(3)

أهمل السؤال: كيف دخل عياد حياتهم؟
وجده يجلس - فترة بعد الظهر - الي دومينيك، يكلم سيلفي وجان، تتسم عباراته بالألفة، وما قد يبدو جرأة، أنطوان - وحده - بدا أنه لايطيقه.
في حوالي الثلاثين، قمحي البشرة، اوضح ما يميزه شعر أكرت، وعيناه بنيتان، لامعتان، وأنف متضخم، وشفتان ممتلئتان، اميل الي الهدوء، لايبين عن حقيق مشاعره، ولا يبدو عليه التأثر ولا الانفعال بما يوجهه اليه انطوان من اسئلة وملاحظات، ولا ما يتشابك امامه - أحيانا - من مناقشات بين انطوان وجان، عدا احاديثه الهامسة مع دومينيك، فانه يظل صامتاً، لايتكلم الا ليلقي سؤالا، او ليجيب عن سؤال.
العربية لغة الاسرة مع ماهر وعياد، وان لجأوا - فيما بينهم - الي لغتين، عرف ماهر من سيلفي انهما الفرنسية والايطالية.
لم يكن عياد يغير كرسيه في زاوية الشرفة التي تقف علي أعمدة حجرية، تطل واجهتها علي الشارع، ومن الجانبين علي الحديقة، معظم وقت الزيارة تبادله دومينيك مناقشات هامسة، كأنهما يتكلمان عن اسرار لايريدان لاحد ان يعرفها، تومئ دومينيك لعياد مستأذنة، تتنقل داخل الفيلا، ما بين الصالة، والحجرات الخمس، والمطبخ، والحمام، لتجديد هواء حجرة الام، تحرص - في اوقات متقاربة - الي فتح النافذة، بينما تظل الستارة مسدلة، تنهي ما تنشغل به، تعود الي الاحاديث الهامسة.
ربما اختار ماهر الجلوس في طرف الشرفة يتشاغل بالتطلع الي حركة الطريق الهادئة - ساكنة تماما في معظم الاوقات - من خلال الفروع والاغصان والاوراق.
كان عياد يتجه باسئلة متباعدة الي المسيو ميكيل، طلب نصيحة انطوان في نقود يريد ايداعها البنك، واجهه بعينين تطلبان النصيحة، بداية مناقشة قد تخرج انطوان عن صمته.
قال انطوان وهو يشير الي الحجرة اليمني:
- جان.
عرف عياد انه يريد ان ينقل له شعوراً بعدم رغبته في الكلام.
قد يفاجئه انطوان بملاحظة، يهملها، او يحاول - في كلمات قليلة - توضيح موقفه.
لم تنشأ بينه وبين ماهر علاقة من اي نوع، لا صداقة ولا عداوة، كان يعبر ماهر بنظراته، اذا التقت النظرات، اكتفي بايماءة، وان تحدثا - في اوقات قليلة - متباعدة، عن ظروف عمله في دار المعارف، ومخاوف عياد من قوانين التأميم - عرف انه يشرف علي مصنع صغير للنسيج بالوايلي، وان تردده علي البيت بدأ لمراجعات حسابية اجراها له المسيو ميكيل - واحوال الجو، ومباريات الكرة.
ضايق انطوان ان دومينيك لم تبتعد عن عياد حين اظهر معارضته لزواجهما، اظهر ضيقه - ذات عصر - وهو يخترق الردهة الي داخل البيت، لم ينظر ناحية دومينيك وعياد في جلستهما داخل السور المطل علي الحديقة.
اشار لها من حجرة الصالون.
واجهته بعينين زرقاوين، واسعتين، قلقتين، ووجه صبغته الحمرة، وشفتين مرتعشتين، وعروق نافرة في عنق شبيه بعنق الغزال.
عدلت - بعفوية - الايشارب الحرير الذي احاطت به رأسها، والفستان الشيت المزين بزهور ملونة، والشبشب المنزلي الذي اخطأت فيه موضع قدميها.
قال في صوت تعمد ان يكون مرتفعاً:
- هل تجدين ان هذا الرجل يناسبك؟
- ما يعيبه؟
- هل هو من بيئتنا؟
- لا اجد في إصبعا ناقصا، ولا اجد فيه اصبعا زائدا.
وهو يحرك قبضته امام وجهها:
- أمرتك الا تصادقي شابا من غير ديننا!
- هو صديق ابي وصديقي.. وخطيبي أيضا..
وزفرت في ضيق:
- وهو مسيحي، اختلافه في المذهب
وشت لهجته بالحسم:
- نحن كاثوليك..
وزاد ارتفاع صوته كأنه يصرخ:
- هل ضاقت بك الدنيا؟!
ثم من بين اسنانه:
- أنا لست روفيانو!
ارتجفت شفتاها، همت ان تقول شيئا، يعبر عن الرفض، او الغضب.
غالبت حشرجة:
- كف عن هذا الكلام!
شعرت انه ليس لديها ما تضيفه، فظلت صامتة.
عرف ماهر من سيلفي ان الكلمة تعني القواد.
ظلت دومينيك تستقبل عياد، يجلسان في الشرفة الدائرية، الواسعة، المطلة علي الشارع، او في الصالة، يتحدثان، ويتهامسان، حتي يتقدم الليل، فينصرف.
تعرف دومينيك ان الجرأة لاتنقصه، باح لها بخشيته ان يفقدها، يمنعه انطوان من دخول البيت فلا يلتقيان، لن تتاح له فرصة اللقاء في الكنيسة، او سوق الخضر، او الطريق، هذا هو عالمها، يصعب ان تجد فيه لحظات تنصت اليه، ترد علي اسئلته تأخذ منه وتعطي.
لم يكن يأخذ مع سيلفي او يعطي، مجرد كلمات مجاملة، يتجه كل منهما بكلامه الي دومينيك.
مرة وحيدة، ابدي ملاحظة حول الحرية التي تنطلق فيها سيلفي دون افق، ردد كلمات من صلاة الشكر: »من اجل هذا نسأل، ونطلب من صلاحك - يا محب البشر، امنحنا ان نكمل هذا اليوم المقدس، وكل ايام حياتنا، بكل سلام، مع خوفك، كل حسد، وكل تجربة، وكل فعل الشيطان، ومؤامرة الناس الاشرار، وقيام الاعداء الخفيين والظاهرين«.
ومضي الغضب في بريق عينيها، ورفعت كتفيها، ومضت الي الداخل.
***
قال انطوان لأمه في لحظات إفاقة:
- نحن نحرص علي زيارة الكنيسة، ونهمل اقامة الشيطان في بيتنا.
اضاف للحيرة في عيني الام:
- انا اري التصرفات، لكن الشيطان يختفي حيث لانراه!
اكتفت السيدة كاترين بنظرة ساهمة، بعد ان اوقفت دومينيك عن الدراسة، صار زواج الابنة - وحده - شاغلها، تملكها القلق لتأخر زواج دومينيك، خشيت ان يقعدها المرض، لايتقدم لخطبتها احد، تظل العمر عانسا.