مفهوم الأدب عند الجاحظ في كتابه البيان والتبيين/هدى قزع
مفهوم الأدب عند الجاحظ في كتابه البيان والتبيين
إعداد: هدى محمد قزع
إن المتمعن في كتاب البيان والتبيين ، سرعان ما يدرك أن هناك فكرة مسيطرة على النفس الجاحظي يمكن تلخيصها بكلمة هي الفتنة ، على اختلاف ضروبها (اجتماعية ، سياسية، اقتصادية ،ثقافية) ، وليس من قبيل المصادفة أو براعة الاستهلال أن يقدم الجاحظ كتابه بالاستعاذة من فتنة القول وفتنة العمل(1) ، فهذا دليل على واقع لا بد من أخذه بعين الاعتبار .
من هنا كان للأدب دور في غاية الخطورة لسببين :
_ أولهما : أن الأدب تأسيس ينبني على القول ، لدى أمة تفتن بالكلمة وتحتفي بها على نحو جعلها توحد بين القول والفعل (2)، بل إن القول كثيراً ما اعتبر أكثر وقعاً وأشد فاعلية من الفعل ذاته(3).
_ثانيهما : يرجع إلى ما يمتلكه الأدب من قدرة إجرائية ، لذلك أكد الجاحظ على فتنة القول، واعتبر القول بوابة مشرعة على السحر ، وهو يدعم وجهته من خلال الموروث فيورد قول رسول الله " إن من البيان لسحرا"، وكذلك قول عمر بن عبد العزيز "لرجل أحسن في طلب حاجة وتأتى لها بكلام وجيز ومنطق حسن هذا والله السحر الحلال"(4)،وقيل إن النبي قال لحسان بن ثابت :"واللَّه لشِعْرُك أشدُّ عليهم من وَقْع السِّهام، في غبَش الظَّلام"(5) .
إن الأدب يمتلك القدرة على تحلية مضمون الأدب (المعاني والدلالات) في عيون الناس وإخراجها مخرجاً يبرز معه حسنها من هنا شبه الجاحظ المعاني بالجواري والألفاظ بالمعارض ، وبهذا الاعتبار يكون الأدب قائماً على الزينة التي نضيفها إلى المعنى لا على المعنى:" أُنذِرُكم حُسنَ الألفاظ، وحلاوةَ مخارج الكلام؛ فإنَّ المعنى إذا اكتسى لفظاً حسناً وأعاره البليغُ مَخرجاً سهلاً، ومنحه المتكلم دَلاًّ مُتَعشَّقاً، صارفي قلبك أحْلى، ولصدرك أمْلا، والمعاني إذا كُسِيت الألفاظَ الكريمة،وألبست الأوصافَ الرفيعة، وتحوَّلت في العيون عن
___________________________________
(1) الجاحظ، أبو عثمان عمرو بن بحر الجاحظ ، البيان والتبيين ، تحقيق عبد السلام هارون ،مكتبة الخانجي ، القاهرة، ط7، 1998، ج1، ص3.
(2) الجاحظ ، المصدر نفسه، ج2، ص175.
(3) المصدر نفسه ، ج2، ص188.
(4) نفسه، ج1، ص255.
(5)نفسه، ج1، ص273.
مقادير صُوَرها، وأرْبَتُ على حقائق أقدارها، بقَدْرِ ما زُيِّنت، وحَسَبِ ما زُخرِفت، فقد صارت الألفاظ في معاني المعارض وصارت المعاني في معنى الجواري والقلب ضعيفٌ، وسلطانُ الهوى قويٌّ، ومَدخل خُدَع الشيطان خفيّ"(1).
وكما يمتلك الأدب القدرة على التحسين والتجميل ، فإنه في نفس الوقت يمكن أن يكون أداة يوظفها الأديب في سبيل تزييف الواقع والحقائق ذلك أن من حدود الأدب أنه " تصوير الباطل في صورة الحقّ" (2).
لكن ما كان يشغل فكر الجاحظ في المقام الأول، هو إصلاح العالم بواسطة الأدب ، فالأدب وسيلة وضعها الإنسان لإعادة توحيد الطبائع بعد اختلافها وتأليف الأجناس بعد تفرقها وذلك بتلقيح عادات ترمي إلى إنماء طبائع جديدة في الإنسان لإصلاح القديمة أو لتغييرها تماماً ""قالوا: والمشاكلةُ من جهة الاتِّفاق في الطبيعة والعادة، ربَّما كان أبلغَ وأوغَلَ من المشاكلة من جهة الرَّحِم، نعم حتى تراه أغلَبَ عليه من أخيه لأمِّه وأبيه، وربَّما كان أشبَهَ به خَلْقاً وخُلُقاً، وأدَباً ومذهَباً"(3) ،علماً بأن هذه الطبائع إذا حولت إلى مقادير الكمال والتمام (4) لا يتولد منها إلا الحسن ولا تلفظ إلا الحسن .
وفي هذا رد على التيار الفكري المنادي إلى توقيف مصير الإنسان في الحياة على أصل تركيب طبيعته الأولى وجعل الوراثة أمراً محتوماً لا يمكن التخلص منه أبداً.
و الجاحظ يتوسم بأبيات لأبي تمام(5) قاعدة تلخص الأدب شاهداً ومثلاً وهي :
كذَبْتُمُ ليس يُزهَى مَن له iiحسبُ___________________________________
إنِّي لَذُو عجبٍ منكمْ أردِّدهُ
لَجَاجةٌ لِيَ فيكمْ ليس يشبهُها
ومَن له نسبٌ عمَّن له أدبُ
فيكم، وفي عجبي مِن زَهوكم عَجَبُ
إلاّ لجاجتُكمْ في أنَّكم عَرَبُ
(1) الجاحظ، ج1 ،ص254.
(2) المصدر نفسه ، ج1 ، ص113 ، ص 220.
(3) نفسه، ج3،ص292.
(4) انظر: نفسه ،ج3، ص292.
(5) نفسه ، ج1، ص263.
فهذه الأبيات تلمح إلى ثلاثة مبادىء في الأدب هي:
_تفضيل الأدب على الحسب والنسب بمعنى تفضيل العادة على الطبيعة.
_التعجب والغرابة .
_التكرار والمجانسة.
