سقوط الحكم الحداثي
===========


وفي اعتبار الممدرية عدم وجود تفضيل في التجربة الشخصية والذاتية لا تنكر بذلك الشخصية والذاتية الاعتباريتين، وإنما ترفض عنصر الحكم الحداثي بهذه الصورة، فبأي مقياس اعتمد لحمل التجربة الشخصية والذاتية على العامة ؟
إن التجربة العامة موجودة، ولكنها ليست في الأدب والرواية، إنها موجودة في العمل السياسي والجمعي - الجمعوي - والحزبي.. توجد في العمل المؤطر، والسلوك المنظم لدى الجماعات، وهذا إن ظهر فيه شيء من التفرد والممايزة، وشيء من التجربة الشخصية والذاتية فإنه لن يكون تجربة عامة حتى يمكن مقارنتها عند التفاضل مع التجربة الشخصية والذاتية، لأنها هي نفسها ذاتية وشخصية، وهل يمكن مقارنة شخصية – أ – بشخصية _ أ _ ذاتها للمفاضلة مثلا ؟ بالطبع لا. إذن مما يطبع الحداثة هنا هو الفعل المفجر للمفرقعات، لا تدري اتجاهاتها في السماء، ولا تموضعها في الأرض، تطبعها السطحية، وقلة النضج، والانضباع بالألوان، والاستكانة للضجيج والصداع..
إن الأدب ذاتي كله، وشخصي بالكمال والتمام، فلا سبيل إلى جعله عاما، لا سبيل إلى الحديث عن التجربة العامة إلا في مجالات أخرى خارج الأدب، فلو حرصنا على إيجاد رأي عام على رأي، أو فكرة، أو قضية، ولو لم يكن واعيا، بغية تأطير الجماهير والتأثير عليها لحملها على تغيير مجرى سياسة معينة، لما دخلنا في جدال مع الحداثيين، ولكن أن يسوقوا ما لا يساق في معرض بحث الآداب ، فهذا لا يستقيم . ولا يقال بهذا الصدد أن ما لا يستقيم هو ما أرشدت إليه الحداثة، وهو ما تتطلع إليه البشرية في استهدافها ما بعد الحداثة، لا يقال ذلك، لأن ما يستقيم ( الثوابت والقواعد )حين يراد نسفه، أو استبداله، فسوف يستبدل بما يستقيم حتما في زمن معين، طال أو قصر، يستقيم هذا اللامستقيم في فترة معينة، فكان هو أيضا مما يستقيم في زمن ما، فلماذا نخوض في الهزل ونحن ندعي الجد؟ أم أننا تحت تأثير مخدر؟
فالتجربة الشخصية والذاتية خارج قوس الأدب مسؤولة بالدرجة الأولى عن تقدم الإنسان وتأخره، عن نهوضه وانحطاطه، عن ظلمه وعدله، عن ارتفاعه وانحداره، عن إنسانيته وبهيميته ..
من يبدع الفكر والثقافة غير الفرد ؟ من يقود غير الفرد ؟ ولكن هذا الفرد ليس فردا وحده، بل هو جزء من الجماعة الإنسانية. فإبداعه إبداعها من جهة الأخذ والتبني والعمل به، وما دام كذلك فإنه محكوم بالفكر الممدري الذي لا يسمح له بالعبث بجماعته . فإبداعه وعبقريته إذا انحرفت به نحو ظلم الإنسان واستغلاله واحتقاره وإرهابه ؛ يكون بذلك غير ممدري .
صحيح أن الفرد عبر التاريخ هو الذي أبدع كل شيء تقريبا في شتى مجالات الحياة، أبدع الحسن والقبيح، أبدع الرفيع والوضيع، أبدع السخيف والجيد.. وصحيح أيضا أن الفرد حاليا يبدع ولا يزال، ولكن بالنظر إلى إبداع الإنسان في مجال الفكر والثقافة ، فقد شطّ شططا بعيدا ، لقد أفاد في العلوم التجريبية ، أفاد في التكنولوجية والفضاء والإنترنت والبيولوجية وغيرها ، ولكنه ومن نفس ما أفاد أضر ضررا عظيما ولا يزال بسبب فكر الحداثة وثقافة الحداثة وما بعد الحداثة ، ففي البيئة مثلا أضر ، من استخدام مفرط للمواد الخام، إلى الطاقة. ولا أدري إن كانت الطبيعة تحتضر أم لا جراء الاستغلال البشع والهمجي للموارد ؟ لست أدري متى ينجح الممدريون في إيقاف هذا النزيف، وإنعاش الطبيعة طبيعيا؛ وليس صناعيا كما يفعل غير الممادرة خداعا للبشرية. لست أدري متى يقف ظلم الحداثيين وما بعد الحداثيين حتى تعود الطبيعة إلى عطائها الطبيعي كالأم بلبنها مع وليدها. وفي الثقافة والآداب والعلوم الإنسانية والاجتماعية وغير ذلك أضرا كثيرا، فقد قطعا المسافات الطوال في العولمة واقتصاد السوق وتكنولوجيا الإنتاج المصور ( تلفزيون سينما .. ) والشركات المتعددة الجنسيات، والاستهلاك الفظيع للمواد والموارد والخدمات والإنتاج الصناعي وتكنولوجيا المعلومات..
