النتائج 1 إلى 4 من 4

الموضوع: الحج بين الماضي والحاضر

  1. #1 الحج بين الماضي والحاضر 
    مشرف
    تاريخ التسجيل
    May 2006
    المشاركات
    2,180
    معدل تقييم المستوى
    20
    الحج بين الماضـي والحاضـر
    بقلم الأستاذ الدكتور : بكري شيخ أمين
    حدثنا أبي قال :
    إن أنس لا أنس تلك الاحتفالات الفخمة والعجيبة التي أقيمت لخالي يوم عاد من الحج ، إذ لم تكن السن قد بلغت بي آنذاك السابعة من عمري ، يوم أزمعت أسرتي قاطبة الخروج إلى ظاهر المدينة لتستقبل خالي العائد من الديار المقدسة ، ولم أعرف معنى ذلك الاهتمام الكبير بعودته إلا بعد أن قص علينا بعد رجوعه ما لاقاه من أهوال في أداء هذه الفريضة ، ويومها فقط عرفت معنى قولهم عن الذاهب إلى الحج : (الذاهب مفقود والعائد مولود ) .
    الذي بقي في ذاكرتي أننا عند خروجنا لاستقباله اصطحبنا الطبال ( أبو علوان ) وفريقاً من الشباب الذين يلعبون بالسيف والترس ، وفريقاً آخر خرج معنا وبأيديهم البنادق المحشوة بالرصاص .
    انتظرنا خارج المدينة ، وكلما مرت عربة ، أو قافلة ، سألناهم عن الحجاج القادمين من طريق الشام ، هل صادفوهم أو رأوهم ، وأين مكانهم ، وإلى أين وصل موكبهم ؟ ومر أكثر النهار ونحن مشرئبو الأعين على كل قادم من جهة الجنوب .
    وأخيراً ، أطل موكب القافلة الحبيب ، وهرع الجميع نحوها ، يفتش كل منهم عن حاجّه ، وأطل خالي

    نبهان محمد خشفة - رحمه الله-
    بابتسامته العريضة ، واندفع أبي وأعمامي ، وأخوالي ، وجميع أقاربي ، يقبلونه ، ويسلمون عليه ، ولعلع الرصاص في الجو ، كما اندفع أبو علوان بطبله الكبير في قرع متوال ، وتقدمت الشباب السيافة أمام الناس جميعاً ، وشهروا السيوف والتروس ، وراحوا يلعبون لعباً ، لا أحلى منه ولا أمتع .
    ثم انطلق الموكب الحافل الهوينا نحو المدينة ، وخالي يتصدر الناس جميعاً ، على رأسه طاقية بيضاء وفوقها غترة ناصعة البياض ، وثوبه الأبيض الجميل يتلألأ نقاء ، ووسط الجمع الحاشد كان أبو علوان بطبله يكاد يصم الآذان ، ولاعبو السيوف مستمرين بألعابهم الجميلة الممتعة .
    وعلى طول الطريق إلى المنزل كان أصحاب الحوانيت يخرجون من حوانيتهم نحو خالي يعانقونه ، ويرددون كلمة ( حجاً مبروراً وسعياً مشكوراً ) ويضيفون كلمة ( عقبال العودة ياحج نبهان . ) .كما كانت النساء يسترقن النظر إلى الموكب من كوى البيوت ، أو من على الأسطحة ، وكثيراً ما كانت الحماسة تبلغ ببعضهن إلى أن ترفع صوتها بالزغاريد . ولا عجب فخالي الحاج نبهان تحبه النساء كما يحبه الرجال وأهل الحارة على العموم .
    وابتهج خالي لما وصل إلى الحارة ، فرآها قد بيضت جدرانها بالكلس الأبيض من أولها حتى حدود بيته كما دهن باب داره بألوان زاهية ، ورسم فوقه صورة الكعبة المشرفة ، وكتب عليه من الأعلى عبارة (حجاً مبروراً وسعياً مشكوراً ) ، كما خط على جدران الحارة بخط عريض : أهلاً وسهلاً بحجاج بيت الله الحرام .
