بسم الله الرحمن الرحيم
السبع الموبقات ( قذف المحصنات الغافلات )
المنصورة : جامع المصطفي : 30/6/2006 م
الحمد لله رب الفضل والنعمة توعد بأليم النقمة من خرج علي قوانين الإسلام والحكمة وتعدي حدود الآداب . وتوعد بأليم العقاب أهل القذف والسباب وأنعم بالتوبة من فضله وكرمه علي من تاب . أحمد الله وأشكره وأتوب إليه وأستغفره وأستعين به وأستنصره وأرجوه الحكمة وفصل الخطاب. وأشهد أن لا اله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله شرفه وفضله وزينه وجمله واصطفاه واجتباه ووفقه وهداه فكان كريم الأحساب وكان عظيم الأنساب . اللهم صل وسلم وبارك علي رسول الله محمد خير عبادك وعلي آله وصحبه وكل مسلم آمن بآيات ربه ففاز بقربه وتمتع بحبه وسار علي دربه إلي يوم الدين . أما بعد فأوصيكم وإياي عباد الله بتقوى الله وأحذركم ونفسي من عصيان الله ثم أستفتح بالذي هو خير . يروي الإمامان الجليلان البخاري ومسلم رحمهما الله عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلي الله عليه وسلم " اجتنبوا السبع الموبقات الشرك بالله والسحر وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق وأكل الربا وأكل مال اليتيم والتولي يوم الزحف وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات ".
عباد الله أيها المسلمون:
القذف : لغة : من باب قذف أي رمي . فمعناه لغة :الرمي مطلقا . ومعناه شرعا : رمي إنسان لآخر بفاحشة الزنا أو ما يستلزمه كالطعن في النسب علي جهة التعيير . كأن يقول لامرأة يازانية أو ياباغية أو يا *** .أو يقول لزوجها يا زوج الزانية أو يا زوج الباغية أو يا زوج *** . أو يقول لولدها يا ابن الزانية أو يا ابن الباغية أو يا ابن *** .
والقذف انتهاك لعرض المسلم والمسلمة . وهو عادة المجتمعات السيئة . وعلامة من علامات الإفلاس الخلقي والخواء الديني . وكبيرة من أكبر الكبائر بنص القرآن والسنة. بنص القرآن " إن الذين يرمون المحصنات الغافلات المؤمنات لعنوا في الدنيا والآخرة ولهم عذاب عظيم" وأما السنة فقد عده النبي من الموبقات أي( المهلكات ) للفرد والجماعات في الدنيا والآخرة ..
وقد تناول القرآن القذف في سورة النور علي ثلاث حالات: فقال "إن الذين يرمون المحصنات الغافلات المؤمنات لعنوا في الدنيا والآخرة ولهم عذاب عظيم ". وقال " والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا وأولئك هم الفاسقون" . وقال " وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُن لَّهُمْ شُهَدَاء إِلَّا أَنفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِن كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ ويدرأ عنها الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ والْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إِن كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ ولَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ"
ذكر شيخ الإسلام : أن بن عباس قال في الأولي : هذه في شأن عائشة وأزواج النبي صلى الله عليه وسلم خاصة وقد جاءت الآية متضمنة لهذا الوعيد الهائل باللعنة في الدنيا والآخرة والعذاب العظيم عند الله يوم القيامة وذلك في سياق حديث الإفك الذي افتراه المفترون على الصديقة بنت الصديق عائشة أم المؤمنين وأحب إنسانة إليه بعد خديجة وقد برأها الله جل شأنه من فوق سبع سموات ونزل فيها قرآن يتلى إلى ما شاء الله "لولا إذ سمعتموه ظن المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خيرا وقالوا هذا إفك مبين لولا جاءوا عليه بأربعة شهداء، فإذا لم يأتوا بالشهداء، فأولئك عند الله هم الكاذبون " وليس في الآية توبة لمن قذف عائشة. أما الثانية ففي شأن باقي الأمة ومن قام بالقذف فعليه البينة بإحضار أربعة من الشهود وإلا يجلد ثمانون جلدة ولا تقبل شهادته ويصبح فاسقا كما نصت الآية . وأما الثالثة فيمن رمي زوجته بالزنا فقد نزلت الآيات في هلال بن أمية لما رمي زوجته بشريك بن السمحاء فقال له الرسول البينة أو حد ظهرك فقال يا رسول الله أيجد أحدنا رجلا مع زوجته وينطلق يلتمس البينة فجعل الرسول يكرر . فقال هلال والذي بعثك بالحق نبيا إني لصادق ولينزلن الله ما يبرئ ظهري من الحد فنزلت الآيات لتدل علي أن من رمي زوجته بالزنا عليه الحد ثمانون جلدة إلا أن يقيم البينة علي وقوع ذلك من زوجته أو يلاعن هذه الزوجة ويكون ذلك بواسطة الحاكم أو من يقوم مقامه ويكون في جامع وعلي منبر ويردد خلف الحاكم أشهد أنني صادق في ما رميت به زوجتي من الزنا ويذكرها إن كانت غائبة ويشير لها إن كانت حاضرة . ويذكره الحاكم بعذاب الله في الدنيا والآخرة فيقول في الخامسة أن غضب الله علي أن كنت من الكاذبين . ويترتب علي هذا اللعان : سقوط حد القذف عن الزوج ووجوب حد الزنا علي الزوجة ويفرق بينهما فرقة مؤبدة وتحرم المرأة علي الرجل حرمة مؤبدة وينفي الولد عن الرجل وينسب لأمه. وتقوم المرأة وتلاعن الرجل أمام الحاكم أيضا وتشهد أربع شهادات بالله أنه لمن الكاذبين فيذكرها الحاكم بعذاب الله في الدنيا والآخرة فتشهد في الخامسة أن غضب الله عليها إن كان الزوج من الصادقين فيسقط بذلك عنها حد الزنا .
وقد شدد النبي صلي الله عليه وسلم في النهي عن القذف . حتى لو كان المقذوف مملوكا جاء في الحديث المتفق عليه عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلي الله عليه وسلم " من قذف مملوكه وهو بريء جلد يوم القيامة إلا أن يكون كما قال ". وأنه من باب الخوض و الاستطالة في الأعراض
قال تعالى : ( وَ الَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَ الْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَ إِثْمًا مُبِينًا ) فقد سماه الله أذي وبهتان وذنب عظيم مادام كان ذلك بغير حق . فقد روي الإمام مسلم رحمه الله عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلي الله عليه وسلم "كل المسلم علي المسلم حرام دمه وماله وعرضه " و روى أبو داود في سننه و أحمد في مسنده بإسنادٍ صحيحٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ زَيْدٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَ سَلَّمَ قَالَ ( إِنَّ مِنْ أَرْبَى الرِّبَا الاسْتِطَالَةَ فِي عِرْضِ الْمُسْلِمِ بِغَيْرِ حَقٍّ ) . و لا يقف الأمر عند هذا الحد بل يصبح القاذف مفلسا فقد روي مسلم رحمه الله عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلي الله عليه وسلم " أتدرون من المفلس ؟ قالوا الله ورسوله أعلم . قال المفلس من أمتي من يأتي يوم القيامة بصلاة وزكاة وصيام ويأتي وقد شتم هذا وقذف هذا وأكل مال هذا وسفك دم هذا فيأخذ هذا من حسناته وهذا من حسناته فإن فنيت حسناته قبل أن يقضي ما عليه أخذ من سيئاتهم وطرحت علي سيئاته ثم طرح في النار " . وعند الرمي ( القذف) بلا دليل يكون بابا من أبواب قول الزور ويصح في ذلك ما روي الإمام مسلم رحمه الله عن عبد الرحمن بن أبي بكرة عن أبيه أنه قال كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال ( ألا أنبئكم بأكبر الكبائرـ ثلاثا ـ الإشراك بالله وعقوق الوالدين وشهادة الزور أو قول الزور وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم متكئا فجلس فما زال يكررها حتى قلنا : ليته سكت " وقد يرد المقذوف ويلعن والدي القاذف فتقع كبيرة أخري فقد روي الإمام مسلم رحمه الله عن عبد الرحمن بن عمرو بن العاص رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلي الله عليه" إن من أكبر الكبائر شتم الرجل والديه ؟ قالوا : يا رسول الله , وكيف يشتم الرجل والديه ؟ قال : نعم , يسب أبا الرجل فيسب أباه , ويسب أمه فيسب أمه " . من أجل ذلك كله فقد ثبت في الصحيحين عن رسول الله أنه قال إن الرجل ليتكلم بالكلمة ما يتبين فيها يزل بها في النار أبعد مما بين المشرق والمغرب فقال له معاذ بن جبل يا رسول الله وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به فقال ثكلتك أمك يا معاذ وهل يكب الناس في النار على وجوههم إلا حصائد ألسنتهم" .
و قال الحافظ ابن كثيرٍ رحمه الله : و أوجب الله على القاذف إذا لم يُُقم البينة على صحة ما قال ثلاثة عقوبات:عقوبة حسية : أن يجلد ثمانين جلدة. وعقوبة معنوية :عدم قبول شهادته أبداً . عقوبة دينية أن يكون فاسقاً ليس بعدل لا عند الله و لا عند الناس ثم وقع الاستثناء " إلا الذين تابوا من بعد ذلك وأصلحوا فإن الله غفور رحيم" قال الأحناف من تاب ترفع عنه عقوبة الفسق والحد وكن يظل لا تقبل له شهادة أبدا ويري جمهور العلماء أن التوبة تقطع ما قبلها فيرفع عنه الحد والفسق وتقبل شهادته كذلك . وقال الإمام القرطبي في تفسير آية النور وللقذف شروط : تسعة بعضها يتعلق بالقاذف : العقل و البلوغ لأنهما أصلا التكليف و بضعها يتعلق بالشيء المقذوف به : و هوأن يقذف بوطء يلزمه فيه الحد وهو الزنا و اللواط أو بنفيه من أبيه دون سائر المعاصي وبعضها يتعلق بالمقذوف: و هي العقل و البلوغ و الإسلام و الحرية و العفة عن الفاحشة .
ويسقط حد القذف بأمور : إقامة البينة علي زنا المقذوف ( وهي الإتيان بأربعة شهداء ) . وعفو المقذوف عن القاذف . وفي حالة اللعان كما بينا . وإقرار المقذوف بالزنا .
الثانية :
هل هناك كفارة لذلك ؟
ولا توجد كفارة معينة لتلك المعصية إنما توجد مكفرات عامة لمن وقع في المعاصي والكبائر ويريد أن يتطهر ويتوب . ومن هذه المكفرات : التوبة النصوح : فإنها تغسل الإنسان من الذنوب كما يغسل الماء الوسخ والتائب من الذنب كمن لا ذنب له وصدق الله "إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين " والاستغفار: بصيغه المختلفة التي وردت في القرآن والسنة وقد قال تعالى" ومن يعمل سوءا أو يظلم نفسه، ثم يستغفر الله يجد الله غفورا رحيما". والأعمال الصالحة : من الوضوء والصلاة والصيام والحج والعمرة وبر الوالدين والذكر والدعاء وتلاوة القرآن وفعل الخير والجهاد في سبيل الله. وصدق الله إذ يقول" إن الحسنات يذهبن السيئات" وقال صلى الله عليه وسلم:"وأتبع السيئة الحسنة تمحها" . ومما ينفع التصدق بصدقة: فإنها تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار وخصوصا صدقة السر. والتعلق برحمة الله والطمع فيها : وصدق الله "قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا إنه هو الغفور الرحيم"