أصول الكتابة
في الرسالة المرابطية والموحدية
د. محمد بن العياشي / وجدة / المملكة المغربية
يتوسل كاتب الرسالة في عرض مضامينه والإقناع بها بعدد من الصيغ وطرائق الأداء يمكن إجمالها في ثلاثة عناصر متكاملة ومتداخلة، تشكل أصول الكتابة بصفة عامة وهي: التبليغ والتدليل والتوجيه.
أ-التبليغ: ونعني به تبليغ مضامين الرسالة إلى المتلقي وتقريبه من الغرض الذي يرمي إليه النص، عن طريقالبيان والشرح الذي يتم من خلال صيغتي السرد والوصف. والمقصود بالسرد، ذكر الواقع والمعلومات المتصلة بالموضوع، من خلال تتبع الأحداث وتفصيل المعطيات؛ وذلك بغرض تفسير قضية أو إضاءة مفهوم أو موقف. وتطرد هذه الصيغة السردية بشكل خاص في نمطالموضوعات التي تستلزم سرد المعلومات؛ كرسائل الإخبار بالفتوح والإعلام بالنصر؛حيث يحرص الكاتب على إحاطة المرسل إليه بكل المعطيات المرتبطة –مثلا- بجميع مراحل الحرب، منذ الإعداد لها وإلى غاية الانتهاء منها؛ وذلك بقصد شرح ظروف المعارك،وتعليل النصر فيها، وترسيخ الوقائع في نفوس المبعوثة إليهم. وهو ما جعل السرد في هذه الرسائل ينحو منحى التسجيل والتقرير على طريقة القدماء، ولا سيما المؤرخ ينمنهم، دون أن يكون لهذا السرد وظيفة جمالية كالذي نجده في الرواية، بل يقتصرالكاتب فيه على وظيفته التوصيلية الإبلاغية.أما الوصف،فهو رفيق السرد الدائم؛ حيث نجدهما ملتحمين في أكثر النصوص؛ والمقصود به إيراد الكاتب عددا من الأوصاف والنعوت التي تسهم في إضاءة الأحداث وعناصر الموضوع، إذ بواسطةالوصف يتمكن الكاتب من تصوير معارك الجهاد، ونقل مشاهدها الحربية في حالتي النصـرأو الهزيمة، وما يرتبط بها من وصف للأدوات والأسلحة المستعملة، ورصد لنتائج الحرب؛كوصف مقتل الثوار، وفرحة الرعية بالنصر، وغنائم المعارك، وغير ذلك من العناصر التي تقتضي تلاحم السرد والوصف لتبليغ المعطيات واضحة ومفصلة إلى المتلقي. ومن أمثلةرسائل التبليغ التي يتلاحم فيها السرد والوصف، رسالة قائد الجيش المرابطي في الأندلس، سير بن أبي بكر بن تاشفين إلى أمير المسلمين علي بن يوسف، يخبره فيهابفتح قلعة شنترين من بلاد البرتغال، وهي من إنشاء الكاتب أبي محمد بن عبدون. ومما جاء فيها قوله، مخبرا بدواعي فتح القلعة:"ولما رأينا هذه القلعة الشريفة المناسب في القلاع المتيفة المناصب على البقاع، قد استشرى داؤها وأعيى دواؤها، استخرنا الله تعالى على صمدها، وضرعنا إليه في تسهيل قصدها، وسألناه ألا يكلنا إلى نفوسنا، وإن كانت في صيانة ديانته مبذولة، وعلىالمكروه والمحبوب في ذاته محمولة، فقصدنا إليها وهجمنا هجوم الردى عليها"([1]).فقد استخدم الكاتب السرد لبسط دواعي مهاجمة هذه القلعة، ثم انتقل إلى وصف هذه الغنيمة من خلال إبراز موقعها الاستراتيجي قائلا:"وهذه القلعة التي انتهينا إلى قرارها، واستولينا على أقطارها أرحب المدن أمدا للعيون،وأخصبها بلدا في السنين، لا يريمها الخصب ولا يتخطاها، ولا يرومها الجذب ولايتعاطاها؛ فروعها فوق الثريا شامخة، وعروقها تحت الثرى راسخة..."