جلسة إلى الشاعر المغربي عبد اللطيف غسري
بقلم الأديب والناقد المغربي محمد داني
4ـ الصورة الشعرية في شعره
يتميز الشاعر عبد اللطيف غسري ببعد النظر، وعمق الرؤيا.. وهذا ما يلمس من شعره.. وقد استأثرت الصورة الشعرية باهتمامه، لما لها من أهمية.
والصورة الشعرية هي:"إعادة إنتاج عقلية، ذكرى لتجربة عاطفية أو إدراكية عابرة، ليست بالضرورة تعبيرية مباشرة"[1]...
والصورة مرتبطة بنفسية الشاعر، وهي جزء حيوي في عملية الخلق الفني.. وهي روح التجربة الشعرية، وبؤرة تشكيلها الجمالي.
والمتتبع لشعر عبد اللطيف غسري، يجد أن فيه استعمالا للأنماط البلاغية في رسم الصورة الشعرية.. كما كان متداولا عند الأقدمين، أو كما تعرفه القصيدة الكلاسيكية.. فنجد الشاعر يتوسلها بالتشبيهات، والمجازات، والاستعارات..
والصورة الشعرية الموظفة في شعره نجدها على الشكل التالي:
1- الصورة التشبيهية: وظف عبد اللطيف غسري الصورة التشبيهية في شعره، فتعددت أنواعها وأشكالها.. ومن التشبيهات الموظفة، نجد:
-التشبيه المرسل المجمل: وهو التشبيه الذي ذكرت فيه الأداة وحذف منه وجه الشبه، وهو كثيرعند عبد اللطيف غسري.. وقد استعمل فيه أدوات التشبيه ليبين صوره.. ومن هذه الأدوات نجد(كأن- الكاف)، كما في قوله:
شرفاتي تصهل يا امرأة++++ يتدفق في يدها النغم
ويضيء العشب إذا برزت++++ كسراج تعشقه الظلم
وقوله أيضا:
تهيم بأسراره مهجتي++++ وإن عز ما أحدثت من ألم
فلا لحن يحلو لها غيره++++ كأن بها عن سواه صمم
وقوله أيضا:
ليس يحصيها خيالي++++ بالتخفي والغياب
كيف تحصى وهي شتى++++ مثل ذرات التراب
كما نجد نمطا ثانيا من التشبيه في شعرعبد اللطيف غسري، وهو:
- التشبيه البليغ: وهو تشبيه لا تذكر فيه أداة التشبيه، ولا وجه الشبه، كما في قصيدته ( عيناك تفاحتان)، والتي يقول فيها:
عيناك تجترحان الرشق بالخفر++++ وتجرحان خدود الماء والقمر
عيناك تفاحتان امتدتا وهجا++++ في قامة الليل أو في باحة العمر
ففي هذين البيتين نجد الشاعر وظف تشبيها بليغا وهو(عيناك تفاحتان) وهي تشبيهات كلها حذفت منها الأداة ووجه الشبه.
ففي المثال الأول نجد الشاعر يشبه عيني المحبوبة بالتفاح (عيناك كتفاحتين)، وهي تشبه التفاح جمالا، واستدارة، وألقا...كما أنه استعار للماء خدودا...ووجه الشبه في ذلك النضارة، والبريق، والملوسة، والصفاء، والإشراق...
وكل هذه التشبيهات تشبيهات حسية، الشيءالذي يجعل من الصور الشعرية، صورا مادية ملموسة...
- الصورة الاستعارية:
الاستعارة، تشكل وجها من وجوه المجاز اللغوي لعلاقة هي المشابهة معقرينة ملفوظة، أو ملحوظة تمنع إرادة المعنى الحقيقي[2].
وقد اهتم عبد اللطيف غسري بالصورة الاستعارية، لأنه يعرف أنها:"قمة الفن البياني وجوهر الصورة الرائعة، والعنصر الأصيل في الإعجاز، والوسيلة الأولىالتي يحلق بها الشعراء وأولو الذوق الرفيع إلى سماوات من الإبداع ما بعدها أروع ولا أجمل ولا أحلى"[3]..
