القدرة على القراءة نعمة من نعم الله، كغيرها من الوسائل التي آتاها الله ابن آدم، وإذا أردت أن تعرف هذه النعمة العظيمة فما عليك أيها القارئ، إلا أن تقارن بين نفسك وبين من لا يقرأ من أقاربك أو أصدقائك، لترى الفرق الهائل بينك وبينهم، فأنت تنظر إلى الحروف المترابطة التي تتكون منها الكلمات، والكلمات المتتابعة التي تتكون منها الجمل المفيدة، والجمل المفيدة التي تتكون منها الموضوعات الكاملة، التي قد تثمر كتابا أو مجلدات، وأنت تتابعها حرفا حرفا، وكلمة كلمة، وجملة جملة، وسطرا سطرا، وموضوعا موضوعا، وكتابا كتابا، ومجلدا مجلدا، تغذي بمعانيها عقلك، الذي لا يزال ينمو ويترقى في سلم أعالي العلوم والمعارف بشتى أنواعها وهي التي تستحثه بقراءاتك المتكررة، لشتى أنواع الثقافة، إلى أن يكون (العقل) ميزانا لما ينفعك من التصرفات، فيشعل لك بذلك سراج الهداية لتستضيء به في مسير حياتك للتشبث بكل نافع مفيد، وميزانا لما يضرك من النشاطات، فيرفع لك معلم التحذير من سلوك سبل الباطل التي تحرضك على سلوكها نفسك الأمارة بالسوء، واللهو المردي والشيطان الرجيم. فيتعاون العقل السليم والفطرة النيرة والوحي المبين، على قيادتك إلى ربك لتحقيق ما ترضيه به في دنياك وآخرتك.
القراءة تصل القارئ بالعصور الغابرة من التاريخ، بما فيه من خير وشر، وتجعله-إذا دوَّن أفكاره-متواصلا مع الأحقاب اللاحقة، ينقل للأجيال القادمة أحداث عصره، وعادات جيله، وتاريخ أمته، كاشفا لهم تجارب عصره، بما فيها من إيجابيات يدعو لاقتفائها، وسلبيات، يحذر من الوقوع فيها.
أما من لم يقدر له الله أن ينال هذه النعمة-نعمة القراءة-فلا تراه يفرق بين المكتوب والمرسوم، واللعب والجد، والحق والباطل، مما يسطر في صفحات الكتب والجرائد والمجلات، والألواح والصخور، إلا بأن هذا لون وذلك لون صوَّرتْه له الرؤية، لا يعلم من محتواه شيئا، ولا يدري من مضمونه عرفا ولا نكرا، يرى الحروف والكلمات والجمل والسطور، رؤية قد يعجبه جمالها، دون أن يعرف ما تحمله في أحشائها من جواهر وأصداف، أو ما أثقلت به صنوانها الدانية وأغصانها من ثمار لذيذة يانعة.
لا فرق بينه وبين صبي خرج لتوه من رحم أمه، أو مجنون فقد عقله، فكلهم حرُِم من التمتع بنعمة القراءة، إلا أن الصبي والمجنون معذوران بسقوط التكليف عنهما، وهو من المؤهلين للتكليف العيني والواجب الكفائي في أمور دينه ودنياه.
منزلة القراءة في الإسلام:
ولأهمية القراءة في الإسلام كانت أول كلمة في أول سورة نزلت على الرسول صلى الله عليه وسلم، هي أمره بالقراءة بادئا باسم الله، كما قال تعالى: ( اقرأ باسم ربك الذي خلق [1] ثم كرر الأمر بها فقال: (اقرأ وربك الأكرم)[3] العلق.
وكان الأمر بهذه القراءة، فاتحة لقراءة هذه الأمة عالَمَ الأرض والسماوات، وما فيهما وما بينهما، من أفلاك وكواكب وشموس وأقمار ومجرات، وبحار وسحاب، ومطر وبرق ورعد، وبرد وحر وجليد، وحيوانات لا يحصيها إلا خالقها في البر والبحر والجو، وجبال متنوعة في كبرها وصغرها وألوانها، وأنهار هي شرايين الحياة في الأرض، تصل بين الجبال والسهول والبحار، تمد البشر والحيوانات والأرض بماء الحياة، وتمكن الناس من الانتقال بوساطتها من مكان إلى مكان، لا حيلة لهم –في كثير من المناطق- في ذلك التنقل بدونها، يأكلون من طري أسماكها، ويلبسون من جواهرها وحليها، وأشجار وغابات، يتنفس البشر من هوائها النقي
وأمر الله هذه الأمة بالقراءة في سورة هي من أول السور المكية نزولا فقال لهم: (فاقرءوا ما تيسر من القرءان .. فاقرءوا ما تيسر منه) [20 المزمل]
وبذلك أصبحت الأمة الأمية التي لا تقرأ ولا تكتب، تُعَلِّم عالَمَ الأرض من ذوي الحضارات العريقة علوم الدنيا والآخرة، ومعارف الأرض والسماء، وسياسة الأمم العادلة التي تجلب لهم السعادة، وتدفع عنهم الضنك والشقاء.
فسل نفسك هذا السؤال الذي قد تظنه فضولا: هل أقرأ؟
كتبه
د . عبد الله قادري الأهدل