([2])ويقول الأمير تميم في رسالة إلى أخيه علي بن يوسف يخبره فيها بفتح أقليش: "وسرتعن حاضرة غرناطة –حرسها الله- في العشر الأواخر من شهر رمضان المعظم، بجيش تصمص واهله، وتطم صواهله، راياته خافقة. ومررنا من طاعة أمير المسلمين وناصر الدين على جهات سمعت منادينا وتبعت هادينا، وانقادت وراءنا أعداد وأمداد، برزوا من كمون،وتحركوا عن سكون، وأنخنا بثغر بياسة، وقد توافد الجمع وملء البصر والسمع..."([3]).ومما جاء فيرسالة يعقوب المنصور إلى أهل سبتة المخبرة بغزوته بغرب الأندلس قوله:"...واستمر الموحدون –أعزهم الله- على مسيرهم إلى قرطبة –كلأها الله- فحطوا بها أثقالهم،وأخذوا منها أزوادهم، وجددوا بها تأهبهم واستعدادهم، وأقاموا فيها أياما استوفوا فيها غرضهم من ذلك ومرادهم، ونهضوا منها على بركة الله وعونه وتوفيقه ويمنه،والبشرى تطالعهم بقسماتها الوسيمة، ومقدمات الفتوح تؤذنهم بنتائجها الكريمة،وتيسيره سبحانه يعدهم بما منحهم من منة جمة وعاربة جسيمة..."([4]).ويقولالناصر في رسالة إلى أهل إقريقية، مخبرا بدواعي فتح حصن شلبطرة، ومتوسلا بالسرد : "...وكان المعقل المعروف بشلبطرة، قد علقت به حبائل الصلبان، وتألم ببقائه وسط البلادقلب الإيمان، وضج من ناقوسه ما في جهاته الأربع من التكبير والأذان، مرقب الدو،وعقاب الجو، العلم المطل على الأعلام والنكتة السوداء التي بقيت في بساطالإسلام"([5]).وانطلاقا منهذه النماذج ومن غيرها من النصوص، نلاحظ أن السرد يتسم غالبا بطابع التسجيل والتقرير والتوثيق الذي تعكسه صيغ الأفعال الماضية المحددة لتوالي الأحداث كقوله :(ولما رأينا –قد استشرى- استخرنا الله... فقصدنا إليها –وسرت- في العشر الأواخر منشهر رمضان –ومررنا، وانقادت- وأنخنا... وكان المعقل...قد علقت به .. وتألم وضج...).أما الوصففقد تميز بالدقة والتفصيل والاستقصاء كقوله: (القلعة الشريفة المناسب في القلاع،المنيفة المناصب على البقاع).وقوله (أرحبالمدن أمدا للعيون، وأخصبها بلدا في السنين فروعها شامخة، عروقها راسخة... راياتخافقة، عزمات صادقة، نبرات ناطقة...).ب-التدليل والحجاج: -معنى الحجاج: المقصود بهتقديم الشواهد والأدلة المبرهنة على الموضوع، وبخاصة إذا كان من نمط الموضوع اتالتي تتطلب الجدل والإقناع والمناقشة والحوار. والهدف من الحجاج هنا استقطابالمرسل إليه؛ وإقناعه بمبدأ أو فكرة أو تنفيره منها. وتشكل رسائل الجهاد مظهرا بارزا من مظاهر الجدل والحجاج عند المرابطين والموحدين الذين رأوا في انتصاراتهم وفتوحهم الوسيلة المثلى والشاهد القوى الذي يسعفهم على إقناع الناسوتحريضهم على الانخراط في دعوتي المرابطة والتوحيد، والجهاد من أجل الدفاع عنمبادئهما. ومسوغهم في ذلك هو أن إنجازهم لهذه الانتصارات الداخلية أو الخارجية لم يتحقق بجهودهم الذاتية، بل إنه جاء بفضل ما تلقوه من إسناد رباني، وأن هذا الدعمأو التأييد الإلهي لا