"سيدة المكان "
تهادت وهي تضع وجهها في مواجهة وجهي , حدقت في عينيها الخضراوين ليكمل وجهها اللوحة المطرزة على ثوبها المخملي وغطاء رأسها الأبيض المزركش بالحرير الأخضر "الجنزاري"برسوم الكرمة والزيتون في عينها المطرزتان أيضاً باللون الأخضر المائل إلى زرقة البحر.
تركت يدها تسندل على راسي الصغير لأجد اكفها الناعمة تطوف وجهي الملوح بأشعة الشمس , حملقت فيها دون حراك مني لتسألني بلهجتها
: ما اسمك يا حبيبي ؟؟
قلت لها : شعيب .
سالت :
حبيبي وأين أمك ؟
تدخل الشهبندر ليؤكد لها أنني لا اعرف إلا اسمي وإنني من الحجاز وعليها استضافني بضع أيام 0
رحبت سيدة المكان بالفكرة وأخبرته انه قد أحضر لها أجمل هدية , وما كنت ادري ما الجميل في سحنتي المشوية بأشعة الشمس وساقاي النحيلين وشعريّ الأشعث .
واستأذنت رجل البيت دقائقاً لتسحبني معها الى الغرفة المجاورة المليئة بخيرات الله فعرفت انها غرفة" المأونة " ومكان تجهيز الطعام , خلعتني حذائي المهترئ وراحت تلاطفني حتى سخن الماء اللذي وضعته على النار الموقدة وطلبت مني ان اتخذها اماً لحين عودتي لامي ، لذت الى صمتي لتعرف موافقتي على طلبها .
بدأت تبريد الماء بنقل الساخن الى البارد وجسه ان كان مناسباً لاسقاط القذارات العالقة بجثتي، جزعت قليلاَ عندما حاولت نزع ثوبي عن بدني وأبديت معارضة خجلة فذكرتني انني بمقام ولدها طالما انني قبلت ان تكون امي وكان علي الانصياع لاوامرها فوجدتني عارياً واولد من جديد .
تثنيت على نفسي خجلاً منها ومن عظامي الناتئة من جلدي ومن ساقاي الهزيلان بينما راحت تنقل الماء الفاتر على قطعة الليف وتفرك الصابون لتنساب رغوته على رقبتي فشعرت بالدفء والحرارة تجتاحني كلما فركت جسدي بتلك الليفة حتى أسقطت كل ما علق بي من دنس .
وانتهت بفرك فروة راسي قبل ان تنهي طقوس نظافتي الجديدة ثم لفتني بقطعة قماش كبيرة وأجلستني بالقرب من الموقد موصية ان التزم المكان ريثما تتدبر لي شيئاً يسترني وراحت تفتح الدواليب الصغيرة المليئة بالملابس وأخيراً اخرجت ثوباً البستني اياه قائلة انه ثوب ولدها محمد الذي ختن به عندما كان طفلاً قبل ان يذهب الى الخدمة العسكرية في اسطنبول وها هو اليوم من نصيبي بعدما خبأته السيدة لابن ولدها محمد .
هدهدت لي كحمامة حجازية وهي ترتب شعري وتقول ان ثوبي واسع قليلاً ولاكنه مؤقتاً حتى الصباح وانها ستخبر سيدها لشراء ثوب جديد .
شعرت بارتياح يجتاحني وتناسيت وسع الثوب وتركتها ترتب شعري بيدها ومن ثم بمشطٍ من العاج , ثم اجلستني تحت احد الاغطية ريثما حضرت طعام العشاء لسيد المكان .
اعدت وليمة خلتها على شرفي وانا المرتدي ثوبي الجديد في هذا العالم الجديد وزينة الاطباق الصغيرة على طبق القش الكبير المستدير الصنعة والمزركش بالالوان لأتسائل ما لهذه المدينة كل شيء فيها مزركش ؟
اعادت لفي بقطعة القماش الكبيرة قبل ان تحملني الى غرفة سيد المكان لأجده وقد بدل ثيابه وخلع عمامته وقد جلس الى طاولة مستديرة زركشت هي الاخرى ، غابت السيدة لحيظات قبل ان تطل علينا بطبق القش الكبير الذي توسط طاولتنا المستديرة .
ترددت بادىء الامر مدفوعاً بخجلي الذي تبخر بعدما لاطفاني وأطعماني بضع لقيمات في فمي ومدحاني ومدحا يومي عليهما ، تشجعت من حديثهما ورحت التهم اشياء لا اعرفها اغلبها ولفتني عناقيد العنب الخليلي التي تقارب حجمها البلح الطائفي مذاق العسل وراحا يتسامران في قصتي من جديد ليطلبا مني في النهاية ان اندس الى فراش اعدته السيدة خصيصاً وقرأت علي المعوذات وهدهدت لي قليلاً يسرفني النوم من العناء لأخلد للنوم .
أفقت على صوت الأواني التي تملأوها سيدة المكان بالماء وضرب "البريموس" الذي يعمل على وقود الكاز الذي كلما ضربته من جنبه تحول لون اللهب من اللون الى اللون الاحمر مصدراً هديراً مشابهاً لخرير الشلال في واحة ديرتنا البعيدة .
لحظات من التامل في عالمي الجديد اخترقها صوت الاذان يخبرني بقرب المسجد تخللة صوت سيد المكان يستعيذ بالله من الشيطان الرجيم وداعياً ان يكفيه الله شر بني آدم والاعين الحاسدة .
نهض من فراشه والقى تحية الصباح على سيدة المكان مشمراً عن ساعديه الابيضين ويبداء بالوضوء لاصطحابه الى المسجد الابراهيمي القريب من المنزل وأخبرني انه لا صلاة لجار المسجد الى في المسجد نهضت من فراشي وبدأت بغسل يدي وبدأ يساعدني ويعلمني الوضوء ووجوب الشكر لله الذي يغيثني في صباحه الجديد .
ارتدى" قمبازه" وعمامته البيضاء وأخذ بيدي وطلب مني مرافقته الى المسجد قبل اقامة الصلاة وسرنا عبر الطرق الضيقة لنخرج الى باحة المسجد الكبير مخبرني ان هذا هو مسجد ابينا ابراهيم عليه السلام القادم من الحجاز هو الاخر .
فتسائلت ببرائة الاطفال إن كان علي انا الاخر بناء مسجد كوني حجازياً فرد وهو يبتسم ان شاء الله .
وصلنا احد الابواب المشرعة درفاتها الخشبية الضخمة , طلب مني الدخول بقدمي اليمنى ففعلت كما فعل .
اقام الامام الصلاة بصوته الرنان وتبعناه في صلاته وسلمنا عن اليمين والشمال لنصلي ركعتي السنة فرادى قبل ان نقفل عائدين حيث اتينا لنجد سيدة المكان وقد رتبت طاولتها المستديرة واطباقها واوانيها الفخارية والنحاسية ، وزكرشت المائدة من جديد بالسمن واللبن وزيت الزيتون والزعتر وشراب الشاي الساخن والخبز الطازج الخارج للتو من الطابون نجدين ورديين هو الآخر .
بدأنا باسم الله وانهينا بالحمد واخبرني سيد المكان انه علي البقاء مع السيدة الجميلة سحابة هذا اليوم واذا طراء جميل فانه سيرسل علياً الذي يعمل في حانوته لإصطحابه اليه
خرج الشهبندر تاركني وايا صا متوكلاً على الله مجدداً الدعوة بان يكفيه الله شر بني آدم
اما السيدة التي اخذت تلاحقني وهي تعيد الاطباق شبه الفارغة الى الغرفة الاخرى وانا ما زلت على جلستي حررت قيود خجلي فرحت احمل الاشياء الصغيرة الى الغرفة الاخرى نظفت المكان رافعة اردان ثوبها لتكشف عن سواعدها البيضاء .
جلست بجواري وبدأنا اللعب واشعلنا الفحكات نزيد من روعة المكان حتى علت الشمس المشرق اذرعاً معدودة .
دبت الحياة في الفناء فخرجت دجاجات سيدتي والديكة من اماكنها واعلينا سطح المنزل حاملين الذرة والكرسنة للحمام قبل ان ينزل الخان وننظف حضيرة الغنم التي يحتفضون بها للحليب ومشتاقة بعد ان اخذها راعي المدينة للرعي .
اصطحبتني الى الحقل المجاور ذي اشجار الزيتون والتين والعنب لأشاهد عنب الخليل السكري في موطنه واجبت على سؤال طالما راودني من اين للعنب كل هذه الحلاوة فعرفت انها من جمال سيدة المكان وطيبتها .
ملئنا نصف سلتنا المصنوعة قشاً عنقودين من العنب السكري والآخر حماطاً حضرياً ساعدتها في التقاطه بعدما عرفت علامات نضجه ورحت اتسلق بساقاي النحيلين ججر التين الكبير في حاكورة سيدتي وعدنا ادراجنا للمنزل وسلتنا على رأسها كشجان الاعمدة العالية في المسجد الابراهيمي .
انزلت سلتنا وجلست بالارض ماسمحةً جبينها المتصبب عرقاً واستلقت على السجادة الزاهية الالوان تستعيد قواها الخائرة .
نهاية الحلقة الثانية