1 ) الثلاثة الكبار الذين قدمهم النقاش في حديث عنه
.................................................. ..............
أثيرت في هذه الصفحة الثلاثاء الماضي ــ ضمن التحقيق الصحفي الذي تحدث فيه جيل النقاش عن فضله ــ مسألة تقديمه لثلاثة من أكبر المبدعين العرب, وهم بالترتيب الزمني لما كتبه النقاش عنهم: أحمد عبد المعطي حجازي(1959) ثم الطيب صالح ومحمود درويش في الستينيات.
وهذا الأسبوع تنشر أدب كلمات هؤلاء الكبار الثلاثة الذين اكتشفهم النقاش عنه, بعد ان استكتبتهم من القاهرة ولندن وعمان.
شعري ومقدمة رجاء مشروع مشترك
أحمد عبدالمعطي حجازي
من المؤكد أن مقدمة رجاء النقاش لديواني الأول مدينة بلا قلب هي التي قدمتني لقراء الشعر, فأنا مدين لها بالكثير, لكن بوسعي أيضا أن أقول إن رجاء النقاش مدين لهذه المقدمة بما يساوي ديني لها. فهي التي قدمته لقراء الشعر وقراء الأدب كناقد مثقف قادر علي التقاط الملامح الجوهرية المميزة وتفسير ما فيها من جمال وكسب ثقة القارئ وإقناعه بما يقول.
نعم, رجاء النقاش ناقد حقيقي. والناقد الحقيقي هو الذي يستطيع أن يتسلل إلي داخل النص ويعرف كيف تشكل. الناقد الحقيقي هو الذي يتقمص شخصية الكاتب أو الشاعر ويتمثله لحظة إبداعه ليعرف كيف أنشأ ما كتب أو ما نظم, ومن المؤسف حقا أن يختفي هذا الصنف من النقاد وأن يتكأكأ علينا من يعجزون عن الاقتراب من الشعر والانفعال به والتغلغل في متاهاته.
لكن رجاء النقاش لم يقتصر دوره في ديواني الأول علي كتابة مقدمة له. لقد نظمت معظم قصائد الديوان بعد أن تعرفت عليه وتوثقت صلتي به. قصيدة واحدة في الديوان أو قصيدتان نظمتا قبل أن ألقاه أول مرة في أواخر عام1955, يوم ذهبت إلي قهوة عبدالله في ميدان الجيزة لأقدم نفسي للناقد أنور المعداوي, الذي كانت ندوته في القهوة تنعقد كل مساء بحضور مجموعة من أصدقائه ومريديه, منهم رجاء الذي لم أكن قرأت له أو سمعت عنه من قبل, وبقدر ما ظلت علاقتي بمعظم أعضاء الندوة محصورة في الندوة, تحولت علاقتي برجاء فتجاوزت حدود الندوة وأصبح لقاؤنا اليومي أساسا في تلك المرحلة الحاسمة من حياتي.
كنت في العشرين من عمري قادما لتوي من ريف الوجه البحري أبحث عن عمل في صحافة القاهرة, بعد أن نشرت لي بعض المجلات عددا من قصائدي الأولي, وكان هو في الحادية والعشرين يطلب اللغة العربية وآدابها في جامعة القاهرة ويراسل مجلة الآداب البيروتية.
ولاشك أن مواهب رجاء لفتت إليه بعض الأنظار, لكنه حين التقينا كان لايزال بعيدا عن دائرة الضوء. وكنت أكثر بعدا وإن كانت قصائدي الأولي قد لفتت إلي أنا الآخر بعض الأنظار. في تلك اللحظة صرنا صديقين حميمين, أكتب القصيدة فيكون أول قارئ لها, ويكتب الرسالة فأقرأها وأقرأ ما بين السطور.
لقد كتبت إذن ديواني الأول في دفء هذه الصداقة. وفي هذا الديوان قصيدة عنه, وأخري مهداة إليه. وهو إذن لم يكن مجرد كاتب مقدمة لهذا الديوان, وتلك حقيقة يلمسها قارئ المقدمة, إذ يجد أن الناقد قد تقمص روح الشاعر وتكلم بلسانه. من هنا أقول إن ديواني الأول بمقدمته كان مشروعا مشتركا للشاعر والناقد معا. كان شعرا جديدا, وكان بيانا شعريا جديدا.
في هذه المقدمة التي تقع في أكثر من ثمانين صفحة شخص رجاء عالمي الشعري بوصفه تعبيرا رمزيا عن مرحلة فاصلة في تاريخنا الحديث. ويمكنني أن أشبه الدور الذي لعبته هذه المقدمة في حركة تجديد الشعر العربي, بالدور الذي لعبته مقدمة وردزورث لديوانه الأقاصيص الشعرية في الحركة الرومانتيكية الانجليزية, ومقدمة فيكتور هيجو لمسرحية كرومويل في المسرح الفرنسي الرومانتيكي.
محمود درويش
من الحب القاسي إلي نقيضه القاسي
محمود درويش
تحتفظ الذاكرة بما تنتقي, وكالنقش في الحجر تبقي مجموعة الشاعر أحمد عبدالمعطي حجازي الشعرية الأولي مدينة بلا قلب جزءا من ذاكرتي الشعرية فيها تعرفت إلي شعر جديد طازج لا يشبه شعرا آخر. وفيها ايضا تعرفت إلي قراءة نقدية سخية الاحتفاء بهذا الشعر الجديد المبهر: هي المقدمة الاحتفالية التي كتبها ناقد جديد هو رجاء النقاش.