يحظى به إلا أولياء الله. ولهذا كانت مضامين رسائل الجهاد؛كالتبشير بالنصر على الثوار أو الكفار لا تقتصر على مجرد السرد والإخبار والوصف،وإنما تستثمره في الحوار والجدل والتحريض على الدعوة. وتتباين درجة الحجاج منموضوع إلى آخر، حسب مقتضى المقام والأحوال، ولكننا –بصفة عامة- نلاحظ حضوره بقوةفي مختلف النصوص الجهادية، وبخاصة فيما يتعلق بالجهاد الداخلي، حيث كانت مواجهةبعض الفتن أو أشكال المعارضة المحلية تحتاج إلى الكلمة؛ باعتبارها وسيلة مساعدةعلى الإقناع والتحريض، وسلاحا حاسما –إلى جانب الأسلحة العسكرية- في الجدل وخاصةوأن المناخ العام لحقبة المرابطين والموحدين كان يتميز بحرارته السياسية والدينيةوالمذهبية الشديدة المتمثلة –على الصعيد الخارجي- في الصراع الديني بين الصليبيةوالإسلام- وعلى الصعيد الداخلي في تعدد الأهواء والطموحات، وتناسل البدع، وتباعدالمشارب، وكثرة العابثين والثوار. ولا أبالغ إذا قلت إن الحجاج اصبح من مهام رسائلالجهاد، ومن مكوناتها البنيوية التي تدخلت بكامل قدرتها في الصراع الذي أرخى سدولهعلى هذين العهدين.- طرائق الحجاج:يعتمدالكاتب في بناء حججه والإقناع بها على طريقتين أساسيتين: موضوعية وانفعالية، وذلكتبعا للتأثير الذي يرغب المرسل إحداثه لدى المرسل إليه. *الطريقة الموضوعية: وهي طريقةأساسها إرضاء فكر القارئ من خلال مخاطبة عقله ومنطقة، حيث يسعى الكاتب إلى تأسيسحجة على جملة من الحقائق أو الدلائل المنطقية والمسلمات الدينية التي يمتحها منمصادر صحيحة (كالقرآن الكريم والحديث الشريف...). وذلك لتحقيق الإقناع العقليوالديني بمضمون الرسالة، والتقليل من فرص الجدل والنقاش بشأنه.*الطريقة الانفعالية(العاطفية):وهي طريقةأساسها استثارة شعور القارئ، وإشباع مشاعره وعواطفه، والتأثير في وجدانه (كما هوحال رسائل التحريض على الجهاد والإنجاد)، وذلك بقصد استمالته إلى وجهة نظر الكاتبوكسب تأييده. وغالبا ما تظهر هذه الطريقة في مقدمة الرسائل وخواتمها.وتلتحمالطريقتان معا في تحقيق الإقناع المنشود من خلال إرضاء فكر القارئ وإشباع عواطفه.وبالعودةإلى رسائل الفترة المدروسة، نلاحظ أن معظم النصوص لا تكاد تخلو من حجاج مبني علىأساس من الحجج العقلية (منطقية، دينية، سياسية...) والتأثيرات الوجدانية (مشاعر –أحاسيس – عواطف – قيم...). ومن نماذج الرسائل الحجاجية رسالة يوسف بن تاشفينالجوابية على صاحب قلعة بني حماد يلومه فيها على إعاقته لجهاد المرابطين بالأندلس.ومما خاطبه به فيها قوله : " ... ووجدناك تتجنى وتثرب على من لم يستوجبالتثريب، وتجعل سيئك حسنا، ومنكرك معروفا، وخطأك صوابا بينا، وتقضى لنفسك بفلجالخصام، وتوليها الحجة البالغة في جميع الأحكام، ولم تتأول أن وراء كل حجة أدلتهاما يدحضها، وإزاء كل دعوة أبرمتها ما ينقضها، وتلقاء كل شكوى صححتها ما يمرضها،ولولا استنكاف الجدال، واجتناب تردد القيل والقال، لنصصنا فصول كتابك أولا فأولا،وتقريناها تفاصيل وجملا، وأضفنا إلى كل فصل ما يبطله، ويخجل من ينتحله، حتى لايدفع لصحته دافع، ولا ينبو عن قبول أدلته راء ولا سامع، ولا يختلف اعترافا به دانولا شاسع"([6])يلمح النصإلى قدرة المرابطين على الخوض في الجدل والحجاج، لولا أنهم يستنكفون عن هذا اللغوأو الزعيق الذي لا طائل وراءه، طالما، أن هناك عدوا متربصا بالمسلمين في الأندلس.وهذا في نظري يعكس كبد الحقيقة، وقمة النضج العقلي، وبعد النظر عند المرابطينالذين أدركوا أن تلك اللحظة التاريخية تفرض عليهم الترفع عن الصراعات الداخلية منأجل توحيد الصف لإنجاح المعركة الحقيقية ضد العدو الكافر بالأندلس. ولا شك في قوةهذا الحجاج المرابطي الذي جمع بين العقل (وجود الحجج والاستنكاف عن ذكرها)والعاطفة (العدو الكافر).ومما ورد فيرسالة أمير المسلمين علي بن يوسف إلى أحد الأمراء (الذي بعث بكتاب يعتذر فيه عنهزيمة انهزمها) قوله:"ومابعثناك لتشهد، وإنما بعثناك لتجهد في طعن بخطي أو ضرب بمهند، فإذا لم تفعل، فلاأقل من أن تجلد وتصبر وتحمل من معك على الصبر، ولا تكون أول من فر، فتعدي بفراركتثبت جارك، ولو كتمتها من شهادة لما أثم قلبك"([7])يعلل الأميررفضه لاعتذار أحد قادته العسكريين عن هزيمته، بحجة قوية مستمدة من القيم العربيةوالدينية التي تحث على الجهاد والصبر والإقدام والشجاعة، والمشاركة في صنعالأحداث، وليس الوقوف بجانبها موقف المتفرج والشاهد الذي يضع يده على قلبه أويختار الفرار دون مواجهة الردى. (وما بعثناك لتشهد، وإنما بعثناك لتجهد).ونلاحظ هناأن الحجاج –وبخاصة في مجال التقريع عن الهزائم- غالبا ما يكتسي طابع السخرية-كتشبيه الفرار بالمرض المعدي (عدوى الفرار)، واعتبار رسالة الاعتذار شهادة مهينة"يجوز كتمانها" دون ارتكاب إثم.ويبنيالخليفة عبد المؤمن رسالته على لغة الحجاج –أيضا- لإقناع أهل جزولة بصحة الموقفالموحدي، وصدق قضيته التي تجسدها دعوة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فيبدأأولا باستثارة شعورهم، وإشباع مشاعرهم من خلال محاولة تثبيت ثقتهم فيه، وذلك قبلأن يشرع في مجادلتهم، واتهامهم بالعصيان، حيث يقول: "كتبناإليكم هذا الكتاب نصيحة وتنبيها وتذكرة وتأكيدا في تبليغ الحجة لحسن ظننا بكم،وقوة رجائنا فيكم، ورغبتنا في الخير، ونيل الحظ الأوفر عاجلا وآجلا..."([8])ثم يستدركبقوله مبديا تعجبه من سلوكهم، ومتهما إياهم بالابتعاد عن حكم العقل:"وقدتعجبنا منكم كل العجب، والتبس علينا أمركم، ولم ندر من أين أوتيتم أبغضا منكم للحقأم جهلا بمنافع أنفسكم؟ أم تعام عن رشدكم، وليس هذا من حكم العقل ولامن نظرالعقلاء ولا أفعال الأحرار"([9])يتوسل عبدالمؤمن في حجاجه ببعض الجمل الاستفهامية التي يتوخى منها إثارة انفعال أهل جزولة،وتشكيكهم في حريتهم، وفي قدراتهم العقلية. وذلك قبل أن يسد الباب أمام كل أعذارهموحججهم : "فماعذر من سمع بقيام المهدي في التخلف عنه؟ ولو كان ببلاد الصين والهند حتى يلحق به،ويلتجئ إليه، وينجو في سفينته من الغرق العام"([10])فهو يحاججهنا بأن الدعوة الموحدية هي دعوة عالمية لا يجوز أن يتخلف عنها أحد سواء في المغربأو الصين أو الهند، وهي دعوة ربانية لما تحمله من نجاة وخلاص للبشرية، تشبيها لهابدعوة نوح عليه السلام. والنتيجة التي يريد الخليفة ترسيخها في الناس هنا، هي أنمن تخلف عن دعوة المهدي، فهو معاند للحق، ولا حجة له عند الله : "فإن وجدالحق فلا عذر له في تركه، وإن وجد خلافا، فلا يضره وصوله إليه، وإن لم يفعل هذا،فلا حجة له عند الله"([11]).ويبنيالوالي الموحدي أيضا إحدى رسائله على لغة الحجاج الساخر المعتمد على الاستخفافوالاستنكار للدفاع عن الدعوة الموحدية ضد أعدائها من الثوار؛ حيث يقول في رسالة لهإلى الخليفة المستنصر متعجبا من سلوك الثائر عبد الرحمان الجزولي (أبي قصبة):"والعجب من الشقي المذكور كيف جمح في شأو الغرور، فرام أن يغطي صفحة الشمس،وطمع في إدراك السماء السابعة بحاسة اللمس، ولم يعلم بأن هذا الأمر العزيز هو أمرالله المصنوع له في عقب الزمان، وأنه لا يزال إلى يوم الدين من كيد الكائدين فيأمان"([12]).ويرددالمعنى نفسه في رسالته على الوزير ابن جامع قائلا: "وياعجبا لذلك الشقي المحذور، كيف عمي عن النور الذي يتساوى في إدراكه عقلاءالجمهور ! (وما يستوى الأعمى والبصير ولا الظلمات ولا النور،ولا الظل ولا الحرور)([13])إلى أن يقول: "ولميعلم أن من شك في هذا الأمر العزيز فقد شك في وحدانية الجليل، ومن طلب الدليل علىظهوره فقد احتاج النهار عنده إلى دليل"([14]).نستخلص مماعرضناه من نصوص أن لغة الحجاج جاءت مبنية على أدوات الاستفهام والنداء والتعجبوالنفي.ولا يخفى مالهذه الأساليب الإنجازية من تأثير في نفسية المتلقي للرسالة. كما أنها بنيت علىأساليب أخرى كالقياس والمماثلة التي تجعل الشك في الدعوة –مثلا- مرادفا للشك فيوحدانية الله. وسوف نسلط الضوء على باقي مميزات الحجاج اللغوية والبلاغية في الفصلالقادم.ومهما يكنمن أمر، فإن بنية الحجاج في هذا النوع من النصوص المتعلقة بمخاطبة الثوار أوالكفار، لا تكاد تخرج عن ثلاث صور؛ تتمثل الأولى في بناء الحجة على أساس الطعن فيالعدو (ثائرا كان أم كافرا)؛ باعتباره خارجا عن المشروعية. وترتبط الصورة الثانيةبالحجج المدافعة عن الدعوة؛ باعتبارها صادرة عن الله، وأن القائمين بها همأولياؤه. إذ لا يجوز الجدل أو النقاش بشأنها. أما الصورة الثالثة، فتتخذ منالانتصارات العسكرية فرصة للحث على مزيد من الجهاد، وفي الوقت نفسه إفحامالمعارضين للدعوة او المتخلفين عنها.ت-التوجيه والتعليق: يعد التوجيه والتعليق من مكونات الرسائلالأساسية، وذلك باعتباره المجال الأكثر استهدافا فيما يتعلق بشؤون الجهاد وقضاياه.ولذلك نلاحظ أن صلب الرسالة وخاتمتها أيضا، يستأثران بالحظ الأكبر منه. والمقصودبالتوجيه والتعليق، هو تدخل المرسل بالتعليق على الأحداث؛ لتوجيه المرسل إليه،وإرشاده إلى الغرض المقصود من الرسالة. ويتم تارة بالدعاء والوعظ والنصح، وتارةبالتحريض والاستقطاب على اعتناق مبدأ أو فكرة، وتارة أخرى بالدحض والاعتراض؛لتنفير المتلقي من أمر ما.ومن مظاهرذلك مثلا، تدخل الكاتب بين الحين والآخر، ليبث في الأقوال والمضامين مجموعة منالقيم التي تستنهض همة المخاطب وإرادته، وتدفعه إلى الفعل أو الامتناع عنه، منخلال ثنائية الترغيب والترهيب؛ كالتلويح مثلا بالجنة والإيمان ونيل المزايا،واكتساب الصفات الحسنة، أو العكس المتمثل في الترهيب والتخويف والتهديد بالعقاب الدنيوي(القصاص من العابثين أو القتال العسكري ضد الثوار والمشركين)، أو تهويل المصيرالأخروي؛ كالوعيد بالنار، وغير ذلك من مظاهر التعليق التي يلتحم فيها التوجيهبالتنبيه أو التنويه.ومن أمثلةالرسائل المرابطية في هذا السياق، رسالة الأمير علي بن يوسف التي يحث فيها عمالهعلى التزام العدل ومحاربة تحريف أحكام الشرع. ومما ورد فيها قوله مخاطبا واليه أبامحمد عبد الله بن فاطمة: "...وقد رأينا والله ولي التوفيق، والهادي إلى سواء الطريق، أن نجدد عهدنا إلى عمالناعصمهم الله بالتزام أحكام الحق، وإثيار أسباب الرفق، لما نرجوه في ذلك من الصلاحالشامل، والخير العاجل والآجل. والله تعالى ييسر لما يرضيه من قول وعمل منه"([15])يتضح منالنص تدخل المرسل من خلال الدعاء والتوجيه والتبصير، وذلك لحث المرسل إليه علىالتزام أحكام الحق والرفق بالرعية، وعدم الخروج عن جادة الصواب. ولتحقيق هذه الغايةفقد توسل الكاتب بثنائية الترغيب والترهيب قائلا: وأنت –أعزكالله- ممن يستغني بإشارة التذكير، ويكتفي بلمحة التبصير، لما تأوي إليه من السياسةوالتجربة، فاتخذ الحق إمامك، وارفع لدعوة المظلوم حجابك، ولا تسد في وجه المضطهدالمهضوم بابك، ووطىء للرعية حاطها الله أكنافك"([16]).ولكي يضمنانصياع عماله لأوامره، يتدرج نحو أسلوب التهديد قائلا: "ومن سبب عليها منعمالك زيادة، أو خرق في أمرها عادة، أو غير رسما، أو بدل حكما، أو أخذ لنفسه منهاردهما ظلما، فأعزله عن عمله، وعاقبه في بدنه، وألزمه رد ما أخذ متعديا إلى أهله.واجعله نكالا لغيره حتى لا يقدم أحد منهم على مثل فعله"([17]).وفي رسالةتوجيهية أخرى تميل إلى التهديد، يقول أمير المسلمين علي بن يوسف محذرا أهل إشبيليةمن الفتن:"ورأيناوالله الموفق للصواب، أن نعذر إليكم بهذا الخطاب، فإذا وصل إليكم، وقرئ عليكم،فاقمعوا الأنفس الأمارة بالسوء، وارغبوا في السكون والهدوء، ونكبوا عن طريق البغيالذميم: المشنوء، واحذروا دواعي الفتن وعواقب الإحن"([18]).ويختم بدعاء مناسب للموضوع "والله تعالى يفيء بكم إلى الحسن، وييسركم لما فيهصلاح الدين والدنيا، بقدرته"([19]).لقد جاءتعليق المرسل على الحدث واضحا، من خلال التحذير والتهديد والدعاء، وذلك بغرض توجيهالمرسل إليهم وتنفيرهم من الفتنة والعصيان.