    وأشرق وجهه أكثر حين دخل الدار فرأى الزينة تملأها من أوراق زاهية ملونة ، ومن سجاجيد معلقة على الجدران ، ومن كرسي عال يشبه الكرسي الذي ينصب للعروس في صدر الإيوان ، أعد ليجلس عليه ، ومن شــباب هم أولاده وأولاد إخوته ، يحملون الصــواني مملوءة بالراحة المحشوة بالفستق الحلبي ، يقدمونها للمسلّمين ، والزائرين . ومرت سـبعة أيام وبيت خالي لم يخل من المسلّمين عليه ، والمرحبين بقدومه ، والداعين له بالعودة والطاعمين والشاربين .
      
    وما إن انقضى الأسبوع ، وانصرف كل إلى عمله ، وتوقفت حركة القادمين المسلّمين حتى طلبنا من خالنا الحبيب أن يحكي لنا قصة حجه ، من أولها إلى يوم عودته بالسلامة ، أو كما يقول العامة عندنا : ( من طقطق للسلام عليكم ) . ورحنا في كل ليلة نتحلق حوله ، وهو يحكي لنا العجائب والغرائب ، وينقلنا من عالم مرعب إلى عالم آخر كله حزن وأسى ، وكنا نطلب المزيد ، وكان يقف عند نقطة حرجة ، ويعدنا باستكمال الحديث في الليلة القادمة ، كأنما هو قصاص ألف ليلة وليلة ، أو حكواتي سيرة عنترة بن شداد أو الزير سالم .
    وأردف أبي قائلاً : الذي بقي في ذاكرتي قوله : استأجرت كما يستأجر كل راغب في الحج شُـقْدُفاً عند جَـمّـال والشقدف ـ يا أولادي ـ نوع من العلب الكبيرة أو الصناديق المغلقة من جميع جوانبها إلا من الأعلى . فالجمّال يضع شقدفين على ظهر الجمل ، كل حاج في شقدف ، ليكون بينهما توازن ، ويركب هو على الظهر ، وقد يكون للجمّال الواحد عشرات الجمال ، وحينئذ يمكنه أن يأخذ كثيراً من الحجاج ، وقد يفضل الحاج الأغنى السفر على ظهر الجمل ، وحينئذ يدفع أجراً أكبر ..ولا تنسوا أن بعض الجمال يخصص لأمتعة الحجاج ، وطعامهم وشرابهم .
    وفي اليوم الموعود حضر جميع الراغبين في الحج ، وسار الموكب المهيب ، نحو الشام ، ولا أنسى كثيراً ممن ودعونا كانوا يشرقون بالدموع ، لأنهم لا يستطيعون إلى الحج سبيلاً ، ويرددون : ياليتني معكم فأفوز فوزاً عظيماً
    المهم أننا بقينا نمشي حوالي عشرة أيام حتى وصلنا إلى دمشق . وفي دمشق انضمت قافلتنا إلى بقية قوافل المدن السورية . وتجمعنا في مكان معين ، وكانت الجمال تزيد على الألف عدداً .
    لا أريد أن أطيل عليكم ، يا أحبائي ، ففي دمشق ركب أمير الحج على ناقة ، واصطحب عدداً كبيراً من العساكر المدججين بالسلاح ، وعدداً لا يحصـى من الجمال المحملة بالمؤن ، والأسلحة ، والأموال ، والهدايا لتكون عوناً لنا جميعاً على أداء الفريضة .
    وودعت دمشق بقضـها وقضـيضـها موكب الحجاج ، وانطلقنا نحو الديار المقدسة .. نستظل ونحن في شقادفنا بالمظلات التي بأيدينا ، ونأكل أو نشرب من الماء الذي وضعناه معنا . حتى إذا أمر أمير الحج بالوقوف توقف الجميع ، وأناخوا الجمال ، ونزلنا فأكلنا وشربنا وصلينا ، واسترحنا ، وقد نأخذ جزءاً يسيراً من الوقت فننام على الأرض ، وما فوقنا ، أو تحتنا إلا قطعة من قماش رقيقة ، لا تسمن ولا تغني ، ولا تريح .