هذه بعض الجوانب للسياق العام الذي يرد فيه مفهوم أدب عند الجاحظ ، وما يهمنا الآن الانتقال إلى السياق الخاص لحد الأدب
ماهية الأدب عند الجاحظ :
أ_ الأساس الفلسفي:
استند الجاحظ على جملة من المبادىء الفلسفية في تحديده لمفهوم الأدب ،هي:
1_العالم الصغير سليل العالم الكبير:
يقترب هذا المبدأ من الفلسفة الميتافيزيقية والطبيعية معاً، فالثاني هو الأول لأنه ناتج عنه ومنحدر منه وسليله ،أعني الشاهد الذي يمثله والصورة التي تلخصه ، والثاني ليس الأول لأنه يختلف عنه حقيقة جوهراً ، ويمكن القول أن المعاني في هذا النظام هي التي تمثل العالم الكبير أو العالم اللانهائي ، بينما الألفاظ تمثل العالم الصغير أو العالم النهائي وقد صرح الجاحظ بذلك في قوله "اعلم – حفِظَكَ اللَّه – أنّ حُكْمَ المعاني خلافُ حُكمِ الألفاظ؛ لأنْ المعانِيَ مبسوطةٌ إلى غير غاية، وممتدّةٌ إلى غير نهاية، وأسماءَ المعاني مقصورةٌ معدودة، ومحصَّلةٌ محدودة"(1).
ويقول :""الإنسانَ إنما قيل له العالَمُ الصغيرُ سليلُ العالَم الكبير، لأنّه يصوِّر بيديه كلَّ صورة، ويحكى بفمه كل حكاية ولأنّه يأكلُ النَّباتَ كما تأكل البهائم، يأكل الحيوانَ كما تأكل السِّباع وأنّ فيه من أخلاق جميعِ أجناس الحيوان أشكالاً، وإنما تهيَّأ وأمكنَ الحاكيةَ لجميعِ مخارِجِ الأمم،لِمَا أعطى اللُّهُ الإنسانَ من الاستطاعة والتمكين، وحين فضَّله على جميع
___________________________________
(1) الجاحظ، ج1، ص76.
الحيوان بالمنطق والعقل والاستطاعة، فِبطُول استعمال التكلُّف ذلَّتْ جوارحُه لذلك، ومتى تَرَك شمائلَه على حالها، ولسانَه على سجيته،كان مقصوراً بعادة المنْشأ على الشكل الذي لم يزل فيه"(1).
هل يمكن القول أن الجاحظ هنا بمفهومه للإنسان يجد شبهاً كبيراً بين اللفظ الذي ما انفك يحث على محدوديته ونهايته والإنسان نفسه ؛لأنه محدود الجسم ، ومحدود القوى .
وبما أن العالم الصغير بخروجه وانحداره من العالم الكبير قد ضلّ طريقه وزاغ عن الصواب فإنه صار لا يعبر عن كنهه ولا يدل على حقيقته ، ومن ثمّ فإن دور الأدب يتمثل بتقويم العالم الصغير وإرجاعه إلى نصابه بتثقيفه وإزالة اعوجاجه ، وما رواه الجاحظ في هذا الشأن لعلي بن إسحاق بن يحيى ،على سبيل التفكه بنوادر المجانين قد يدل على تصور لنظام الكون أو لنقل للحياة ،حيث قال" أرى الخطأَ قد كثُر في الدُّنيا، والدُّنيا كلُّها في جوف الفلَك، وإنما نُؤتَى منه، وقد تخلخل وتخرّم وتزايل، فاعتراه ما يعتري الهَرْمَى، وإنما هو مجنونٌ فكم يصبِر؟ وسأحتال في الصعود إليه، فإني إن نجرَته ورَندجْتُه وسوّيته، انقلب هذا الخطاءُ كله إلى الصواب"(2) .
والأدب في أحد معانيه هو الاحتيال لتسوية الخطا في الانسان وفي غير الانسان ، وهذا ينطبق على الكثير من الأقوال التي أوردها الجاحظ لبعض المتكلمين ، ومن ذلك قولهم: "الأدب دليل على المروءة"،أو قول يونس بن حبيب "ليس لعييّ مروءة، ولا لمنقوص البيان بهاء، ولوحَكَّ بيافوخِهِ أَعْنَانَ السَّماء"(3) .
هذه الجمل يمكن أن تفسر تفسيرين :تفسيراً سطحياً يعول فيه على المعنى المستفاد من صريح اللفظ ،وهو هنا في متناول الجميع وهذا التفسير السطحي لا طائل تحته .
وتفسيراً بعيداً خاصاً تعتبر فيه هذه الألفاظ كمصطلحات يمكن أن يدرك معناها إذا رجعنا إلى علم الكلام ومصطلحاته .
___________________________________
(1) الجاحظ، ج1،ص70.
(2) الجاحظ، ج4، ص16.
(3) الجاحظ، ج1 ،ص77.
وحينئذ يظهر لنا أن المروءة ليست فقط كمال الرجولة وإنما يقصد بها الإشارة إلى دلالة النصبة في أصناف الدلالات على المعاني الخمس ،حيث يطرد هذا المفهوم مع مفاهيم أخرى كمعنى وجسم وحقائق وغيرها التي تدل على الكائنات قبل أن تنفخ فيها الروح أو تعطي لها صورة من الصور(1).
وتصبح جملة " الأدب دليل على المروءة "معناها أن الصورة الظاهرة للكائنات تعبر عن طبائعها الداخلية أو أن الشكل الخارجي لهذا العالم يحكي حقائقه العليا في العالم الآخر .
وهذا هو مبدأ العالم الصغير سليل العالم الكبير .
فالأدب الذي هو من نتاج العقل والتدبير الإنساني لا يتنافى مع المروءة ،التي هي فطرة من الله وطبيعة من الطبائع الأولى.
ويصنف الجاحظ المروءة في منزلة المعاني ،أي منزلة العالم الكبير ، ودليل المروءة البيان ، ونقيضها العي (2).
وهنا نلمس نقطة الصلة بين البلاغة والأدب (3) ، فالبلاغة بالنسبة للأدب هي بمنزلة العالم الصغير بالنسبة إلى العالم الكبير.
2_ القول سليل العمل:
يعد الجاحظ هذا المبدأ بمثابة قانون طبيعي يكون التساوي بين القول والعمل حتمياً فيه ذلك أن "المرء لا يضيع صواب القول حتى يضيع صواب العمل" (4) ، فإذا ازداد صواب العمل ازداد صواب القول وإذا نقص الأول نقص الثاني ،وهذا ما فصّله في باب سماه "باب أن يقول كل انسان على قدر خلقه وطبعه "(5).
___________________________________
(1) تكرر هذا المفهوم 16 مرة وورد في هذه الصيغة في (ج1، ص 166، ص221 ، 245،ج2 ص173، 176 ، ج3 ص217 ).