إن العالم اليوم محتاج إلى النظرية الممدرية في الفكر والأدب وغير ذلك تجنبا للسقوط الوشيك، تجنبا للكارثة المحدقة بالبشرية جراء تحكم الحداثيين وما بعد الحداثيين في العالم، تجنبا لحماقة المعتوهين الذين لا يحترمون العقل والمشاعر، ماذا لو ظل الممدريون نائمون على فكرهم وثقافتهم اليوماوية المنقذة ؟.
ولنخض في الرواية الحداثية التي تؤكد على النزعة المجازية ولكن مقابل النزعة الكنية كما يراها الناقد الأمريكي جون بارت، تركز أيضا على الرواية غير الشعبية.
هذا التركيز على الكناية في مقابل المجاز ، وعلى الشعبي في مقابل اللاشعبي أعلن عن تقليدية الحداثة ورجعيتها، وقد شهد شاهد من أهلها في قوله: " .. أن الحداثة تحتوي على تناقضاتها الداخلية الخاصة بها، وبأن أنماط الفكر التي تنتمي إلى الحداثة قد تتحول إلى سلفية جامدة ( قد تحولت فعلا ) ويصيبها التقادم، وبأن أنماطا من الحداثة قد تحتجب لأجيال طويلة ( لن تطال أجيال النصف الثاني من القرن الحادي والعشرين ) دون أن تخلف أنماطا بديلة، وبأن أعمق جراح التحديث الاجتماعية والنفسية قد تلتئم دون أن تشفى شفاء حقيقيا .. " - كل ما هو صلب يتحول إلى أثير – كتاب : مارشان برمان.
فالنزعة المجازية والنزعة اللاشعبية في مقابل الكناية والشعبية سواء بالمقارنة أو التماثل أو التفاضل عمل الناقد أو الشارح أو المفسر، فهو الذي يتولى بناء على هذا ؛ الطرح النزعي، وبناء عليه يصير وسيطا بين المبدع صاحب النص، والقارئ صاحب التلقي. وهذا ممارس منذ زمن عند التقليديين ولم يزل، فهل أصبحت الحداثة صياح لص خادع سرق وركض يعدو قائلا: اقبضوا على اللص، اقبضوا على اللص.
والممدرية في تعاملها مع النص المجازي والنص الكنائي تركب اللغة لتسيح بها في عالم النصوص، وهي راكبة نصوصا ممدرية مستلذة مستطربة مستطرفة، منفعلة متأثرة، منتشية مغتبطة، عاضبة حانقة، ساخرة لامزة هامزة، مشفقة ومنتقمة.. تسبح وفق رياح اللغة، وخصوصا اللغة العربية لعظمتها في تشذيب جمالية التلقي، وتحريرها من براثن الحداثة وما بعد الحداثة، وتفردها بالأدب الممدري تقعيدا وإبداعا، وتميزها عن سائر لغات العالم .
