الإبداع.. والشيخوخة
د. حسين علي محمد: إدريس ضل الطريق إلي القصة بعد نسيان طويل
د. محمد زكريا عناني: الإبداع في سن متقدمة استثناء يؤكد القاعدة
د.سعيد توفيق: التوتر يضمن للأديب عطاءً دائماً
د.عبدالناصر هلال: الشباب أكثر الفترات خصوبة
محمد عبدالله الهادي: الإبداع لا يرتبط بعمر معين.
حوار: د. زينب العسال
................................
بعد أن حصل أرنست همنجواي علي جائز نوبل عن روايته "العجوز والبحر" اكتشف أنه لم يعد لديه ما يبدعه. وأنه دخل مرحلة من النضوب الإبداعي. لم يجد للخلاص منها سوي الانتحار واعترف جابرييل جارثيا ماركيث أن الإبداع لم يعد في حياته بنفس المعدل الكمي ولا الكيفي الذي كان في مرحلة مائة عام من العزلة وخريف البطريرك وغيرها من الروائع التي أهلته لنيل جائزة نوبل..
وفي حياتنا الإبداعية العربية. أمثلة كثيرة لمبدعين أظهروا -في أعمالهم الأولي- مواهب حقيقية. لكنهم اتجهوا بعد ذلك إلي اتجاهات ومسارب أخري ابتعدت بهم عن طريق الإبداع.. والمثل نجده في اتجاه عادل كامل صاحب مليم الأكبر إلي المحاماة. وإلي اقتصار أحمد زكي مخلوف صاحب "نفوس مضطربة" علي التدريس. فلم يصدر سوي روايته الجميلة. اليتيمة؟
وتثور أسئلة: ما أسباب توقف المبدع؟ هل هي نفسية. أم لأن الإبداع يرتبط بسن محددة. أم أنه مثل العارض الذي يزول فجأة وبلا مقدمات؟ أم أن المبدع -في لحظة ما- يتبين أنه قد سار في الطريق الخطأ؟
في تقدير د.سعيد توفيق أن الطاقة الإبداعية لدي بعض المبدعين تنبثق في فترة مبكرة من حياتهم. بل قد تتجلي بواكيرها وأماراتها الأولي في مرحلة الطفولة ذاتها. مثلما كان حال الطفل العبقري موتسارت. وفي أحيان أخري قد تنبثق الطاقة الإبداعية في مرحلة متأخرة من حياة المبدع. ربما تبدأ بعد الخمسين. مثلما جري لبعض الفلاسفة. ومن ثم فقد يبدو أنه ليست هناك قاعدة أو مبدأ يفسر العلاقة بين الإبداع والمرحلة العمرية لكن الملاحظ بوجه عام ـ إذا استبعدنا الحالات الاستثنائية ـ أن الإبداع في المجال الأدبي والفلسفي بوجه خاص. يمتد عبر حياة المرء علي نحو تراكمي والملاحظة الثانية ـ وهي الأهم ـ أن هذا الإبداع يدوم ويمتد ما دام التوتر في حياة المبدع؛ فكل إبداع يلزمه درجة معينة ملائمة من التوتر الذي لاينبغي أن ينقص إلي حد فقدان الطاقة، ولا أن يزيد إلي حد تعطيل الإدراك وتشويشه وأنا أعني بالتوتر كل تلك الحالات النفسية المقترنة بإرادة الحياة. والتي تتراوح بين آلام الحياة وآمالها في شتي مظاهرها. فهذا هو منبع توهج الطاقة الإبداعية الكامنة لدي كل مبدع.
أخصب الفترات
أما د. عبدالناصر هلال فيذهب إلي أن لكل مرحلة معطياتها وملامحها السلوكية والفكرية والإبداعية فإذا نظرنا إلي التاريخ الإبداعي العربي مثلاً. فسنجد أن النابغة تفتقت قدراته الإبداعية بعد سن الأربعين. وفي إبداعنا المعاصر ظل نجيب محفوظ يكتب إلي فترة ليست بعيدة عن وفاته. ولكن بعيداً عن الاستثناءات. وبالتأمل في طبيعة الكينونة الإنسانية وتركيبتها البيولوجية والسيكولوجية نستطيع أن نؤكد أن لكل فترة من فترات العمر معطياتها وسماتها وخصوصيتها عند الإنسان بعامة. وعند المبدع بخاصة.
ففترة الشباب هي أخصب فترات العمر من حيث التدفق والاشتعال والتوهج. والقدرة علي متابعة حركة الأشياء. وتفسير العالم وإنتاجه، ولذا يكون الإنتاج في تلك المرحلة غزيراً ومتواصلاً. غير أن الإبداع يتأثر بمدي اشتباك المبدع بالعالم. ومدي استجابة الأول لطرح الأسئلة علي الثاني. ثم تتسع الرؤية بتقدم العمر. فتقل حركة الإنتاج شيئاً فشيئاً عند بعض المبدعين. وتزداد -أحياناً- عند آخرين..
ويشير د.حسين علي محمد إلي مشكلة يوسف إدريس ـ في أعوامه الأخيرة ـ وهي شحوب موهبته الإبداعية. حتي أنه لم ينشر من الإبداع السردي ـ بين كتب كثيرة ـ في نهايات حياته سوي مجموعة صغيرة تضم خمس قصص هي "العتب علي النظر" تكاد تمثل العطاء الإبداعي الأخير لإدريس ولم تكن المصادفة هي مبعث توقف إدريس عن الإبداع، فقد أغوته الصحافة إلي حد أنه طوع كتاباته لمقالات صحفية متوالية. أنسته خصائص الإبداع القصصي. وحين أراد العودة إلي ساحته الطبيعية ـ إلي بيته القديم ـ فوجيء بالغربة، إلي حد أنه حاول إقناع نفسه ـ وإقناعنابالتالي ـ أن تلك المقالات التي تتضمن ملاحظات فكرية وسياسية ومجتمعية تنتسب إلي فن القصة، وطالبنا أن ننظر إليها باعتبارها كذلك، وفي المقابل قد استطاع نجيب محفوظ أن يحتفظ بملكاته الإبداعية منذ عبث الأقدار إلي أحلام فترة النقاهة لسبب مهم، وهو أنه قد حرص ـ دوماً ـ علي المبدع في داخله، فلم يجعل للوظيفة ولا للحياة الاجتماعية أي تأثير علي إخلاصه الإبداعي. حتي أن إسهاماته الصحفية اقتصرت علي حوارات أجراها مع فتحي العشري وصبري السيد ومحمد سلماوي وغيرهم. وإذا كان قد بدأ حياته الأدبية بكتابة المقال الفلسفي. فإنه منذ اتجه إلي السرد القصصي والروائي قصر كتاباته عليه، إلا من مقالات كثيرة متباعدة، يوضح فيها وجهة نظره في قضايا أدبية وفكرية ولعلي أستطيع التأكيد أن الفن ينطبق عليه مثل "الفريك الذي لايريد الشريك". إنه مثل الجزء في جسد الإنسان. إذا لم يستخدمه فإنه يعرضه للذبول وفقدان القدرة علي أداءوظيفته. وهذا ماواجهه كل من اجتذبتهم اهتمامات غير فنية. وحين أرادوا العودة إلي الفن. فاجأهم بالخصام وعدم المواتاة!.
ولأن لكل قاعدة استثناء. فإن د.محمد زكريا عناني يري أن الإبداع في سن متقدمة هو أشبه بالاستثناء الذي يؤكد القاعدة. العادة أن يكون خير العطاء في مرحلة الشباب كما في «أرخص ليالي» ليوسفإادريس، و«عودة الروح» لتوفيق الحكيم، و«موال عشان القنال» لصلاح جاهين، و«الناس في بلادي» لصلاح عبدالصبور، و«مدينة بلا قلب» لعبدالمعطي حجازي، ومرحلة الواقعية الطبيعية في أعمال نجيب محفوظ.
قد يستمر الإبداع علي توهجه في مراحل العمر التالية. وقد يخبو أو يتوقف. لكن المألوف أن يصيح الكتكوت الفصيح منذ لحظات إبداعه الأولي. والاستثناء نجده في "دون كيخوتة" التي أبدعها سرفانتس بعد أن جاوز السبعين!.
ويري الروائي محمد عبدالله الهادي أن الإبداع لا يرتبط بعمر معين. لقد رأينا مبدعين تعدوا السبعين أو الثمانين عاماً وظلوا يبدعون. نجيب محفوظ وإدوار الخراط وفاروق شوشة ويوسف الشاروني وخيري شلبي وبهاء طاهر ومحمد إبراهيم أبوسنة وإبراهيم أصلان وأمين ريان وسليمان فياض وأبوالمعاطي أبوالنجا ومحمد عفيفي مطر وغيرهم. وفي أمريكا اللاتينية جارثيا ماركيث وساراماجو ويوسا وغيرهم.. ويمكن النظر لطول عمر المبدع. وبالتالي عمر إبداعه. علي أنه تراكم ايجابي ينعكس بالإيجاب علي الإبداع. فتكون أعماله الأخيرة هي الأعمال الأكثر نضجاً. علي الجانب الآخر. هناك مبدعون ينتهون إبداعياً بعد الثلاثين أو الأربعين. وتنطفيء جذوة إبداعهم. ولايمكن استعادتها أبداً. أي أنه يمكن النظر للمسألة ككل علي أنها مسألة شخصية ترتبط بالمبدع نفسه.
................................
*المساء ـ في 22/12/2007م.