    كان معنا حداؤون للإبل ، وكان معنا من يرفع عقيرته بغناء شجي ، فيه شوق إلى الأماكن المقدسة ، والمعالم الطاهرة ، وكانت تلك الأناشيد تأخذ منا الدموع الغزار ، وتعبر عن أشواقنا ومواجدنا ، وتزيد الخفقان في قلوبنا ، رغبة في سرعة الوصول والتملي بطلعة البيت الحبيب ، والنبي الحبيب ، والأرض الحبيبة ، وكل ذرة تراب في تلك الديار هي حبيبة .
    ماذا أحدثكم يا أحبابي ؟ أأقول لكم : إن تلك المواجد والأشواق شـابَـها كثير من الدمع على موت بعض إخوتنا المرافقين ، فلقد اعترضتنا عدداً من المرات جماعات مسلحة من قطاع الطرق ، أرادوا أن يسلبونا ، ودافعت العساكر التي معنا عـنا ، وضـربتهم بالرصاص ، وضربونا ، فقتلوا منا البعض ، وقتلنا منهم الكثير . ومرة اعترضتنا قبيلة مسلحة طلبوا منا (خوة )لنمضي في طريقنا بأمان وسلام ، ودفع أمير الحج ما طلبوا ، ومررنا بسلام في أرضهم ، دون أن يهرق دم واحد منا .. وهكذا كنا على طول الطريق نلاقي الصعاب ، وأمير حجنا يتعامل معها بما يرى ، سلاماً أو حرباً .
    وحين وصلت قافلتنا المدينة المنورة ـ على صاحبها أفضل الصلاة والسلام ـ تسارعنا إلى المسجد النبوي نبل صدى قلوبنا العطشى ، ونبل بدموعنا ثراه المعطر برسول الله صلى الله عليه وسلم ، ونصلي في المسجد النبوي أو في الروضة المشرفة ما استطعنا إلى ذلك سبيلاً ، وبعد كل صلاة نأتي إلى مقام رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فنسلم عليه ، ونسأل الله خير الدعاء لنا ، ولأولادنا ، وذرياتنا ، وأحبابنا ، والمسلمين أجمعين . ولم ننس أن نؤدي أمانة من سألنا أن نسلم له على الحبيب صلوات الله وسلامه عليه
    وزرنا البقيع ، مثوى عشرة آلاف صحابي ، وكثير من آل محمد عليه الصلاة والسلام ، كما زرنا المساجد السبعة ، وجبل أحد ، وسيدنا حمزة سيد الشهداء ، ومسجد قباء ، وصلينا فيه ، ودعونا الله تعالى بكل دعوة صالحة ، كما زرنا مسجد القبلتين ، ومسجد الجمعة ، وصلينا فيهما ، ودعونا الله واستغفرناه . وكان ذلك في عشرة أيام . صلينا جميع فروضنا في المسجد النبوي ، وعدداً لا يحصى من النوافل فيه وفي المساجد المدنية الأخرى كمسجد بلال ومسجد الغمامة وسواها .
    ثم انطلقنا إلى مكة المكرمة ، وأحرمنا عند أبيار علي الواقعة على حدود المدينة المنورة ، وبلغنا البلد الحرام

    فيما يقرب من عشرة أيام ، وحين وصلنا استقبلنا أهله بالترحاب ، وأعدوا لنا مساكن تتناسب مع قدرة كل واحـد منا المالية . ورحنا نطوف ونسعى ، ونعتمر المرة بعد المرة ، ونتحلل بعد كل عمرة ، حتى إذا ما آذن وقت الحج أحرمنا بنية الحج ، يوم الثامن من ذي الحجة ، وانطلقنا إلى منى ، فبتنا فيها ليلة ، وفي صباح التاسـع من ذي الحجة سرنا إلى عرفات ، وظللنا إلى ما بعد غروب شمسه ، ثم ازدلفنا ، وبتنا في المزدلفة ، وصلينا الفجر في المشعر الحرام ، وفي صباح أول يوم من أيام التشريق جئنا إلى منى ، فرمينا جمرة العقبة ، وذبحنا وحلقنا ، وتحللنا التحلل الأصغر ، ثم توجهنا إلى الكعبة المشرفة ، فسعينا سعي الحج ، وطفنا طواف الإفاضة ، وعدنا في المساء إلى منى لنقضي فيها ليلتين ، ونرمي ما علينا من واجبات الرمي .