وبين الحين والآخر وعلى فترات تطول أو تقصر يزيل الأدب الممدري عن النصوص أثر فعلها في المتلقي كما لو كانت أقراصا مخدرة أو منشطة ، وذلك بغية حمله على امتلاك حيز من الرياح اللغوية السائحة ليتسلسس أو يتبوكك أو يترادف .. تسمح له بممارسة نوع من التفكير الخاص داخل حيز الرواية ليكتب في مخيلته نصوصا أخرى تظهر له على شكل صور متألقة في امتثالها. لا تتركه بيد الشارح والمفسر من خارج النص، بل تجعل منه شارحا ومفسرا للنص بحيث توكله عملا تروض به ذهنه وتنفش له مشاعره، وقد يبقي شيئا للناقد، وربما لا يبقي له شيئا. وليس معنى ذلك ممارسة الفعل التعسفي على النصوص لاستنطاقها بما لا تنطق، لاستظهارها بما لا يحتمل، فذلك لا يكون في الأدب الممدري، لأن اللغة أداة من أدوات النص ، وهي كالمرآة التي تتنقل في الصور، إذا وجهتها لجسم ما، تعكسه، واللغة الموجهة إلى الدلالات الظنية في الأدب، غير اللغة الموجهة إلى الدلالات الظنية في الفكر والسياسة والعلوم.. فالأدب يبغي المتعة ، يبغي الانفعال الأبيض، أو الانفعال الأسود، وهو في الأدب يستولد من الخيال، وأداة استولاده اللغة، ولكن وفق رياحها، وليس وفق رياح الكاتب والمتلقي ، إنها لغة تتمتع بشخصيتها وذاتيتها، وهي لغة محترمة، فلا بد من احترام وضعها، فلن تسمح لي مثلا أن أسبك دون موجب إذن لغوي، ثم أزعم أنني أمدحك، لا يكون ذلك إلا بموجب ما تسمح به اللغة في مجازها، وكنايتها، واستعارتها، وتوريتها..
ولا أدري كيف أعلن رولان بارت موت المؤلف وظل هو حيا في أعماله، كما لا أدري كيف استجاب دريدا لمقالته فذهب إلى القول: (( الآن أطلقت جميع النصوص لتسبح بحرية مع نظيراتها في اللغة أو الأدب أو الجنس الأدبي في بحر من التداخل النصي لم تعد مهمة فيه الفوارق التي كانت في الماضي تميز فيما بينها ، وبات ينظر إليها بشكل جمعي على أنها صيغ لخطاب عابث واسع الانتشار )) كتاب: ما بعد الحداثة للناقد: كريستوفر بتلر . صفحة: 24 .
إن موت المؤلف يقضي حتميا موت النص، لأنه لن يلحقه تشذيب، أو تغيير بسبب غياب صاحبه، وهذا طبيعي في كل فكر وأدب خلفه المبدعون. وإذا كان النص قد أبدع ، وخرج إلى المتلقي، فلم يعد ملكا للمؤلف، فليس معنى ذلك تناوله على شتى المناحي والطرائق، فالنص السياسي مثلا لا يمكن تناوله على الوجه الصحيح دون النظر إلى ظروف وجوده، وزمن بروزه، والغاية منه، وهو نصوص، ولو كانت معاهدات، أو تصريحات، أو سلوكيات لزعامات. فالنص من أجل فهمه لا يسمح لك بتناوله كيفما اتفق. والنص التشريعي لا يسمح لك بخلطه مثلا بالنص الأدبي. والنص العلمي لا يقبل منك حشره مع المعارف والآداب وتناوله دون اعتماد تجربة المادة بإخضاعها لظروف وعوامل غير ظروفها وعواملها الطبيعية، فكذلك النص الأدبي، سواء كان شعرا، أو نثرا لا يسمح لك بتناوله على هواك، لا يقبل منك زعم الحرية فيه، فهو نص أساسه اللغة، وعمله التصوير، وهدفه هز المتلقي، والتأثير عليه.. فإذا جعلت الهدف التصوير، فيستحسن أن تعمد إلى الكاميرا، أو تمارس الدقة العلمية في استظهار ما يراد تصويره، وبذلك تنحرف عن الطريق الذي يوصل إلى هز المتلقي، صحيح أن المتلقي قد يهتز للتصوير العلمي، ولكن اهتزازه هنا معرفي ، وليس عاطفيا ، ونحن بصدد العاطفة، علما بأن الممدرية تنشدهما معا، ولكن في حذر شديد من الخلط المفضي إلى الانحراف.. ولو جعلت الهدف هو اللغة، فيستحسن أن تطلب علم اللغة، أو المقامات، علما بأن هذه الأخيرة قد نجحت نجاحا باهرا في فن اللغة، وجماليتها.
والمقامة جنس أدبي راق. وهي نثر بطبيعة الحال، غير أنه نثر بمكونات خاصة، وسمات محددة. نثر نبت في رحم المجتمع الشعري. كان العرب لا يرفعون كلاما عن الشعر حتى ظهر القرآن الذي أفحمهم وأعجزهم، وهو نثر من نوع خاص لا يضاهى، ولكن غيره من أنواع النثر الأخرى كالمقالة والخطابة وغيرهما لم تزاحما الشعر على عرشه، وفي هذا الخضم ظهر بديع الزمان الهمذاني بنثر جديد هو سرد أولا، راعى فيه الموجود الشعري وأخذ منه روحه ثانيا، فكانت نصوص المقامات نصوص جامعة للروح والبدن، ترتدي ثوب الشعر، وتلبس روح النثر .
وظهر أيضا جنس أدبي آخر هو النثر الذي لا يرتدي ثوب الشعر، يعتمد السرد والنادرة، وقد سماه الناقد محمد مشبال الحكي العاري وهو عند الجاحظ في البخلاء والحيوان والتبيين. هذا الجنس الأدبي (جنس النادرة ) يقوم على نفس ما تقوم عليه المقامات من حيث كونهما سردا، ويختلفان في كون أحدهما يقوم على الشاعرية معتمدا على ما يحقق ذلك في علم البديع ، بينما الآخر يقوم على العري ليحقق به ( بلاغة النادرة ) كما يرى ذلك محمد مشبال .
ولو جعلت عمل النص ملء الأوراق بالوصف والسرد والحوار وغير ذلك، فإن المنطقي أن النصوص لا تسبح لوحدها، وليس لها حرية، لا هي، ولا نظيراتها في اللغة والأدب، أو الجنس الأدبي، لأن تداخل النص في النص من فعل المؤلف، وليس من فعل النص، فالنص لا يسبح تلقاء نفسه، بل تحكمه اعتبارات لغوية وواقعية، تحكمه الدلالات القطعية، والدلالات الظنية، تحكمه النمذجة في صنوف العلوم والمعارف والثقافات، فالفوارق التي تميز النصوص، والتي ينكرها دريدا، ويعتبرها من الماضي، فهي تقليدية ؛ تقيد نفس دريدا وأشباه دريدا . فالنص بفقرة أو اثنتين أو ثلاثة في سرد، أو وصف، يتميز من جملة لأخرى، ومن فقرة لأخرى، حتى ولو تم تكرار الجملة ، ثم إنها تتمايز تمايزا إرغاميا يسجله الواقع ، ويدركه النظر والحس، فنصوص دريدا المذكورة، وإن لم تكن أدبا سرديا، تتفاضل وتتمايز، كما أنها تتداخل فيما بينها رغم زعم دريدا غير الموفق. وهذا التمايز، وهذا التداخل من فعل الناقد، وليس من فعل النص كما هو مدرك، فالنصوص العربية تراكيب لغوية تتميز وتتمايز، تكون أدبية، وفكرية، وتشريعية، وسياسية، وعلمية تجريبية.. فالأدبية منها تفتح وتغلق، فإذا أغلقت على معنى معين لم يمكن الانتقال إلى غيره من المعاني في الشرح ، أو التأويل، وإذا فتحت على عدة معاني لم يمكن حصرها فيها، ولا أعني هنا الألفاظ المشتركة التي تختلف معانيها، مثل السليم والجون والقرء والخال والعم.. بل أعني بها النصوص التي يفتحها الكاتب، ويشرع نوافذها، ويلغي أبوابها بغية التداخل فيما بينها، الشيء الذي يعطي صورا عديدة مختلفة ورائعة في الجمال، هذا إذا صدر النص عن المبدع، لأن صدوره عنه إذا تحقق لم يمكن الرجوع عنه إلا للتقويم، وربما رفض ذلك، ولا بأس، أضف إلى ذلك عنصر التأويل للنصوص، فإن تأويلها لا يأتي من خارج النصوص، بل من داخلها، خذ مثلا هذا النص: تسكنني على ضعفي، أسيرها أنا، تنفخني كأضحية العيد، لظاها مسنن، أقف عليه، أسير عليه، ولكنه يهوي بي.. هذه التراكيب مفتوحة على عدة واجهات، تحتمل عدة معاني، فلك أن تصطفي من المعاني واحدة تكون هي التي سكنت قائلها، ويا ترى ما تكون ؟ أو من تكون ؟ محبو بته. خطيئته. لك أن تعتبرها مصيبته. لك أن تؤولها حالة، ظاهرة، تتحسسها شخصية عناها، حالة عاشها، حادثة جرت معه، أو وقعت له، لك أن تطلق العنان لخيالك، للتأويل، لأنها مفتوحة، قد أذنت لها اللغة العربية في الإبحار، ولكنني إذا وضعت عنوانا لها، وقد فعلت، فإنني أقصد تقييدك لتفهمني فهما محددا، وتدرك مرادي إدراكا مستهدفا، وتهتز اهتزازا مرغوبا. فمن هي تلك التي تسكنني على ضعفي؟ في هذا النص تحدد للمؤول مجال التأويل، ورسمت له آفاقه، وهي واسعة شاسعة، تفضي إلى اختلاف المؤولين، ولكن إذا تمت عنونة النص بـ: المعصية، اتضح أن مجال التأويل قد ضاق تماما، وتم حصره فيما توحي به اللغة، فهي السلطانة على النصوص وجب الوقوف عندها، وجب مراعاتها إذا أريد السباحة في تأويلات عديدة للنصوص. هذا الذي حصل كان من داخل اللغة، وليس من خارجها، اللهم إذا تمثل المتلقي النص في غياب عنوانه الذي حدده له كاتبه، له ذلك في التعبير عن شيء يختلف فيه مع الكاتب من أجل الاستمتاع والانفعال، له أن ينفعل لمحبوبته بنفس نص من انفعل لمعصيته، يكون ذلك بإزالة القيد اللغوي المتمثل في التحديد سواء في العنوان أو غيره، وهذا ليس ما يدعيه دريدا، وهكذا مع ملاحظة الفوارق التي ينكرها دريدا، وإن كان ليس ضروريا التقيد بها عند رغبة التصرف بالنص، وطلب المتعة والانفعال، وربما نعود إلى هذا الموضوع بشكل مفصل أكثر .
إن العربي القديم واضع اللغة العربية كان يتمتع بخيال خلاق، فهو مبدع كبير لا يضاهيه واضع آخر في أي لغة عالمية، فقد كاد يضع لكل لفظ مقابلا له في الكناية والمجاز، ولو فعل ما ضيق علينا، وإذ لم يفعل ( وربما ضاع الكثير ) فالاشتغال داخل اللغة لا حد له، وهو الإبداع المتفوق على سائر أنواع الإبداع الأخرى، وهذا الاشتغال انطواء جميل على الذات لسماع لغتها الخاصة، وانكباب لذيذ على دفئها وإيقاعها في الاستدفاء، إنه إنصات للروح، مناجاة للنفس، اصطناع لحالة البوح لذات واحدة، ومشاعر واحدة، وعقل واحد، وهو إحساس عظيم بضاهي إحساس المتأملين من المتصوفة، والزهاد، والفلاسفة..
" إن كل خطاب يتناول الحداثة من خارج عمقها الفكري والإبداعي هو استعمال ظرفي يتحول إلى نقيض الحداثة بل يتحول إلى حداثة معطوبة " كتاب: الحداثة المعطوبة. محمد بنيس. الإنترنت.
صحيح أن كل خطاب يتناول الحداثة من خارج عمقها الفكري والإبداعي يؤول إلى النقيض. الخطاب من هذا النوع خطاب منحرف وشاذ، لأن تناول غير الحداثة من خارج عمقها الفكري والإبداعي يعطي نفس النتيجة، وقد ابتلي بها العالم العربي والإسلامي حتى اختلط فيه كل شيء، فلا الاشتراكية اشتراكية، ولا الإسلام إسلام، ولا الرأسمالية رأسمالية.. كل ذلك بسبب تناول الخطاب من خارج إطاره، فهو كمن بيده قميص يلبسه أيا كان، فلا يميز بين من يأتي على مقاسه، ومن لا يأتي، لا يميز بين من كان يناسبه أم لا، لا يميز بين الذكر والأنثى ، بل بين بوبي وأنطونيو حين يريد إلباسه.. والأمر لم يقتصر على ما ذكر، بل تجاوزه إلى الخطاب النقدي والخطاب القومي والحزبي .. فالناقد حين يتمترس خلف مدرسة نقدية يتحول إلى خياط ( ماهر ) يفصل نقده وفق مدرسته، فيلقيه على أي إبداع وقد ركب جهلا مركبا.
ــــــــــ

نقلا عن كتاب: النظرية المَمْدَرية ( في الفكر والأدب والفلسفة ) لا يزال مخطوطا.
محمد محمد البقاش