(2) انظر: الجاحظ، ج1،ص77.
(3) يرى أحد الدارسين أن الأدب والبلاغة عند الجاحظ صنوان لا يفترقان . انظر : محمد بركات حمدي أبو علي ، دراسات في الأدب ،دار وائل ،عمان، 1999، ص33.
(4) الجاحظ، ج2، ص179.
(5) الجاحظ، ج2، ص175.
ومن ثم كان الأدب تنظيماً وتقويماً للقول والعمل معاً (1).
3_العلم أكثر من أن يحصى :
يقرن الجاحظ ذكر الأدب بذكر الضياع ، وهذا الاقتران هو الذي جعله يقرر قاعدة أساسية بنى عليها نظرته إلى الأدب ،وهي :" العلم أكثرُ مِن أن يُحصَى، فخذوا من كلِّ شيء بأحسنه" (2) .
ذلك أن العلم إنما هو المعاني ، أعني الكائنات غير المسماة والتي لا تزال مجهولة لدى الإنسان ،والجاحظ يعبر عن هذا الضياع بمفاهيم مختلفة منها اللانهاية (3) ، والإهمال (4) ، والتضييع (5) .
وتتجلى لا نهائية المعاني في مواضع عديدة نذكر منها قوله والدلالات هي التي "تكشِف لك عن أعيان المعاني في الجملة… وعمّا يكون منها لَغْواً بَهْرَجاً، وساقطاً مُطَّرَحاً" (6).
إن إسقاط المعاني وطرحها يمكن حمله على معنى اللانهاية ،لا على معنى الاحتقار وعدم المبالاة بالمعاني ،لأن المعاني المطروحة هي جميع الكائنات التي تملأ الفضاء وتعمره والجاحظ يؤكد لنا ذلك في مكان آخر بقوله :" وليس في الأرض لفظٌ يسقط البتّة، ولا معنى يبور حتّى لا يصلحَ لمكانٍ من الأماكن"(7).
فالمعاني التي كنا نظنها ضائعة مهملة أصبحت الآن تصلح لشيء من الأشياء ،بل ليس فيها ما يلغى أو يبور ،وحالها في ذلك حال الألفاظ ،لأن "سخيفَ الألفاظ مشاكلٌ لسخيف المعاني، وقد يُحتاج إلى السَّخيف في بعض المواضع،ورُبّما أمتَعَ بأكثَرَ من إمتاع الجزْلِ الفخم من الألفاظ، والشريفِ الكريم من المعاني" (8).
___________________________________
(1) انظر: الجاحظ ، ج2، ص188، ص262 .
(2) المصدر نفسه، ج1، ص404.
(3) انظر: نفسه، ج2، ص7.
(4) انظر: نفسه ، ج1،ص75، ص353، ص244.
(5) انظر: نفسه ، ج1،ص244.
(6) نفسه، ج1 ، ص76.
(7) نفسه، ج1، ص93.
(8) نفسه، ج1، ص145.
فالجاحظ يقصد بالطرح هنا ما تكون عليه الألفاظ والمعاني قبل تركيبها وتنظيمها ، بمعنى أن المعاني المطروحة لا تقابل الألفاظ لأنها هي الأخرى معنية بالطرح والسقوط وإنما يقابلها السبك والنسج والتصوير أي التركيب.
4_الطبيعة والعادة :
يوهم الجاحظ القارىء أحياناً بأنه لا يفرق بين الطبيعة والعادة ،إذ نجده يقول مثلاً "والمشاكلة من جهة الاتفاق في الطبيعة والعادة ربما كانت أبلغ وأوغل من المشاكلة من جهة الرحم " (1) ، مع أن المحقق هو أنه يفرق بينهما تفريقاً جوهرياً .
وفي الواقع هذا ما قام به الجاحظ ، فقد فرق بين الطبيعة والعادة في حديثه عن المتكلمين الذين جمعوا بين خصلتي الطبع والصنعة يقول :"فأما أربابُ الكلامِ، ورؤساءُ أهل البيان، والمطبوعون المعاوِدون…فكيف يكون كلامُ هؤلاء يدعو إلى السَّلاطة والمِراء"(2).
ويوصي في مكان آخر طالب البلاغة بقوله "ولاتُهمِلْ طبيعتَك فيستولِيَ الإهمالُ على قُوّة القريحة، ويستبدُّ بها سوءُ العادة" (3) .
وما نريد تبيانه هنا من هذا كله هو أن العادة في هذه النظرية غير الطبيعة ،أو هي الطبيعة الثانية التي يكتسبها الإنسان بجهده الخاص وبالتمرين والممارسة :
" حتى يَصير بالتمرين والتوطين إلى عادةٍ تُناسب الطبيعة" (4) .
أما الطبيعة (5) فهي الخلقة الأولى والفطرة التي يفطر عليها الإنسان ، فهي موروثه وتنشأ مع صاحبها من يوم ولادته وليس له عليها حيلة ولا اختيار فهي كاختلاف صور الحيوان الذي يأتي على قدر اختلاف الأماكن (6) .
_________________________________
(1) الجاحظ ، ج3 ص292.
(2) المصدر نفسه ، ج1، ص201.
(3) نفسه ، ج1، ص200.
(4) نفسه ، ج4،ص27.
(5) يشير محمد اليوسفي إلى أنه يمكن اعتبار الطبع لدى الجاحظ "قوة حدسية تمكن الشاعر من الإمساك بذلك القانون الخفي" محمد لطفي اليوسفي ، الشعر والشعرية الفلاسفة والمفكرون العرب ما أنجزوه وما هفوا إليه ، الدار العربية للكتاب ،1992 ص32.
ويقول أدونيس تعليقاً على رأي الجاحظ "حين يكون الشعر غريزة الشعب وفطرته فهذا يعني أنه قوام شخصيته وجوهرها"
أدونيس ،علي أحمد سعيد ،الثابت والمتحول ،دار العودة ،بيروت، ط1 ،1974 ،ج2،ص45.
(6) انظر الجاحظ ، ج3، ص294.
