د. تيسير الناشف
البيئة العالمية الراهنة حافلة بالمستجدات والتحديات القومية والفكرية والثقافية والحضارية. ولا بد من أن يتفاعل الإنسان مع هذه البيئة. ويمكن أن يكون التفاعل إيجابيا، أي أنه يؤثر وهو يتفاعل، أو سلبيا، أي أنه يتعرض وهو يتفاعل لتأثير آخرين فيه. وبالتالي من السليم من منظور ممارسة التأثير أن يكون التفاعل إيجابيا. وكلما ازداد الانسان وعيا ارتفع احتمال أن يزداد تفاعله إيجابية. وكلما قل وعي الإنسان ارتفع احتمال أن يتعزز حضور العنصر السلبي في تفاعله.
التفاعل الإيجابي مع البيئة معناه الحضور السياسي والفكري والحضاري الفاعل على مستوى البيئة الإقليمية أو الدولية. ونحن الناطقون باللغة العربية ينبغي أن يكون لنا حضور سياسي وفكري وحضاري فاعل ويعتد به على هاتين الساحتين. وحتى يكون لنا هذا الحضور ينبغي لنا أن نكون متفاعلين تفاعلا إيجابيا قويا ومستمرا مع هذه البيئة.
وعن طريق تفاعلنا الإيجابي تتجلى شخصيتنا الفردية والجماعية ونفصح عنها ونوكد عليها ونجعلها ملموسة مجسدة. تجلي شخصيتنا الجماعية من شأنه أن يعني تجلي إرادتنا الجماعية وتجلي خصائصنا وإبداع المبدعين منا في مجالات العلم والفلسفة والفن. وتجلي شخصيتنا الفردية من شأنه أن يعني تحقيق الفرد لذاته وتكشف الإبداع الفكري والفني ومحافظته على كيانه وكرامته.
وتجلي الشخصية الفردية والجماعية من شأنه بدوره أن يسهم في تحقيق التفاعل الايجابي على الساحة العالمية.
الحضور العربي على الساحة العالمية من شأنه أن يعني عدة أشياء. من شأن الحضور السياسي العربي أن يعني قدرة العرب على ممارسة التأثير على هذه الساحة لتحقيق أغراض ينشدونها. والمعنى المعتمد للسياسة في هذا المقال هو إيجاد القدرة على ممارسة التأثير ابتغاء تحقيق غرض معين. وبالتالي لا يوجد حضور سياسي بدون توفر القدرة على ممارسة التأثير.
والحضور الفكري والثقافي والحضاري والسياسي العربي من شأنه أن يعني زيادة إشاعة استعمال اللغة العربية في شتى أصقاع العالم، وإشاعة استعمالها من جانب المسلمين غير العرب، ونشوء الفلاسفة والعلماء العرب في مخنتلف ميادين المعرفة الذين يضعون مؤلفاتهم باللغة العربية والذين تترجم مؤلفاتهم إلى لغات كثيرة، وإجراء الباحثين العرب للبحوث الجادة المعتبرة وهم متحررون من الضغوط أو القيود المالية والاجتماعية والنفسية.
ومن المنظور الطبيعي والإنساني والإجتماعي والفكري والحضاري من السليم أن يحدث التطور الطبيعي لعملية الفكر والنقد والإبداع وأن يشجع الاندفاع أو الزخم الفكري والنقدي والإبداعي. وحتى يحدث هذا التطور وحتى يحقق هذا الزخم من الضروري توفير مناخ من حرية التعبير وحرية الإنطلاق والإبداع الفكريين.
والانطلاق والإبداع الفكريان لا حدود لهما. هذه حقيقة يجب إدراكها وقبولها. ويمكن دائما أن يتجاوز المبدعون في كل المجالات ما بلغه الذين سبقوهم. ونبغ وينبغ في صفوف كل شعب المبدعون البارزون المتفوقون المتميزون في مجالات الفكر والفن والأدب. وحتى تبقى إمكانية أن يحقق كل امرئ إمكانه الإبداعي من الممكن تجاوز ما حققه آخرون من وجوه الإبداع. ومن شأن عدم إدراك ذلك أن يكون عاملا هاما في تقييد الإنطلاق الإبداعي، إذ حتى تتهيأ للإنسان دواعي الإبداع وفورته واندفاعه ينبغي أن يكون محررا نفسيا من التفكير أو الشعور بأنه لا يستطيع أن يتجاوز ما بلغه آخرون في مجال الإبداع. هذا التحرر النفسي يمد الإنسان بقوة نفسية وفكرية وعاطفية دافعة إلى الإنطلاق الإبداعي. والأفراد المحررون نفسيا من هذا التفكير أو الشعور هم الأفراد الذين من الأسهل عليهم أن ينطلقوا فكريا ونفسيا وعاطفيا وأن يرسموا آثارهم على سجلات الفكر والأدب والفن العالمية، وهم الذين تقل لديهم القيود على نشاطهم الإبداعي، وهم الذين حلقوا وأبدعوا فكريا وفنيا، فجاء إبداعهم شعرا ونثرا وفلسفة وموسيقى ورسما ونقدا وغناء ورقصا تشهد هي كلها على عظمة وتميز فن وفكر هؤلاء المبدعين.
والشعب والدولة اللذان يريدان تحقيق التقدم الفكري والانطلاق الفكري هما الشعب والدولة اللذان يكونان حريصين على امتطاء الفارس لصهوة الجواد. ينبغي أن يكون ذلك الهدف الأمثل الذي يسعى المغني إلى تحقيقه بغنائه ويسعى الشاعر إلى تحقيقه بشعره ويسعى الفيلسوف إلى تحقيقه بفلسفته وبسعى العالم إلى تحقيقه بعلمه وتفعيل ملكة فكره. هذا السعي لتحقيق ذلك الغرض هو أحد محفزات المرء على الإبداع الفكري ليمتطي صهوة الجواد أو ليصل إلى ليلى الحبيبة أو ليبلغ النجوم أو ليقيم له منزلا فوق الغيوم أو ليرافق الطيور في رحلاتها، يتنقل بين السحب وفي الفضاء الرحب وهو يسعى لارتياد المجهول.