      
    وأضاف أبي نقلاً عن لسان خاله فقال : من الأمانة أن أقول لكم : لم تكن الحكومة الحجازية الهاشمية المسؤولة عن شؤون الحج والحجاج بالحكومة التي يرضى عنها الله ورسوله . فلقد عانينا في مكة والمشاعر المقدسة أكثر مما عانينا من وعثاء الطريق ، ولفح الحر والشمس .
    كانت مكة المكرمة أشبه بالقرية الخالية من كل وسائل الراحة والنظافة ، لقد رأينا من الذباب والهوام والحشرات ما لم نلقه في كل حياتنا ، فلا يكاد أحدنا يطرد فوجاً من الذباب وقف على طعامه أو شرابه إلا وجاء فوج آخر يقف مكان الأول ، ولا نكاد ننتهي من الذباب حتى نحس بلسعات الناموس والبعوض تشوينا وتقلينا ، كأن الحكومة لا تدري أن في الدنيا أدوية تقضي على هذه الحشرات ، وتحفظ على الناس صحتهم ، ناهيك عن أن المدينة المنورة ومكة المكرمة ما فيهما طريق واحد معبد أو ممهد لســير الناس أوضيوف الرحمن حتى الماء ، فإنه شحيح قليل ، نشتريه بأعلى الأسعار ، ومحظوظ من فاز بدلو من ماء زمزم .
    وأرض الحرم الشريف نصفها من حصى ملتهب من حرارة الشمس ، وله رؤوس كالإبر لا نستطيع المشي عليه ، ولا الجلوس فوقه ، والنصف الآخر من حجر الصوان تطلع عليه الشمس فيمص حرارتها ، فيصبح أشد حرارة من جمر النار . ونخجل من الله أن نبقى بأحذيتنا في الحرم الشريف ، فذلك من قلة الأدب والدين ، ونحن في الوقت ذاته لا نستطيع الطواف والمشي على أرض الحرم براحة وخشوع واطمئنان مع هذه الحرارة القاتلة .
    زد على ذلك أن المسعى من الصفا إلى المروة واقع في سوق ، كله دكاكين ، خارج الحرم ، هذا يبيع القماش في دكانه ، وذاك يبيع العطر ، وآخر يبيع المسابح ، والناس من رجال ونساء يمشون في هذا السوق ، ويزاحمون الساعين ، وكثير من الحمير والبغال ، والخيل تروح وتغدو بأحمالها في المسعى ، تزاحم الحجاج ، وتسد عليهم سبيل السعي بأمان وخشوع وهدوء بال .
    وكم سقط ميتاً على أرض عرفات من الحجاج عطشاً أو من ضربات الشمس ، وكذلك الأمر في منى ، ففيها كان من المعاناة ما يزيد على ما لقيناه في مكة أو عرفة . كانت روائح الذبائح المتفسخة تملأ الدنيا ، وكنا نهرب من الروائح الكريهة من مكان إلى مكان ، ويلاحقنا الذباب ، ونغوص في أرض مملوءة بأمعاء الحيوانات الذبيحة ، فتتسخ ملابسنا ، أو قل : تمتلئ بالنجاسات ، ولا ماء عندنا لنغسلها ، أو لنطهر ثيابنا .
    وقال أبي : ختم خالي حديثه لنا بقولـه : أفليس حقاً ما يقول الناس ( الذاهب إلى الحج مفقود ، والعائد منه مولود ) وهل تعجبون من هذه الاحتفالات الكبيرة لعودة الحجاج بعد أن حكيت لكم بعض ما يلاقون من أهوال وشدائد ؟ .
    والذي يهوِّن علينا احتمال ذلك كله : أن الثواب على قدر المشقة ، وأن الحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة . اللهم تقبل منا حجنا ، وارزقنا الجنة ، وأدخلنا في عبادك الصالحين .