ويصنف الجاحظ الطبائع في طبقات متعددة منحدرة من أعلى إلى أسفل ، ومهما يكن فإنه كثيراً ما يعبر عن الطبيعة المزدوجة الوجهين والمتضمنة للخير والشر بالغريزة ، وقد وصفها الجاحظ وصفاً دقيقاً فقال :
"وإنّما يمتنع البالغ مِن المعارف مِن قِبَل أُمورٍ تَعرِض من الحوادث، وأُمورٍ في أصل تركيب الغريزة، فإذا كفَاهم اللّهُ تلك الآفاتِ، وحصّنَهم من تلك الموانع، ووفَّر عليهم الذّكاءَ،وجلَبَ إليهم جياد الخواطر، وصَرَف أوهامَهم إلى التعرُّف، وحبَّب إليهم التبيُّن، وقعت المعرفةُ وتمَّت النّعمة ، والموانع قد تكون من قَبِل الأخلاط الأربعة على قدر القِلَّةِ والكثرة، والكثافة والرِّقّة، ومن ذلك ما يكون من جهة سُوء العادة، وإهمالِ النَّفْس… ومن ذلك ما يكون من الشَّواغل العارضة، …، ومن ذلك ما يكون من خُرْق المعلِّم، وقلَّة رفق المؤدِّب، وسُوء صَبر المثقِّف"(1).
ب_ التحديد النظري لمفهوم الأدب :
لقد تحدث الجاحظ عن خصائص الأدب وأحاط بمظاهره ومميزاته المختلفة(2) ، فالجاحظ ترك لنا من النصوص ما هو كاف لإعادة صياغة تعريف للأدب .
_________________________________
(1) الجاحظ ، ج3،ص293.
(2) هل الجاحظ لم يترك تعريفاً للأدب ؟ كما ذهب إلى ذلك ميشال عاصي.
_انظر: ميشال عاصي، مفاهيم الجمالية والنقد في أدب الجاحظ ، مؤسسة نوفل ، بيروت، 1981،ط2، ص82.
أم أن الأدب :"هو الكلام الجميل شعراً كان أم نثراً " وأنه مهما دار في كتاب البيان وتعددت معانيه "فإن المعنى اللغوي الأصل يبقى ملحوظا فيه ،ودور العقل يبقى بارزاً في تكوينه والحكم عليه ،وذلك ما يجعله غير مقطوع الصلة بالأخلاق".
_الشاهد البوشيخي ، مصطلحات نقدية وبلاغية في كتاب البيان والتبيين ، دار القلم ،الكويت ،ط2 ، 1995 ، ص60، ص62،ص63.
وهل صحيح أن الجاحظ " هو صانع مفهوم الأدب عند العرب" ؟
_حمادي صمود ، التفكير البلاغي عند العرب أسسه وتطوره إلى القرن السادس ، منشورات الجامعة التونسية ، 1981 ، ص143.
وهل يمكننا أن نحدد مفهوم الأدب لدى الجاحظ فنقول :"إن الأدب عند الجاحظ هو عبارة عن علم وفن في آن واحد ،فالأدب علم لأن له موضوعاً يبحث فيه هو إصابة الحقيقة في كل شيء،وهو فن لأنه وسيلة لتلقيح عادات جديدة".
_محمد الصغير بناني ، النظريات اللسانية والبلاغية والأدبية عند الجاحظ، ديوان المطبوعات الجامعية ،الجزائر ، 1983، ص391.
أو نقول "لقد نظر الجاحظ إلى الأدب نظرتين متوازيتين ، فاعتبر الأدب مرة وسيلة إلى العلم والمعرفة حيث استعمل الشعر وسيلة في نقاشه المنطقي وكان يسمي هذا النوع من الأدب (بالشاهد )، والنظرة الغالبة على الجاحظ بالنسبة إلى الأدب هي النظرة الثانية ،اعتبر الأدب غاية يقف عندها الإنسان للتمتع واللذة فلا يريد من الشعر أو الأدب أكثر من متعته وخياله وما يترك في النفس من أثر بعيد إلى النفس جمالها واطمئنانها وسمى هذا النوع من الأدب بالأدب المقصور ،حيث تحدث عنه الجاحظ حين فاضل بين الأدب والعلم .
_داود سلوم النقد المنهجي عند الجاحظ ،مكتبة النهضة العربية ،بيروت ،ط1، 1960، ص38" وأشير هنا إلى أن الضرب الثاني"الأدب المقصور" ورد الحديث عنه فقط في كتاب الحيوان .
1_الأدب موقف من الحياة:
يمكن اعتبارما جاء في وصية عبد الملك بن صالح ،هذا الأديب الذي حفظ لنا الجاحظ نماذج من بلاغته (1) ، محاولة لتعريف الأدب ،فقد جاء في هذه الوصية بعد تعريف البلاغة بأنها "معرفة رتْقِ الكلام وفتقِه" (2) ، قوله:"جميع أركان الأدب التأتي للرفق" (3) .
وهو تعريف على فيه من الاختصار والغموض ، يحدد ماهية الأدب وموضوعه ، فالتأتي هو الطريقة التي يسلكها الأديب أو المؤدب لبلوغ غاياته وتحقيق أهدافه .
والرفق هو مفهوم يدل على الاهتمام الفني والجمالي الذي يجب أن يتوفر في كل عمل أو إجراء يقوم به الأديب ، وهو يوازي مفاهيم أخرى تحدث حولها الجاحظ وهي اللطافة واللين والحسن (4) وغيرها.
وهكذا يمكن القول أن الأدب عبارة عن الطريقة الحسنة والملائمة لتناول الأمور ومباشرتها،بمعنى انه يمكن إخضاعه لقواعد علمية وفنية .
وهناك نص آخر أكثر تفصيلاً من الأول ، وهو وصية عتبة بن أبي سفيان لعبد الصمد مؤدب ولده قال:"ليكن أوَّلَ ما تبدأُ به من إصلاحك بَنِّي إصْلاحُك نَفسَك؛ فإنَّ أَعينهم معقودة بعينك، فالحسَنُ عِندهم ما استحسنت، والقبيحُ عندهم ما استقبحت، علِّمْهم كتابَ اللَّه، ولا تُكرِهْهم عليه فيَملُّوه،ولا تتركْهم منه فيهجُروه، ثم روِّهم من الشِّعر أَعَفَّه، ومن الحديث أَشْرَفه، ولا تُخْرِجْهم من عِلْمٍ إلى غيره حتّى يحْكموه، فإنَّ ازدحامَ الكلام في السَّمع مَضَلَّةٌ للفهم، وعلِّمْهم سِيَرَ الحكماء وأخلاقَ الأدباء، وجنِّبْهُم محادَثة النساء، وتهدَّدْهم بي وأدِّبْهم دُوني، وكنْ لهم كالطَّبيب الذي لا يَعجَل بالدَّواء حتى يعرف الداء، ولا تَتّكل على عُذري، فإني قد اتَّكلتُ على كفايتِك، وزد في تأديبهم أزدك في برّي إن شاء اللَّه"(5).