من هذه المقدمة العلامة في العلاقة بين حركة الشعر العربي الحديث وقراءته الحديثة, بدأت علاقتي برجاء النقاش. عن بعد شفاف أتابع كتاباته بشغف المتعطش إلي الاطلاع علي مشهد الأدب العربي الجديد, حيث أقام رجاء النقاش مرصدا للتبشير والاحتفاء بالمواهب الشابة, وكصياد لؤلؤ ثاقب, احتفل رجاء برائعة الطيب صالح موسم الهجرة إلي الشمال التي شغلت جزءا من ذاكرتي الروائية.
قبل أربعين عاما, عندما كنت شابا خاضعا للاقامة الاجبارية في مدينة حيفا.. لم أتخيل أن شبكة رجاء النقاش ستعثر علي وعلي زملائي, وتنتشلنا من عتمة العزلة والحصار. كان يمكن لي أن أفرح بمقالة تنبئ القارئ العزيز بأن هناك خلف الأسوار شعبا أسيرا فيه شباب يكتبون شعرا مختلفا عما سببته هزيمة يونيو1967 من احباط عام للشعر والشعراء في العالم العربي الجريح.
لكن رجاء النقاش فاجأني بأنه كرس لي كتابا كاملا ابهجني وأحرجني, ابهجني لانه أسهم مع غسان كنفاني ويوسف الخطيب في فك الحصار عن اسمي الشعري المبتدئ.
وأحرجني لأنه لم يخضع محاولاتي الشعرية الأولي لمعايير النقد العامة, ومنحني من الكرم الأدبي ما قد يعيقني عن تطوير موهبة الشك الذاتي فيما أكتب.
آنئذ صارت لظاهرة شعر المقاومة حصانة أخلاقية تضفي علي الشعر الفلسطيني وبلا تمييز احدي صفات القداسة, وتحرم النقد من التعامل مع مستواه الجمالي. كان ذلك حبا. فان الكثيرين من العرب قد وجدوا في الظاهرة الفلسطينية الصاعدة تعويضا معنويا عن هزيمة يونيو.
وآنئذ كتبت: أنقذونا من هذا الحب القاسي. لكن هذا الحب القاسي كان في حاجة إلي وقت أطول ليشفي من عاطفته المتأججة, فامتد بي الأجل لأري أن الشاعر الفلسطيني الذي تحرر من الحب القاسي, قد تعرض للمقدار ذاته من الكره القاسي, ربما لأن علي الفلسطيني أن يبقي موضوعا للشفقة لا ذاتا تنتج وتبدع, وصار ينظر إلي الشاعر الفلسطيني من ثقب جغرافيته الضيقة فما دامت بلاده صغيرة فان أفقه الشعري ضيق.
لكن رجاء النقاش كان من أكبر المدافعين عن حقنا في النمو, حتي لو كانت بلادنا أصغر من حارة في مدينة كبيرة.
الطيب الصالح
في رثاء رجاء النقاش
الطيب صالح
الخسارة في غياب رجاء النقاش, لم تكن لمصر وحدها. إنها خسارة عظيمة للعالم العربي كله, ذلك لأن رجاء النقاش ـ رحمه الله ـ كان من الكتاب العرب القلائل الذين لم ينظروا إلي الأمور من زاوية ضيقة.
كان يتوخي في كل ما يكتب ايجاد ركائز فكرية ووجدانية مشتركة تدعم قيام روابط أوسع من( الوطن) بحدوده السياسية أو الجغرافية.
كان ذلك أمرا مهما جدا لديه, يحفزه علي ذلك أيضا طبع من السماحة والمروءة والأريحية. وقد ازدادت أهمية هذا الأمر. بعد ما بدا من هزيمة الطموحات السياسية. وهي هزيمة بلغ من قسوتها أنها زعزعت القناعات الوجدانية العميقة الكامنة في ضمير الأمة.
كان رجاء النقاش رحمه الله من أكثر المصريين إدراكا لأهمية دور مصر في تشييد هذه الرابطة الوجدانية الفكرية.
إذا كان دور مصر السياسي كما يبدو قد تعرض للضعف والانحسار, فإن دورها الروحي والفكري قد زاد تماسكا وقوة, وهو دور أجدر بالاستمرار والبقاء.
وقد كان رجاء النقاش يدرك إدراكا عظيما أن قدرة مصر في الاستمرار في دورها الذي حباها به الله في زعامة رابطة الشعوب التي تلتف حولها, أن ذلك يعتمد علي عمق إدراك مصر لأحوال تلك الشعوب.
لذلك كان هو نفسه مهتما بالفعل بأحوال كل بلد عربي. زار أغلب تلك الأقطار, وعاش فترات طويلة في بعضها, وكان يعرف المفكرين والكتاب من سائر البلاد العربية. وقد صار عن جدارة مفكرا( عربيا), لم يعد مفكرا مصريا فحسب.
ولاشك أن أناسا كثيرين سوف يحزنون علي فقده في سوريا والسودان واليمن والمملكة العربية السعودية وتونس والمغرب وموريتانيا وقطر والكويت ولبنان وسائر البلاد العربية.
سوف يحزن الناس علي فقده في هذه البلاد, ليس أقل مما يحزنون في مصر.
وكان من حسنات رجاء النقاش التي يندر وجودها عند سواه, أن الصلات الفكرية لديه كانت تتحول دائما إلي علاقات شخصية, وكأنه بذلك يضيف عمليا إلي تماسك ذلك البنيان الفكري والروحي الذي يؤمن به.
رحم الله الأخ العزيز والصديق الكريم والإنسان النبيل والمفكر الصادق الحدس الواسع الإدراك, واسأل الله سبحانه وتعالي أن يحسن عزاء زوجته الفاضلة الدكتورة هانية التي كانت له نعم المعين في حياته وفي مساعيه النبيلة وإلي بقية أفراد أسرته.
..........................................
*الأهرام ـ في 18/2/2008م.