    ومرت الأيام ، وانتقل أبي وخالي إلى رحمة الله ، وبدلت الدنيا غير الدنيا ، وراحت حكومة الحجاز الهاشمية ، وحل محلها حكومة جديدة ، تنتمي إلى آل سعود النجديين ، ولم يعد في تلك البقاع مملكة هاشمية وأخرى نجدية ، وإنما توحدت أرض الجزيرة كلها تحت لواء واحد ، وصـــارت دولة واحدة ، وأصبح اسمها الجديد : المملكة العربية السعودية ، واتخذت علماً جديداً كتبت عليه كلمة التوحيد : لا إله إلا الله ، محمد رسول الله . وكان الذي وحد أجزاءها ـ بعون الله وقدرته ـ المغفور له الملك عبد العزيز بن عبد الرحمن آل سعود .
    ألا ليت أبي وخالي بقيا حيين ، وحجا مرة ثانية ليريا الفرق الشاسع بين حج الأمس وحج اليوم .

    لقد قضى الملك عبد العزيز على أولئك اللصوص قطاع الطريق ، وشن عليهم حرب إبادة ، وخلَّص الديار المقدسة ، بل الجزيرة العربية كلها من شرورهم ، وصار الرجل يمشي في أرض الجزيرة من أقصاها إلى أقصاها لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه .
    وبعهده الميمون ، ثم بعهد أبنائه البررة من بعده عبدت الطرقات في أرض المملكة ، وغدت مسفلتة وعريضة وحديثة ، وأنشئت المطارات العالمية في جدة والرياض والظهران وغدا الأسطول الجوي السعودي من أضخم أساطيل الطيران في منطقة الشرق الأوسط ، كما غدت الطائرات التي تحمل شعار ( لا إله إلا الله محمد رسول الله ) تنقل آلاف الحجاج من بلدانهم إلى أرض القداسات بساعات معدودات ، فلا يكاد الحاج يخرج من بيته ، ويركب الطائرة ، وتطير به حيناً من زمن حتى يعلن المذيع فيها : أن شدوا الأحزمة ، فنحن على وشك الهبوط في مطار جدة الدولي .
    ومن جدة إلى مكة المكرمة يرى الحاج ما يبهج القلب ، ويسـر الفؤاد ، فالطريق من المطار إلى مكة المكرمة ، ومن المطار إلى المدينة المنورة مقسوم قسمين ، واحد للذهاب ، وآخر للإياب ، وكل منهما يتسع لأربع سيارات على مستوى واحد ، وطريق مكة المكرمة مضاء بالأنوار في الليل ، ومثله قسم لا بأس به طريق المدينة المنورة .
    فإذا ما اقترب القادم الحاج أو الزائر من العاصمة المقدسة ، بهرته الأنوار الساطعة التي تلف المدينة من أقصـاها إلى أقصاها ، فبالإضافة إلى الأنوار الإلهية التي تنبعث من البيت العتيق ، فتغمر الدنيا بلألائها ، تتـألق ملايين المصابيح الكهربائية من كل جهة ، حتى ليمكن أن ينسى الإنسان أن في الدنيا ظلاماً ، أو أن الليل قدم إلى هذه الربوع .
    ومن العجب ألا يكون في مكة المكرمة ، في موسم الحج ، وفي غير موسم الحج أثر لذبابة ، أو بعوضة ، فلقد قضت عليهما الدولة قضاء مبرماً ، وأراحت الحجاج والناس جميعاً من أذاهما ، وصرت تمشي في الحرمين الشريفين فتعجب من هذه النظافة الرائعـة ، وتشعر أن كلا الحرمين يضيئان ويشعان أناقة ونظافة ، فليس أرقى بيت في دول الإسلام أشد نظافة من الحرمين الشريفين .
    والرائع المدهش الذي يتحدث عنه كل حاج ومعتمر أنه في أشد ساعات النهار قيظاً يمشي على أرض الحرمين الشريفين ، فلا يحس بأثر لحرارة ، ولا وجود لحصـاة ، بل يحس ببرودة الرخام الأبيض ونعومته كأن برادات كبيرة وضعت أسفل منه لتمنحه هذه البرودة التي يحس بها كل من سار عليه طائفاً ، أو وقف داعياً ، أو مصلياً ، أو قارئاً في كتاب الله ، أو قعد متأملاً .