وهذه التعليمات يمكن استخلاص قواعد نظرية من خلالها تلخص ماهية الأدب:
_فالأدب عبارة عن إصلاح بكل ما يقتضيه ذلك من تغيير للأوضاع القديمة الفاسدة وإبدالها
_________________________________
(1) انظر الجاحظ، ،ج1، ص334، ج2،ص109، ج4،ص93.
(2)المصدر نفسه ، ج4،ص94.
(3) نفسه ، ج4،ص95.
(4) انظر المصدر نفسه ،ج1 ص136 ،ج2 ص165، ج3 ص294، ج4 ، ص94 ، ج4 ص95.
(5) نفسه ، ج3، ص73.
بأوضاع جديدة ، وهذا الإصلاح ذاتي وموجه إلى النفس بأسلوب جمالي يراعي فيه مبدعه تمييز مواطن الحسن والقبح وتقديرها حق قدرها ،معتمداً التحبيب والإقناع ،مختاراً بعض الأشعار العاطفية التي تتناول المواضيع العفيفة ،وبعض الأحاديث التي تحث على الشرف وعلو الهمة ، وشيئاً من سير الفلاسفة وأخلاق الأدباء .
والمؤدب بكل هذا لا يتدخل مباشرة لإصلاح مؤدبه ،وهذا هو معنى التأتي والاحتيال(1).
وقد كنت ذكرت أن الجاحظ يهدف من خلال الأدب إلى إعادة إحياء الطبائع وتقويمها.
_والأدب تطبيب (2) ومعالجة ،فالمؤدب كالطبيب الذي يعالج المرضى فيجب عليه تشخيص الخلل عند المؤدبين ثم ضبط نوع العلاج الخاص بهم ،وهذا عن تصور علمي ونفسي للأدب .
_والأدب تعبير عن كفاية الذات المبدعة ،فالمؤدب يجب ألا يركن إلى الاتكال على الآخرين أو على ما يبدو له لأول وهلة من الأعذار القاهرة والأسباب الحتمية التي لاحول له عليها ولا قوة بل لا بدّ من محاولة التغلب عليها بنفسه ،وقضية التوكل مرتبطة بقضية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ،هذا المبدأ يرتبط بتحديد الأدب ،بل إن مبدأ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو مبدأ الأدب نفسه ؛لأن الأمر بالمعروف هو معنى التأتي أعني الاعتماد على الين واللطافة لتغيير الفساد ،وهكذا يكون الأدب يستمد أصوله مباشرة من التعاليم الإسلامية ،ثم إن هذا المبدأ هو أحد الأركان التي بني عليها مذهب الاعتزال ،إذ أسس هذا المذهب كما هو معلوم على خمسة أصول (3) هي التوحيد ،والعدل ،والوعد والوعيد،والمنزلة بين المنزلتين ،والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .
وهكذا تكون نشأة الأدب ذات علاقة مباشرة بقضية الاعتزال .
وقد أشار الجاحظ إلى هذا المبدأ في مكان آخر فقال على لسان محمد بن علي "أدَّب اللّه محمداً صلى الله عليه وسلم بأحسن الآداب، فقال: "خُذِ العَفْوَ وَأْمُرْ بالعُرْفِ وأَعْرِضْ عَنِ الجَاهِلِينَ"(4).
_________________________________
(1) انظر مصطلح الاحتيال ،الجاحظ، ج3 ، ص366، ص368، ج4 ، ص16.
(2) انظر مصطلح التطبيب ، نفسه، ج2 ، ص73 ، ص322، ج3 ص252، 375.
(3) انظر، حسن السندوبي، أدب الجاحظ ، ط1، القاهرة، 1931، ص99، 102.
(4) الجاحظ، ج2،ص29.
هذه هي المفاهيم التي تمكنت من استخراجها من هذا النص ، ويمكن القول من خلالها أن الأدب موقف من الحياة ، ويتسم هذا الموقف بالإيجابية والالتزام ، إذ إن صاحبه يسعى إلى التغيير والتحسين من خلال ما يتلكه من رؤية قائمة على العلم والبصيرة.
و يبدو أن الجاحظ لم يكن يفرق بين الأدب التعليمي وبين وظيفته ،فتثقيف النفس والفكر واللسان وتربيتها هي وظائف للأدب ، وهذا لا لأنه فعلاً لم يكن يميز بينهما وإنما لأنه أراد أن يصف الداء والدواء والصحة معاً.
2_الأدب تهذيب في التصرف والقول :
تطالعنا كلمة أدب حيناً بمعنى التهذيب في السلوك والتصرف ،سواء بالنسبة لما تفرضه مقامات الناس من اللياقة والتهذيب في القول المستحب والمسلك المحمود ،أم بالنسبة لمقام الشخص المتصف بالأدب ومركزه الثقافي والاجتماعي ،وكشاهد على مدلول الأدب بمعنى الالتزام بسلوكية تتفق مع المقام الاجتماعي والثقافي للإنسان ذي المكانة والمرتبة ما رواه الجاحظ عن تصرف البطريق مع مرافقيه بصورة لا تليق بمحل البطريق من السلطة والجاه قال: " وسايَرَ البِطريقُ الذي خَرَج إلى المعتصم من سور عمُّوريَّةَ، محمَّدَ بنَ عبدالملك، والأفْشِينَ بنَ كاوُس، فساوم كلَّ واحد منهما ببرذونه، وذكر أنه يرغّبهما أو يُرْبحهما، فإن كان هذا أدبَ البِطريق، مع محلّه من المُلك والمملكة، فما ظنُّك بمن هو دونَه منهم"(1)،وأما الشاهد على مدلول الأدب بمعنى التهذيب في التصرف والقول بإزاء أصحاب المكانة والنفوذ فنجده في هذا الخبر الذي يسوقه الجاحظ عن تصرف أبناء الشعب من الصنّاع أمام الخليفة الرشيد ، قال:" أحبَّ الرشيد أن ينظر إلى أبي شُعيبٍ القَلاّل كيف يعمل القِلال، فأدخلوه القصرَ، وأتوه بكلّ ما يحتاج إليه من آلة العمل، فبينا هو يعمل إذا هو بالرشيد قائمٌ فوقَ رأسه، فلما رآه نهضَ قائماً، فقال له الرشيد: دُونَك ما دُعيتَ له ؛ فإنِّي لم آتِكَ لتقُوم إليّ، وإنما أتيتُك لتعمَلَ بين يديَّ، قال: وأنا لم آتكَ ليَسُوءَ أدبي، وإنما أتيتك لأزداد بك في كثرة صوابي"(2) .
3_الأدب دليل على المروءة وزيادة في العقل (3).
