النقد والناقد الأدبي في رأي ميخائيل نعيمة
*****
يقول ميخائيل نعيمة في كتابه (الغربال):
"إن لكل ناقد غرباله، لكل موازينه ومقاييسه، وهذه الموازين والمقاييس ليست مسجلة لا في السماء ولا في الأرض، ولا قوة تدعمها وتظهرها قيمة صادقة سوى قوة الناقد نفسه، وقوة الناقد هي ما يبطن به سطوره من الإخلاص في النية والمحبة لمهنته، والغيرة على موضوعه، ودقة الذوق، ورقة الشعور، وتيقظ الفكر، وما أوتيه بعد ذلك من مقدرة البيان لإيصال ما يقوله إلى عقل القارئ وقلبه..فالناقد الذي توفرت له مثل هذه الصفات لا يعدم أناسا ينضوون تحت لوائه، ويعملون بمشيئته فيستحبون ما يحب، ويستقبحون ما يقبح، وهو وراء منضدته سلطان تأتمر بأمره، وتتمذهب بمذهبه، وتتحلى بحلاه، وتتذوق بذوقه ألوف من الناس إذا طرق سبيلا سلكوه، وإذا صب نقمته على صنم حطموه ...
غير أن الناقدين طبقات كما أن الشعراء والكتاب طبقات، فما يقال في الواحد منهم لا يصلح أن يقال في كلها، إلا أن هناك خلة لا يكون الناقد ناقدا إذا تجرد منها، وهي قوة التمييز الفطرية، تلك القوة التي توجد لنفسها قواعد ولا توجدها القواعد، والتي تبتدع لنفسها مقاييس وموازين، ولا تبتدعها المقاييس والموازين، فالناقد الذي ينقد حسب القواعد التي وضعها سواه، لا ينفع نفسه ولا منقوده، ولا الأدب بشيء، إذ لو كانت لنا قواعد ثابتة لتمييز الجميل من الشنيع، والصحيح من الفاسد، لما كان من حاجة إلى النقد والناقدين، بل كان من السهل على كل قارئ أن يأخذ تلك القواعد، ويطبق عليها ما يقرأه، لكننا في حاجة إلى الناقدين، لأن أذواق السواد الأعظم منا مشوهة...
إن الناقد مبدع عندما يرفع النقاب في أثر ينقده عن جوهر لم يهتد إليه أحد حتى صاحب الأثر نفسه...ثم إن الناقد مولد، لأنه فيما ينقد ليس في الواقع إلا كاشفا نفسه، فهو إذا استحسن أمرا، لا يستحسنه لأنه حسن في ذاته، بل لأنه ينطبق على آرائه في الحسن، وكذلك إذا استهجن أمرا، فلعدم انطباق ذلك الأمر على مقاييسه الفنية، فللناقد آراؤه في الجمال والحق، وهذه الآراء هي نبات ساعات جهاده الروحي، ورصيد حساباته الدائمة مع نفسه تجاه الحياة ومعانيها..."
*المصدر: النقد والنقاد المعاصرون/محمد مندور.