    إن الحرمين الشريفين ، حرم مكة المكرمة ثم حرم المدينة المنورة برسول الله صلى الله عليه وسلم ، يغريانك بالبقاء فيهما ليل نهار ، ويدفعانك أن تنسى الدنيا وما فيها ، بل يذكرانك بنعيم الجنة ، ورضى الله عليك . فالأنوار التي تسطع في كل مكان ، والقناديل الرائعة التي طبع عليها لا إله إلا الله ، محمد رسول الله ، والسجاجيد المترفـة التي بسطت في كل مكان ، والهواء البارد العليل الذي يلطف الأجواء ، ويشمل أرض الحرم من أقصاه إلى أقصاه ، كل هذا وسواه من النعم يغريك بالبقاء ، وينسيك نفسك ، ويصلك بعالم التقوى ، ويتركك تعبد الله وأنت في أرفع حالات الاطمئنان .
    زد على ذلك أن المسعى الذي كانت الدكاكين تملأه أيام خال أبي ، والحيوانات التي كانت تذهب وتجيء فيه ، والناس في الأسواق يزاحمون الساعين ، وأصوات الباعة التي تذهب الخشوع ، أصبح اليوم جزءاً من الحرم المكي ، وفرغت الساحات حوله من كل بناء ، ومدت أرضه بالرخام البديع النفيس ، ورسمت عليه خطوط تشير إلى اتجاه القبلة للساعي إذا دهمه وقت صلاة الجماعة وهو يسعى ، ثم سلطت عليه من كل المنافذ تيارات هواء بارد منعش ، تلطف الجو ، وتدفع كل ساع إلى العبادة الخالصة لله تعالى ، ثم إلى شكر هذه الدولة التي أعانته على أن يؤدي عبادته كما يحب الله ورسوله .
    أما ماء زمزم ففد جاء إليك بدلاً من أن تذهب إليه ، لقد وزع في براميل صغيرة ملونة ، ووضع في جميع أرجاء الكعبة بل قل وضع في كل جوانب المسجد النبوي كذلك ، إن الحكومة السعودية لم تشأ أن يتنعم حجاج بيت الله الحرام بماء زمزم وحدهم ، بل جعلوا زوار مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم يتنعمون بهذه النعمة كذلك ، فلقد نقلوا لهم على ظهر الصهاريج الكبيرة مياه زمزم ، ثم بردوها للجميع في كلا الحرمين ، ليشربها ضيوف الرحمن هنيئاً مريئاً . ثم هوَّنوا على الضيوف أن يحملوها معهم إلى أوطانهم ، وييسقوا بها كل عطشان متلهف إلى هذه النعمة المباركة في ديارهم النائية .
    وعرفات ، تلك البقعة التي حدثنا خال أبـي أن الحجاج فيها كانوا يتهاوون صرعى عطشاً أو من ضربات الشمس فقد غدت كأنها عرفات أخرى . فالأشجار الباسقة ملأت أرجاءها ، والنوافير تضخ رذاذ الماء طوال يوم عرفات ، وصنابير المياه المبردة موزعة في مكان ، اشرب منها مقدار ما تشاء ، وغسل وجهك ، أو اغسل جسمك وقتما تريد ولا حرج ، ثم حاول أن تحصي السيارات الكبيرة التي تملأ عرفات ، توزع بالمجان الماء المبرد في قوارير ، وزجاجات اللبن ، والحليب ، والفواكه الطازجة ، والأطعمة المطبوخة الطيبة ، وقوالب الثلج ، فلن تستطيع إحصاءها لأنك لن تستطيع أن تتحرك في عرفات من كثرة السيارات ، والحجاج ، والخيام . ثم ارفع رأسك إلى السماء فسترى الطائرات تحوم على عرفات طوال اليوم ، تراقب الطرقات ، وترصد كل ما يعترض راحة هؤلاء الضيوف في هذا الموقف العظيم ، وتنقل ذلك إلى المسؤولين الساهرين على راحة الناس جميعاً كما تنقل صورة هذا المشهد المفرح العظيم إلى أهلك الأقربين ، وإلى كل بيت في الدنيا ، عبر الأقمار الفضائية بل ليس من الغريب أن يشاهد هندي أو أندنوسي أو سوري أو أوربي قاعد في بيته أمه أو أباه أو صديقه على شاشة التلفزيون واقفاً في عرفات ، يدعو الله ، ويستغفره ، ويتضرع إليه .