_________________________________
(1) الجاحظ ، ج2،ص255.
(2)المصدر نفسه، ج2 ص261_262.
(3) تم مناقشته في ص من هذا البحث .
4_الأدب معرفة:
ترد لفظة أدب بمعنى المعرفة والثقافة خارج ميدان العلوم الدينية والفقهية ، وهذا ما نستخلصه من قول الجاحظ :" ومعنا في المجلس إبراهيم النّظَّام، وأحمدُ بن يوسف،وقُطرُبٌ النحوي، في رجالٍ من أُدَباء الناس وعلمائهم"(1)،ولربما جاءت بمعنى الثقافة العامة والمعرفة الموسوعية ،كما في قول الجاحظ :"وكان خالد بن يزيد بن معاوية، خطيباً شاعراً، وفصيحاً جامعاً، وجيِّدَ الرَّأَي كثيرَ الأدب، وكان أول من ترجم كتب النُّجوم والطِّبّ والكيمياء"(2).
وقد تأتي بمعنى الاكتناز الثقافي والاستيعاب الفكري في مقابل الموهبة والاستعداد الفطري ،كما في قولُ بعض الحكماء حين قيل له: متى يكون الأدبُ شرّاً مِن عدمه؟ قال: إذا كثُر الأدب، ونَقَصَت القريحة"(3) .
5_الأدب بيان باللغة :
يورد الجاحظ الأدب مرادفاً للبيان بمعنى توسّل اللغة سبيلاً إلى التعبير عن الذات والحقيقة ،ويعرض الجاحظ في صدد الأدب بمعنى البيان بواسطة اللغة ،مفهوماً جديراً بالتنويه ،يعتبر أن امتلاك القدرة على صناعة الأدب هي إلى حد بعيد ثمرة التمرس بقراءة الآثار ،والجهد الدائب على التعلم والتثقف ،فضلاً عن اعتباره أن جميع طاقات الإنسان هي ،كمبدأ عام ،وليدة التعلم والدربة :" والإنسان بالتعلُّم والتكلُّف، وبطُول الاختلاف إلى العلماء، ومدارَسَةِ كُتُبِ الحكماء، يَجُودُ لفظُه ويحسُن أدبُه، وهو لا يحتاج في الجهل إلى أكثَرَ من ترك التعلُّم، وفي فساد البيان إلى أكثر من ترك التخيُّر" (4).
وتجدر الإشارة هنا إلى أن الجاحظ يفصم العروة بين الأدب والأسس الأخلاقية المنطقية في تقييمه كالصدق والكذب ، ويستبدلها بمعايير مستمدة من اللغة ذاتها وقدرة الأديب على التصرف فيها وصوغها بطرائق تحقق الوظائف الفنية وإن كان ذلك على حساب مطابقة
_________________________________
(1) الجاحظ، ج2 ، ص330
(2)المصدر نفسه، ج1 ص328.
(3) نفسه ، ج1 ص86.
(4) نفسه، ج1 ،ص86.
النص للواقع "قال: وقلت لِحُبَابِ: إنّكَ لتكْذِبُ في الحديث، قال: وما عليك إذا كان الذي أزيدُ فيه أحسنَ منه، فواللَّهِ ما ينفعُك صدقُه ولا يضرُّك كذبُه، وما يدور الأمرُ إلاّ على لفظٍ جيِّد ومعنىً حسن" (1).
ومن هذا المنظور يتحول اهتمام منشىء الأدب عن علاقة كلامه بما هو خارج عنه إلى الكلام ذاته ،وطريقة نسجه ، ولا شك أن عملاً من هذا القبيل يتطلب وعياً بقدرات اللغة يفضي بصاحبه إلى اختيار أشدها ملاءمة.
6_الأدب صناعة الكتابة ومهنة القلم :
من بين معاني الأدب عند الجاحظ معنى يشير إلى مهنة القلم وصناعة الكتابة ،وهو المعنى الذي استقرت عليه لفظة الأدب فيما بعد ،وذلك واضح في قوله : " فإن أردت أن تتكلف هذه الصناعة، وتُنسَب إلى هذا الأدب، فقرضتَ قصيدةً،أو حبَّرت خطبة، أو ألّفْتَ رسالة…"(2) .
ويتضح هذا المفهوم أكثر فيما أثبته الجاحظ عن نفسه وخادمه إذ قال :" وابتعت خادماً كان قد خدم أهل الثروة واليسار وأشباهَ الملوك، فمرَّ به خادم من معارفه ممن قد خدَمَ الملوك فقال له: إن الأديب وإن لم يكن ملكاً فقد يجب على الخادم أن يخدُمه خِدمةَ الملوك، فانظر أن تخدُمه خدِمَةً تامة، قلت له: وما الخدمة التّامة؟ قال: الخدمة التامة ؟… أن يكون إذا رأى مُتَّكَأً يحتاج إلى مخَدَّةٍ ألاَّ ينتظر أمرَك، ويتعاهدَ لِيقةَ الدَّواة قبل أن تأمرَ أن يصبَّ فيه ماءَ أوسواداً، وينفُضَ عنه الغُبارَ قَبْلَ أنْ يأتيَك به، وإنْ رأى بين يديك قرطاساً على طَيِّه قطع رأسَه ووضَعَه بين يديك على كَسْرهِ"(3).
7_الأدب رواية الشاهد والمثل :
نتساءل ما يقصد الجاحظ بالشاهد والمثل ؟
_________________________________
(1) الجاحظ ، ج2 ،ص339.
(2) نفسه، ج1، ص203.
(3) نفسه ، ج2 ، ص331.
إن بعض النصوص التي أورد فيها الجاحظ هذين المفهومين قد تترك القارىء يتوهم أنه لا يفرق بينهما ولا يجعل بينهما أي تمايز ،ولكن في الحقيقة الجاحظ لا يخلط بينهما أبداً .
ولو أردنا أن نلخص في عبارة وجيزة هذا الفرق لقلنا أن المثل عند الجاحظ هو الصورة الأصلية التي تتضم في ربقتها كل الصور ،أما الشاهد فهو تجسيد لصورة من الصور في حيز المكان والزمان ،ولذلك كثيراً ما نجد الشاهد يرد بمعنى الحضور والوجود "وأبصر الشاهد عياناً" (1) .
وبدل "مثل" كلفظ مزاوج له نجد الغائب كقوله " قد كَفيت الشَّاهد والغائب"(2) .
إن التمييز بين الشاهد والمثل مهم وقد يدلنا على بعض الاتجاهات الأدبية السائدة آنذاك ،والتي كانت تشترط في الأدب أن يتوفر فيه بالإضافة إلى عنصر الخيال ،عنصر الحقيقة والواقع يقول " ولم أرَ غايةَ رواةِ الأخبار إلاّ كلَّ شعرٍ فيه الشاهد والمثل" (3)، لأن الشعر الذي يشتمل على الشاهد والمثل هو الذي يتناول الوقائع اليومية والحقائق الشاهدة .
ولهذا لم يشتهر حسب الجاحظ شعر كل من صالح عبد القدوس وسابق البربري ،لأنه كان كله أمثالاً وليس فيه من الشواهد الواقعية ما يقربه من الناس ومن حياتهم اليومية (4)، لكن ما تجدر الإشارة إليه هنا هو أن في كلام الجاحظ ما يدل على أن الشواهد قد تصبح أمثالاً إذا كانت في نفس الوقت الذي تعبر فيه عن الواقع تلخص حقيقة من الحقائق العليا ،كما نشاهد في كلام الرسول عندما قال لا "تنتطِح فيه عَنْزَان"وكلام عدي بن حاتم في قتل عثمان :" لا تَحْبِقُ فيه عناق "،"فلم يَصِرْ كلامهُ مَثَلاً، وصار كلامُ رسول الله صلى الله عليه وسلم مثلاً " (5).
وفي مكان آخر يؤكد الجاحظ على مفهومه السابق للأدب مكرراً على لسان غيره أن قوام الأدب تقديم الشاهد والمثل :"وقال محمّد بن عليّ بن عبد اللَّه بن عباس:كفَاكَ مِن عِلْمِ الدين أن تعرِف ما لا يسَعُ جَهلُه، وكفاك مِن علم الأدب أن تروِي الشّاهدَ والمثل"(6) .
_________________________________
(1) الجاحظ، ج3، ص29.
(2) نفسه، ج2، ص88.
(3) نفسه، ج4 ،ص24.
(4) انظر:المصدر نفسه، ج1 ، ص206.
(5) نفسه، ج2 ، ص16.
(6) نفسه، ج1، ص86.
ج_التحديد الإجرائي للأدب :
يشير الجاحظ إلى أن تغيير الغرائز يتم بادخال عادات جديدة عليها ،من خلال أربعة مبادىء هي :
_التلقيح والمذاكرة.
_التكرار والاعادة.
_المؤانسة والتأليف وما في معناها.
_الحسن.
1_مبدأ التلقيح والمذاكرة:
إن الأدب في نظر الجاحظ هو عبارة عن عملية تلقيح لطبائع جديدة يقوم بها المؤدب نفسه، ، وذلك إما لإصلاح الطبائع القديمة الفاسدة أو لبعث طبائع جديدة في قلب أو صدر المريد يقول : "ورأيت عامّتَهم لا يقفون إلاّ على الألفاظ المتخيَّرة، والمعاني المنتخَبة، وعلى الألفاظ العذْبة والمخارج السَّهلة، والدِّيباجة الكريمة،وعلى الطبع المتمكِّن وعلى السَّبك الجيِّد، وعلى كلِّ كلامٍ له ماءٌ ورونق، وعلى المعاني التي إذا صارت في الصدور عَمَرتها وأصلحتها من الفَساد القديم" (1) .
أو"متى شاكل أبقاك اللّه ذلك اللفظُ معناه؛ وأعرب عن فَحواه…كان قميناً بِحُسن الموقع، وبانتفاع المستمِع…لاَّ تزالَ القلوبُ به معمورةً، والصّدورُ مأهولة"(2) .
والجاحظ ليعبر عن هذه العملية يلجأ إلى مصطلحين اثنين :التلقيح والمذاكرة.
وقد استعمل التلقيح بمعنى دس الدسائس وتدبير المؤامرات السياسية ،فوزير سابور الأكبر الذي كان قد اقتبس أدباً من أدب الملوك دبر مؤامرة كانت نتيجتها الحرب فلما تلاحمت
_________________________________
(1) الجاحظ، ج4، ص24.
(2) نفسه ،ج2، ص8
أعضاء الأمور التي لقح استحالت حرباً عواناً (1)، وفي مكان آخر عبر عن اقتباس بعضهم لكلام غيرهم لتلفيق كلامهم فقال :"أخذ عبيد الله مواعظ الحسن ورسائل غيلان فلقح منها كلاماً"(2) ،ولكن المصطلح جعل خاصة لتلخيص عملية الأدب ذاتها ،فمذاكرة الرجال تلقيح لألبابها (3) ولقاح المعرفة دراسة العلم (4) .
والنتيجة الهامة التي تستنتج من هذه الأمثلة كلها هي أن الأدب موجه خاصة للقلوب(5) فالقلب هو المقصود بهذا التلقيح ،وقوله "مذاكرة الرجال تلقيح لألبابها" ، يؤكد هذا التفسير ويبين أن الغاية التي يسعى إليها من وراء الأدب ليست العلم وإنما المعرفة .
أما مصطلح التذكير(6) ، فهو وإن كان يورده بمعنى رواية الأخبار أو سماعها أو حفظها ،إلا أن السياق العام الذي يطرد فيه يشف عن أبعاد أخرى قد يكون الجاحظ يرمي إليها.
يظهر ذلك من خلال بعض النماذج التي أوردها لمحمد بن علي بن عبد الله بن العباس وعلق عليها بقوله :"وهذا كلامٌ شريفٌ نافع، فاحفظوا لفْظَه وتدبَّرُوا معناه، ثمّ اعلموا أنّ المعنى الحقيرَ الفاسدَ،والدنيَّ الساقط، يعشِّش في القلب ثم يَبيض ثم يفرِّخ، فإذا ضَرَب بجرِانِهِ ومَكَّن لعُروقه،استفحل الفساد وبَزَل، وتمكّن الجهل وقَرَحَ" (7).
ويقول في موضع آخر"إذا كان المعنى شريفاً واللفظُ بليغاً، وكان صحيح الطبع بعيداً من الاستكراه، ومنزَّهاً عن الاختلالِ مصوناً عن التكلُّف، صنَعَ في القُلوب صنيعَ الغَيث في التُّربة الكريمة"(8).
يبدو أن المذاكرة تأتي على لسان الجاحظ بمعنى الجمع والمزج بين جنسين مختلفين ، وهذا المزج يؤدي إلى تغيير الطبيعة الأولى تغييراً صالحاً إذا كانت المادة الممزوجة من معدن صالح ، وتغييراً فاسداً إذا كانت من معدن فاسد .
_________________________________
(1) انظر: الجاحظ،ج3، ص368.
(2) المصدر نفسه، ج3، ص295.
(3) انظر :نفسه، ج1، ص159.
(4)انظر: نفسه، ج1، ص94.
(5) يقدر الجاحظ دور الانفعال الأصيل المتفرد في صناعة الشعر إذ قال "لا بدّ للمصدور أن ينفث " نفسه، ج1 ص46.
(6) انظر مصطلح التذكير ،المصدر نفسه ،ج1 ، ص163، 170، 274 ،297، 298، 378، 396،ج2 ص186 ،340، ج3 ص5،7، ج4 ص24 .
(7) نفسه ، ج1، ص85.
(8) نفسه، ج1، ص183.
2_التكرار والإعادة :
الأدب عند الجاحظ ضرب من التكرار والإعادة بهدف تنشيط العواطف ، والعادة التي تحدثنا عنها سابقاً تتضمن في حد ذاتها معنى التكرار ، و الجاحظ يعبر عنها بمشتقاتها كالمعاودة والاعتياد وغيرها من الألفاظ التي تدل على معنى التكرار ،يقول الجاحظ :
"لا تكُدُّوا هذه القلوبَ ولا تُهمِلوها…وعاوِدُوا الفِكرةَ عند نَبَوات القلوب، واشحَذُوها بالمذاكرة، … فإنّ مَن أدام قرع البابِ وَلَج"(1).
3_المؤانسة والتأليف وما في معناها :
وهي معان تتضمن معنى التكرار والمزاولة لكن بعضها فيه تأكيد على الجانب العاطفي الذي يعبر عنه بمفهوم المحبة ، وهو إحدى دعائم الأدب:"فالنفوسَ لا تجود بمكنونها معَ الرّغْبة، ولا تُسْمحِ بمخزونها مع الرّهْبة، كما تجود به مع الشَّهوة والمحبّة" (2).
والمجالسة والمصاحبة والألفة والمؤانسة وما في معناها يؤتى بها للدلالة عن الاتصال الذي يقع بين المتجاورين ويؤدي إلى تأثير أحدهما في الآخر ، وهو مبدأ يلاحظ في العلاقات الاجتماعية بين الناس ،كما يلاحظ في العلاقات اللغوية بين المعاني والألفاظ ،وحتى بين الأمور التي نقوم بها أو نشاهدها في حياتنا اليومية قال :"ولو جالَسْتَ الجُهّالَ والنَّوْكى، والسُّخَفاءَ والحمقَى، شهراً فقط، لم تَنْقَ من أوضار كلامهم، وخَبَال معانيهم…والإنسانُ بالتّعلُّم والتكلُّف، وبطُول الاختلاف إلى العلماء، ومدارَسَةِ كُتُبِ الحكماء، يَجُودُ لفظُه ويحسُن أدبُه" (3) وقال:" فإن أراد صاحبُ الكلام صلاحَ شأن العامَّة، ومصلحةَ حال الخاصَّة، وكان ممَّن يعُمُّ ولا يخُصّ، وينصح ولا يغُشّ، وكان مشغوفاً بأهل الجماعة، شَنِفاً لأهل الاختلاف والفرقة، جُمعت له الحظوظُ من أقطارها، وسِيقت إليه القلوبُ بأزِمّتها، وجُمعت النفوسُ المختلفة الأهواء على محبَّته"(4) .
_________________________________
(1) الجاحظ، ج1، ص274.
(2)نفسه، ج1، ص138.
(3) نفسه، ج1، ص86.
(4) نفسه، ج2، ص8.
4_مبدأ الحسن:
يلجأ الجاحظ إلى الحسن ليضيفه إلى مفهوم الأدب ومشتقاته فنراه يردد عبارات كأحسن الأدب(1) وأحسن الآداب (2) وحسن التأديب(3) ويحسن أدبه (4) ،ويضاف حسن إلى أدب للدلالة على الجانب الجمالي فيه ، وبما أن لفظ أدب في هذه الحالة ليس إلا الطريقة التي يسلكها المؤدب أو الأديب لبلوغ غايته في تناول الأمور، فإن حسن الأدب تضيف إلى مدلولها معنى اللطافة والحذق والذكاء مما هو دليل على العقل والعلم معاً،وحسن الأدب يؤتى به لمقابلة السلوك الخشن أو التصرف عن جهل .
ويبدو أن علاقة الأدب بالحسن أصبحت علاقة عضوية في ذهن الجاحظ فكلما ذكر الأدب ذكر الحسن او ما ينوب عنه من الألفاظ مثل جمال أو زين أو لطف وغير ذلك .
وهذا ما يمكن مشاهدته في قوله :"مدَحَ رجلٌ قوماً فقال، أدّبَتْهمُ الحكمة، وأحكمَتْهم التَّجارِب… فأحسَنُواالمقال، وشَفَعوه بالفَعال"(5)،وفي قول عبد الملك بن صالح "أدَّيت الحقَّ إلى اللَّه في تأديبك، فلا تُغفِلنَّ الأخذَ بأحسنها، والعملَ بها" (6) .
وإذا كان الأدب في بعض النصوص يظهر على أنه حسن القول والعمل معاً فإن كثيراً من النصوص لا تذكر إلا الجزء الأول ،وقد يدل هذا على تطور في المفهوم واتجاه به نحو ما سيخصص له أعني حسن القول فقط ،ويمكن ملاحظة ذلك في نص كهذا :قال :" تكلّم جماعةٌ من الخطباء عند مَسلمة بن عبد الملك، فأسهبوا في القول، ثم اقترح المنطقَ منهم رجل من أخْريات الناس، فجعل لا يخرُج من حسنٍ إلاّ إلى أحسَنَ منه"(7)، والخروج من شيء إلى شيء هو طريقة أهل الأدب، ويعجب الجاحظ إعجاباً شديداً بقول علي بن أبي طالب " إن قيمة كل امرىء ما يحسنه" (8).
إن مفهوم حسن القول لدليل قوي على امتداد مفهوم الأدب الجاحظ من عناصر داخلية،وهذا الفهم من الجاحظ يتفق من المذاهب الأدبية الحديثة ،مايسمى بمذهب الفن للفن .
_________________________________
(1)انظر: الجاحظ ،ج2،ص156، ص322 .
(2) انظر: المصدر نفسه، ج2 ،ص29.
(3) انظر : نفسه ،ج2، ص174.
(4) انظر : نفسه، ج1، ص86.
(5) نفسه ،ج4،ص92.
(6) نفسه ،ج4، ص95.
(7)نفسه، ج2، ص79.
(8) نفسه، ج1، ص83.