟
صادق أبونا امرأة من الشارع ، وها نحن نحاكيه .. صداقة أبينا والمعلمة فتحت الطريق للعلاقات الكاثوليكية الأرثوذكسية الإسلامية .. لو لم تمرض أمنا ، وانشغل أبونا بأمورنا ، بدلاً من الغناء الغبى والصرمحة وراء النسوان ، ما كنت [ ينظر إلى سيلفى ] تركت الدراسة ، وأمضيت وقتك خارج البيت .. هذا الرجل القبطى ، هل كان يتردد على الفيلا لو أن أبى عرف واجباته ؟.. أثق أن سكوت أمنا عن تصرفات زوجها هو الذى سيدخلها الجنة .
قال أنطوان :
ـ نحن ندفع ثمن الإقامة فى الزيتون .
قالت الأم :
ـ عندما أقمنا بالفيلا ، كان الحى كله فيلات وقصوراً وحدائق وزراعات ..
وأشارت بيدها إلى ما حولها :
ـ لم نكن نتصور هذه الأيام !
وقالت فى نبرة متصعبة :
ـ راح زيتون الحلم الجميل ، وجاء الكابوس الذى لا يرحل !
كان الزيتون ـ فى ذاكرة السيدة كاترين ـ حياً للأجانب والأثرياء ، القصور والفيلات والحدائق والشوارع النظيفة . لا تذكر ـ بالتحديد ـ متى تبدل الحال . ربما فى أعوام الحرب العالمية الثانية . انتقلت ـ بعدها ـ إلى الحى أسر من الأحياء المجاورة والبعيدة . علت البنايات ، وافتتحت دكاكين الحرفيين ، وأقيمت أسواق الخضر والفاكهة .
لم تكن تخفى استياءها من تغير صورة الحياة فى الزيتون . غاب ما كان يتسم به الحى من هدوء وتجاور للقصور والفيلات والحقول والحدائق . اختفت السواقى فى أطراف الحقول ، وأشجار الموالح والجوافة والموز والبانسيانا والكافور . تحولت الخضرة إلى أراض بور ، ثم بنيت فوقها العمارات والورش والمخازن والأسواق ، تخللتها الشوارع الضيقة والحوارى ، وقدم السكان الجدد بالزحام والضجيج والتلوث ، أعداد بلا حصر ، جاءوا من الأحياء البعيدة والقريبة .
ترامت إلى الفيلا ـ فيما يشبه الصدى أو الهمس ـ تلك الصفة المقتضبة : الخواجات . حتى الحرفيون ورواد المقاهى فى شارع سنان كانوا يتهامسون بالصفة ، عند قدوم أفراد الأسرة من ـ وإلى ـ طريق جسر السويس .
قالت :
ـ سادة الزيتون الآن من لم يكونوا يجرءون على السير فى شوارعه !
وأغمض التأثر عينيها :
ـ كنت أكره الأشجار لأنها تحجب الرؤية .. الآن أحبها للسبب نفسه !
ورافق إغماض العينين تحريك الرأس :
ـ لم يعد حولنا ما يغرى بالرؤية !
قال جان :
ـ أهذا رأيك بعد أن ازدحم ما حولنا بالبنايات ؟
ـ إنها ما لا يغرى بالرؤية !
لاحظ ماهر غضب الخواجة لويجى لغياب المكرونة عن المائدة . نحن طلاينة ، المكرونة لا تخلو من مائدة الإيطالى !
غالب ماهر ارتباكه :
ـ ما على المائدة يكفى .
ورسم على شفتيه ابتسامة :
ـ بصلة المحب خروف .
قالت الخالة إيفون :
ـ تتركين ديانتك من أجل الزواج ؟
قالت سيلفى :
ـ ماهر وافق أن أظل على المسيحية .
قال ماهر وهما يهبطان درجات الشهر العقارى :
ـ الشهر العقارى يصر على موافقة الكنيسة ..
قالت :
ـ كما ترى .. لن توافق الكنيسة ..
ـ والحل ؟
ـ ما تريده سأفعله ..
غالب تردده :
ـ هل تعلنين إسلامك ؟
أضاف للذهول فى عينيها :
ـ ستظلين مسيحية . إعلان الإسلام للفرار من ضغط أهلك ورفض الكنيسة ..
ـ دعنى أفكر ..
ـ لسنا متعجلين !
حركت رأسها فى ما يشبه اليأس :
ـ كل الطرق مسدودة ..
قالت الخالة إيفون :
ـ هذه الطريق أيضاً ليست صحيحة . نعتنق ديناً لأننا نؤمن به وليس لأنه يجمعنا بمن نحب !
ـ ماذا أفعل ؟
شعر فى صوت سيلفى بتماوج الحيرة والقلق .
قالت الخالة :
ـ كما اتفقتما ، فليظل كل منكما على دينه .
زفرت فى ضيق :
ـ الكنيسة ترفض .
ـ لكن القانون يوافق .
واتجهت إلي ماهر بنظرة متسائلة :
ـ لو أن سيلفى أرادت أن تذهب إلى الكنيسة .. هل توافق ؟
وهو يومئ برأسه :
ـ هذا شأنها .
ـ مسايرة للظروف ؟
ـ أظن أنى لست شديد التدين !
قالت الخالة إيفون لسيلفى كالمتنبهة :
ـ الدراسة .. ألا تنوين استكمالها ؟
قالت :
ـ لن أكون الوحيدة التى تدرس فى أثناء زواجها ..