    وماذا أحدثك عن منى في هذه الأيام ؟ لقد غدت جنة من الجنان في الدنيا ، الخيام التي كانت تشوي وتقلي الساكنين فيها ونصبت فيها الخيام الجديدة التي تقاوم النار والحريق الذي طالما شب في الخيام القديمة فأحرق كل شيء حتى الكثير الكثير من الحجاج . ودخلها التبريد المنظم المدروس ، والكهرباء الساطعة ، وعلى أطراف منى مدت الجسور ، وفتحت الطرقات ، وتلألأت الأنوار ، فكأنك في عرس ، وصار المبيت فيها محبباً وشهياً .
    وقد تسأل عن الروائح الكريهة ، والذبائح المتفسخة ، والذباب الذي كان يسد المنافذ على الناس ، لقد صار الجميع في خبر كان ، فلا ذبابة اليوم ، ولا بعوضة ، ولا حشرة ، فلقد أبيدت جميعاً ، وانتقلت الذبائح إلى مذبحين كبيرين شيدا على أحدث الطرق العالمية والصحية على أطـــراف منى ، وجلب للذبح فيهما آلاف الجزارين ، ولم تعد الذبائح ترمى على التراب وتتفسـخ ، وإنما صارت تبرَّد ثم تجلَّد بدقائق ، وتغلف بأغلفة صحية ، وتنقل بالطائرات إلى مختلف بقاع العالم الإسلامي المحتاجة إليها .
      
    يرحم الله الملك عبد العزيز ، فلولا فضل الله عليه أولاً ، ثم توحيده المملكة تحت لواء واحد ، ولولا جهاده ، وحبه الخير للناس جميعاً .. ثم سير خلفائه من بعده على سنته ، لما نعم المسلمون بهذه الأجواء الناعمة ، ولما حجوا واعتمروا براحة ويسر وخشوع .. ولكان وضع الحرمين كسابق عهده ، أيام حج خال أبـي ، وحدثنا عن تلك المآسي .
    يا ليت أبــي وخــالي كانا على قيد الحياة ليريا بأم أعينهما هذه الروائع ، وهذه الأعمال التي تشبه المعجزات .
    ليرحم الله الملك الباني عبد العزيز بن عبد الرحمن آل سعود ، وليحفظ أبناءه الذين ســاروا من بعده على هديه وسنته ، وليرحم خالي وأبي وهؤلاء الذين حجوا ، ولم يدركوا هذه النعم ، ولعل الله تعالى يثيبهم وافر الأجر على عظيم مشقتهم وتحملهم .
    حلب المحروسة :
    20ذو القعدة 1424 هـ أ. د: بكري شيخ أمين
    أمينة أحمد خشفة
    رد مع اقتباس  
     

  2. #2 رد: الحج بين الماضي والحاضر 
    كاتب مسجل الصورة الرمزية محمد الكبيسي
    تاريخ التسجيل
    Feb 2008
    الدولة
    العراق
    المشاركات
    818
    معدل تقييم المستوى
    17
    بسم الله الرحمن الرحيم 0 سلام الله عليك اخي
    قرأت هذا الموضوع وسرحت وانا اقرأ سطوره بعيدا عن المكان الذي اجلس فيه
    فقد سرت مع الحجيج من اللحظه الاولى لانطلاقهم الى بيت الله الحرام وصرت
    استحضر المواقف التي كان الحجاج يمرون بها مع انني لست معهم من خلال
    معرفتي بالاماكن التي ذكرت في المقال حيث انني شاهدتها عندما ذهبت حاجا الى


    المملكه العربيه السعوديه 0
    كان السرد جميلا ساحرآ وكنت اقارن بين الحج في ذلك الوقت والحج الذي في عهدنا
    هذا والفرق الشاسع بينهما 0 الناس كانوا يسقبلون الحجاج بالطريقه التي ذكرت على
    ان الحجاج يلاقون من المصاعب ما تجعل الناس تستقبلهم بهذه الكيفيه وكثيرا ما كان
    قسم من الحجاج يموتون في الطريق سواء كان في الذهاب او العوده 0 الغريب ان