وفي الاتجاهنفسه تندرج رسالة أمير المسلمين تاشفين بن علي التوجيهية إلى والي إشبيلية، والتيتضم طائفة من الأوامر والمواعظ، ابتدأها بالترغيب في النصيحة بقوله:"ولماكان، أعزكم الله، الدين ينعت بالنصيحة لله ولرسوله وللمسلمين، والذكرى تنفعالمؤمنين، وجب أن نتخذ لكم من الموعظة به أنفسها الذي مرها في العاقبة حلو، وأخفضمراتبها في الله علو"([20])وكان الحثعلى الجهاد من أهم الأوامر والتوجيهات التي وردت في الرسالة، كما يتضح ذلك من قولهمخاطبا المرابطين: "وانتدبواواندبوا من قبلكم للجهاد، الذي هو من قواعد الإيمان والرشاد، أمر الرحمن، وفرض علىالكفاية والأعيان، واتصال الهدو بفضل الله وللأمان. وقد جاء عن رسول الله صلى اللهعليه وسلم أنه قال: "مثل المجاهد في سبيل الله كمثل القائم الصائم الذي لايفتر عن صلاة ولا صيام"([21]).يظهر تدخلالمرسل هنا من خلال سعيه إلى استنهاض همة المرسل إليه؛ وذلك بتوجيهه ولفت نظره إلىالحديث النبوي الذي يجعل من الجهاد عبادة لا تقل أهمية عن العبادات الأخرى،كالصلاة والصوم. ويعد هذا التوجيه أحد مظاهر التحريض والاستقطاب في الرسالة. ويبدوأن تدخل المرسل وتعليقه في الرسائل التوجيهية الموحدية هو أكثر عنفا وتهديدا منتدخل نظيره المرابطي، فهذا الخليفة عبد المؤمن يتدخل بعنف ويهدد أصحاب المنكراتبالقتل بقوله: وتا الله لوتعين لنا فاعل ذلك وتشخص، لما خرج من حياله مكروه ولا تخلص، ولسارع إليه من أسرععقابنا ما يمحو رسمه محو الفنا"([22]).ونلاحظ مثلهذا التدخل العنيف في تعليق الخليفة المنصور الموحدي على المؤلفات الفلسفية؛ حيثهدد بإحراقها، وإحراق مؤلفيها، وقارئيها، قائلا: "فاحذروا –وفقكم الله- هذهالشرذمة على الإيمان، حذركم من السموم السارية في الأبدان، ومن عثر له على كتاب منكتبهم، فجزاؤه النار التي بها يعذب أربابه، وإليها يكون مآل مؤلفه وقارئهومآبه."([23]).وخلاصة هذاالمقال هي أن صلب الرسالة الذي هو موطن الأغراض والمقاصد، يتميز أيضا بنظامه الخاصالذي يتكون من عدد من الإجراءات والصيغ لبناء الموضوع، وإحكام صنعته منهجاوأسلوبا، والتي تقتضي من الكاتب الاستناد إلى ثقافته، وعصارة معارفه، ومشاعره،وتجاربه، في التعبير والتفكير، لعرض موضوعه والإقناع به، سواء عن طريق التبليغ أوالحجاج أو التوجيه وهي طرائق اعتمدها الكتاب المرابطون والموحدون في بناء رسائلهموعرض أغراضهم.
الهوامش([1])المعجب : 246-247.
([2]) نفسه: 248.
([3])الثغر الأعلى: 36.
([4])مجموع رسائل موحدية : الرسالة 35، ص : 223.
([5])رسائل موحدية، (مجموعة جديدة): 267.
([6])الذخيرة : 2-2-257، قلائد العقيان : 109.
([7])خريدة القصر : 3/432.
([8]) أعزما يطلب : 401.
([9]) نفسه : 402.
([10])نفسه ص.ن.
([11])نفسه ص.ن.
([12])رسائلموحدية، (مجموعة جديدة): 333 (ومصدر الرسالة مخطوط المنوني : 343)
([13])نفسه: 337.
([14])نفسه ص.ن.
([15])خريدة القصر: 3/400.
([16])نفسه ص.ن.
([17]) نفسه ص.ن.
([18])قلائد العقيان : 124.
([19])نفسه: 124.
([20])نصوص سياسية: 111.
([21])نفسه: 112
([22]) عصرالمرابطين وبداية الدولة الموحدية: 554.
([23])نفسه: 266-227.