ومن نماذج الصور الاستعارية التي وظفها الشاعر عبد اللطيف غسري، ما نجده في قصيدته ( سيف الملامة)، حيث يقول:
البدر لا تنتابه الرعدات++++ أو يعتريه الخوف والرجفات
إلا إذا رعشت له أجفانها++++ أو أشرقت من ثغرها البسمات
خنساء أطربها النسيم على الربى++++ فتراقصت من شعرها الخصلات
الليل في أهدابها طفل على++++ كتفيه تعزف لحنها النسمات
ففي هذه الأبيات صور جميلة، حيث استعارأوصافا شبه بها حبيبته بالبدر لبياضها، وجمالها الفضي...وأنها ثابتة لا تعرف تغيرا في سلوكها، أو عواطفها ومشاعرها...لا تعرف الخوف ، ولا الارتجاف...
والجميل هنا هو أنه جعلنا نتصور القمر جسدا، أو كائنا له أحاسيسه.. إلا انه ثابت الجنان، لا يرتعد خوفا أو فرقا...
كما أنه استعار الإشراق والشروق،واللذان هما سمتان لازمتان للشمس..ليلبسهما للبسمات التي ترتسم على شفتيها..كأن شفتيها شمس تشرق ضحكات وبسمات...
كما شبه حسناءه بالمها (الخنساء)، وهي البقرة الوحشية...وهو اسم كان الشاعر القديم يطلقه على المرأة الجميلة ذات العينين السوداوتين، وذات الحور...وذات اللحاظ الكبيرة...وذات الشعر الأسود الكحيل.. تتطاير خصلاته مع النسيم.. وهذا الشعر من شدة سواده، شبهه بالليل ليطلقه على لون شعرها...المتمايل، والمتطاير على كتفيها كأنه في حالة رقص، وغناء...
يقول في قصيدته (أنين الوتر):
يرقد النهر في أحضان السكينة
منتظرا طلعة الأعين الشهل
والسوسن الغض فيه يحن
يراقب خفق الشجر
فهو في هذا المقطع يقدم لنا صورة شعرية، تعتمد على الرمز والتصوير... فهو نسج صورة حسية ومجردة..إذ آدمي في حالة نوم واسترخاء...وهو مستلق في أحضان السكينة، والتي هي حالة مجردة نفسية....تتحول في هذه الصورة إلى حسناء، تضم إليها هذا النهر الراقد.. وبالتالي تتحول الصورة إلى رمز للطبيعة ومكوناتها.. وما يعمها من جمال وفتنة...
والجميل أننا أحيانا ، نجد شاعرنا عبد اللطيف غسري، يتلمس هذه الصورة، والاستعارات مستخدما بعض الأساليب مثل النداء، أو الاستفهام، أو الإخبار، أوالنفي، مثل قوله:
سافرت كالشفق المبتل صوبهما++++ ما للبنفسج في عيني من أثر
فقد استعار الحمرة التي يمتاز بها الشفق لحمرة الخدود اللذان تبلتهما دموع العينين..كما انه استعار البنفسج ولونه الأرجواني، والأبيض ليرمز به للدمع الذي ليسكن العينين، معتمدا على أسلوب النفي المتمثل في ( ما) بمعنى (ليس)...
وقوله:
هل يد الشوق منك تمتد طولى++++ أم لغصن الرجاء مني اهتزاز
إذ استعار للشوق والحنين صفات جسدية محسوسة.. وجعل له يدا تتصرف كما تشاء...كما أن لتسرب الشكّ، وبعض اليأس، يصبح الأمل والرجاء قليلا..
وتذبذبه ما بين اليقين والشك، جعل الشاعر يستعير صفات للشجر.... وعلاقته بالريح، ونتاج هذه العلاقة هو الاهتزاز والتمايل..ولذا شبه هذا الشعور بالشك واليأس، وفقدان الأمل باهتزاز الأفنان جراء الريح.. وما الريح إلا رمز للهجران والبعد ، والنوى.. وقد وظف في صيغة هذه الصورة أسلوب الاستفهام(هل......)
[1]- قادري، (عمر يوسف)،التجربة الشعرية عند فدوى طوقان،ص:74
[2]- البكري، (شيخ أمين)، البلاغة العربية في ثوبها الجديد(علم البيان)،دار العلم للملايين، بيروت، ط7، 2001،ص:67