    الحجاج في هذا الوقت يتم استقبالهم بنفس الطريقه ان لم تكن اكثر منها من الناحيه
    التنظيميه مع ان الحجاج في هذه الايام ربما يذهبون ويعودون في ثمانية ايام وفي الطائره
    وهنا تحضرني قصه واقعيه لاحد الحجاج 0 وصل الحاج الى الشام ليلا واستقل السياره التي
    كانت بأنتظاره في الشام متوجها الى حلب وصل الى مدينة حماه الساعه الثالثه بعد منتصف
    الليل فما كان من الحاج الا ان طلب من ابنه ان ينزله في مدينة حماه ويذهب هو الى حلب فيما
    ينام الحاج بأحدى فنادق حماه حتى يحين الصباح ليأتي اهله واحبائه واسقباله نهارا ليأخذوه
    الى بيته بالطبول واطلاق العيارات الناريه ليرى الناس مشهد الاستقبال ويستمتع هو كذلك بالمشهد
    مع ان كل حجته استغرقت ثمانية ايام 0
    استمتعت كثيرا بهذا الموضوع الشيق اخي الكريم وما علي هنا الا ان اقدم لك شكري وتقديري
    رد مع اقتباس  
     

  3. #3 رد: الحج بين الماضي والحاضر 
    كاتب مسجل الصورة الرمزية محمد الكبيسي
    تاريخ التسجيل
    Feb 2008
    الدولة
    العراق
    المشاركات
    818
    معدل تقييم المستوى
    17
    عذرا اختي الفاضله بنت الشهباء لم اركز على كاتب الموضوع كثيرا
    كنت اتصوران الموضوع في صفحةالوتر الحائر 0 لذا اقتضى التنويه
    شكري وتقديري واحترامي لك اختي الفاضله ولكاتب الموضوع الاستاذ
    الدكتور بكري الشيخ امين
    رد مع اقتباس  
     

  4. #4 رد: الحج بين الماضي والحاضر 
    مشرف
    تاريخ التسجيل
    May 2006
    المشاركات
    2,180
    معدل تقييم المستوى
    20
    اقتباس المشاركة الأصلية كتبت بواسطة محمد الكبيسي مشاهدة المشاركة
    عذرا اختي الفاضله بنت الشهباء لم اركز على كاتب الموضوع كثيرا
    كنت اتصوران الموضوع في صفحةالوتر الحائر 0 لذا اقتضى التنويه
    شكري وتقديري واحترامي لك اختي الفاضله ولكاتب الموضوع الاستاذ
    الدكتور بكري الشيخ امين
    لا عليك يا أخي الكريم
    محمد الكبيسي
    وأشكرك على مرورك الطيب
    وجزاك الله خيرا
    أمينة أحمد خشفة
    رد مع اقتباس  
     

المواضيع المتشابهه

  1. ملف الحج...
    بواسطة د.ألق الماضي في المنتدى إسلام
    مشاركات: 107
    آخر مشاركة: 20/11/2010, 02:41 PM
  2. من معاني الحج
    بواسطة صادق الشوق في المنتدى إسلام
    مشاركات: 1
    آخر مشاركة: 11/12/2007, 07:22 PM
  3. موسوعـــة الحج الشاملــــة ...
    بواسطة أبو شامة المغربي في المنتدى إسلام
    مشاركات: 0
    آخر مشاركة: 17/07/2007, 10:43 AM
  4. جيش من الدمع فوق الخد جرار
    بواسطة ألشاعر هيثم العمري في المنتدى الشعر
    مشاركات: 3
    آخر مشاركة: 19/12/2006, 12:24 PM
  5. كمثــــل الحي والميـــــت ...
    بواسطة أبو شامة المغربي في المنتدى إسلام
    مشاركات: 0
    آخر مشاركة: 05/09/2006, 11:20 AM
ضوابط المشاركة
  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •