صلح وستفاليا
(Peace of Westphalia) هو اسم عام يطلق على معاهدتي السلام اللتين دارت المفاوضات بشأنهما في مدينتي أسنابروك (Osnabrück) ومونستر (Münster) في وستفاليا وتم التوقيع عليهما في 15 مايو 1648 و24 أكتوبر1648 وكتبتا باللغة الفرنسية.[1][2][3] وقد أنهت هذه المعاهدات حرب الثلاثين عاماً في الإمبراطورية الرومانية المقدسة (معظم الأراضي في ألمانيا اليوم) وحرب الثمانين عاماً بين إسبانيا ومملكة الأراضي المنخفضة المتحدة. ووقعها مندوبون عن إمبراطور الإمبراطورية الرومانية المقدسة فرديناند الثالث (هابسبورغ)، ممالك فرنسا، إسبانيا والسويد، وجمهورية هولنداوالإمارات البروتستانتية التابعة للإمبراطورية الرومانية المقدسة.
يعتبر صلح وستفاليا أول اتفاق دبلوماسي في العصور الحديثة وقد أرسى نظاما جديدا في أوروبا الوسطى مبنيا على مبدأ سيادة الدول. مقررات هذا الصلح أصبحت جزأ من القوانين الدستورية للإمبراطورية الرومانية المقدسة. وغالبا ما تعتبر اتفاقية البرينيهالموقعة سنة 1659 بين فرنسا وإسبانيا جزءا من الاتفاق العام على صلح وستفاليا.
تفاصيل تاريخية
كان الحكام ورجالهم الدبلوماسيون منذ 1635 يجسون النبض ويتحسسون الرأي من أجل السلام. وفي تلك السنة اقترح البابا أوربان الثامن عقد مؤتمر لبحث شروط المصالحة، واجتمع المندوبون للتفاوض في كولون. ولكنهم لم يصلوا إلى نتيجة. وفي هامبورغ في 1641 صاغ ممثلو فرنسا والسويد والإمبراطورية اتفاقية مبدئية لينعقد مؤتمر مزدوج في وستفاليا في 1642، ففي مونستر تلتقي فرنسا مع الإمبراطورية لمعالجة مشاكلهما في ظل وساطة البابا والبندقية، وفي أوسنابروك، على بعد ثلاثين ميلاً، تلتقي فرنسا والإمبراطورية مع السويد لإجراء المفاوضات في ظل وساطة كريستيان الرابع ملك الدنمرك. وكان هذا الفصل "المطهر" ضرورياً بسبب عدم رغبة المندوبين السويديين في الاجتماع تحت رياسة ممثل البابا، ورفض ممثل البابا أن يجلس في صعيد واحد مع "الزنادقة".
وجاء التأخير نتيجة إجراءات الأمن وقواعد البروتوكول، واستحث انتصار تورستنسون في بريتنفيلد الإمبراطور إلى الوعد بأن مندوبيه سيصلون في 11 يوليو 1643، وتلكأ المندوبون الفرنسيون بينما كانت فرنسا تدبر التحالف مع المقاطعات المتحدة (في الأراضي المنخفضة) ضد أسبانيا. وافتتح مؤتمر وستفاليا شكلاً في 4 ديسمبر 1644 وضم 135 عضواً بما فيهم رجال اللاهوت والفلاسفة.
وانقضت منذ ذاك اليوم ستة شهور في تحديد نظام الأسبقية في دخول المندوبين إلى القاعات وجلوسهم حيث كان السفير الفرنسي يرفض أن يدخل في المفاوضات إلا إذا خوطب بلقب "صاحب الفخامة". وعندما وصل السفير الأسباني تجنب السفير الفرنسي ونأى بنفسه عنه، لأن أياً منهما لا يعترف للآخر بالأسبقية وكان التواصل بينهما عن طريق شخص ثالث. ورفضت فرنسا الاعتراف لفيليب الرابع بلقب ملك البرتغال وأمير كاتالونيا. كما رفضت أسبانيا الاعتراف بلقب ملك نافار للويس الرابع عشر. وتنازع المندوبون السويديون فيما بينهم وأضاعوا الوقت حتى صدرت إليهم أوامر الملكة الشابة الجزئية كريستينا بأن يصلحوا فيما بينهم ثم يعقدوا مع العدو. وفي هذه الفترة كانت الحرب مستمرة وكانت الرجال تذهب إلى الحرب لتلاقي حتفها.
وعلى قدر ما كانت جيوش كل فريق منتصرة أو مقهورة، تلكأ المندوبون في المفاوضات أو عجلوا بها، وشغل المحامون أيما شغل بخلق الصعوبات أو ابتداع الحلول الوسط ووسائل التوفيق، يحلون العقد أو يزيدونها تعقيداً. وكان قواد فرنسا يسيرون بخطى واسعة، ومن ثم فإنها أصرت على تمثيل كل أمراء ألمانيا في المؤتمر، على الرغم من أن معظمهم كان قد عقد الصلح مع الإمبراطور منذ أمد طويل. وطلب إلى الزمن أن يتوقف حتى يرسل كل الناخبين والأمراء والمدن الإمبراطورية ممثليهم، ورغبة في إضعاف مركز فرنسا، عمدت أسبانيا (8 يناير 1648) إلى توقيع صلح منفرد مع المقاطعات المتحدة-التي كانت لتوها قد وعدت فرنسا بعدم توقيع صلح منفرد، ولكن الهولنديين لم يكونوا ليضيعوا الفرصة التي لاحت لهم ليكسبوا بجرة قلم ما قاتلوا من أجله طيلة ثمانين عاماً. فكان جواب فرنسا على هذا أنها رفضت عقد الصلح مع أسبانيا، واستمرت الحرب بينهما حتى صلح البرينيه 1659.
وكان يمكن أن ينفض المؤتمر دون نتيجة، لولا اجتياح تورن لبافاريا، وهجوم السويد على براغ (يوليو 1648) وهزيمة الأسبان في لنز (2 أغسطس) فإن هذه الأحداث كلها أقنعت الإمبراطور بالتوقيع، على حين أن ثورة الفروند في فرنسا (يوليو) أكرهت الكاردينال مازارين على تقديم بعض التنازلات التي تطلق يده للحرب في الداخل. وعلى هذا، وقعت آخر الأمر معاهدتي وستفاليا في أوسنابروك ومونستر في 15 مايو و 24 أكتوبر 1648.
نتائج الصلح
1- حصلت سويسرا وهولندا وسافوي ومانتوا وتوسكانيا ولوكا ومودينا وبارما على اعتراف رسمي باستقلالهما (وقد عرفت هذه الأراضي استقلالا فعليا منذ زمن قبل الصلح).
2- معظم بنود الصلح وضعت بتأثير من الكاردينال مازارين (Cardinal Mazarin) الحاكم الفعلي لفرنسا في ذلك الوقت نظرا لصغر سن لويس الرابع عشر. ولذلك كان أكبر الغنم لفرنسا (التي مولت ثروتها السويديين المنتصرين وفرض قوادها الصلح فرضاً) فسلمت إليها أسقفيات متز وفردان وتول قرب اللورين ومدن الدكابول (عشرة مدن) في الألزاس (من دون أسقفية ستراسبورغ).
3- نالت السويد على تعويض وعلى السيطرة على مقاطعة بومرانيا الغربية (وتعرف ببومرانيا السويدية)و مدينة ويزمار وأسقفيتي بريمن وفيردن. وبذلك سيطرت على منطقة مصبات أنهر الأودر والب وويزر. وحصلت السويد على ثلاثة أصوات في مجلس الأمراء في الرايشتاغ الألماني.
4- حافظت بافاريا على وضعها كبالاتينة انتخابية مع صوتها الانتخابي في المجلس الانتخابي الإمبراطوري (الذي ينتخب الإمبراطور الروماني المقدس). والذي منحتها بعد الحظر على البالاتيني المنتخب فريدريك الخامس عام 1623. الأمير-البالاتيني ابن فيردريك أعطى صوتا انتخابيا ثامنا.
5- قسمت البالاتينات بين الأمير-البالاتيني المعاد تنصيبه شارل لويس أبن ووريث فريدريك الخامس والدوق-المنتخب ماكسيميليان بافاريا وبذلك تكون قسمت بين البروتيستانت والكاثوليك. حصل شارل لويس على البالاتينات السفلى على الراين وحافظ ماكسيميليان على البالاتينات العليا إلى الشمال من بافاريا.
6- حصلت براندنبورغ - بروسيا (لاحقا بروسيا) على بوميرانيا الشرقية وأسقفيات مغدبورغ وهالبرستاد وكامين ومندن.
7- بالنسبة لحكم الدوقيات المتحدة يوليتش-كليفس-برغ بعد وفاة الدوق عام 1609, فقد أعطيت يوليتش وبرغ ورافنشتاين إلى كونت-بالاتين نيوبورغ وإعطيت كليفس ومارك ورافنسبرغ إلى براندنبورغ.
8- تم الاتفاق على أن يتناوب على منصب أمير أسقفية أوسنبروك البروتستانت والكاثوليك وأن يختار الأساقفة البروتيستانت من ال برونسفيك-لونيبورغ.
9- تم التأكيد على استقلالية مدينة بريمن.
10- إزالت الحواجز أمام الأعمال التجارية والاقتصادية التي وضعت أيام الحروب واتفق على حرية الملاحة بدرجة ما في نهر الراين.
نتائج غير مباشرة
الإمبراطورية المقدسة
وكان على الإمبراطور أن يقنع بالاعتراف بحقوقه الملكية في بوهيميا والمجر. ومن ثم اتخذت إمبراطورية النمسا والمجر شكلها على أنها حقيقة واقعة في هيكل الإمبراطورية المقدسة.
لقد انهارت اقتصاديات الإمبراطورية المعمرة، من جهة بسبب نقص السكان وتدهور الصناعة والتجارة أثناء الحرب، ومن جهة أخرى بسبب مرور المنافذ النهرية الكبيرة إلى دول أجنبية من منافذ الأودر والألب إلى السويد، والراين إلى المقاطعات المتحدة.
فرنسا
سمحت نتائج الصلح لاحقا للويس الرابع عشر بالاستيلاء على فرانشن كونتية واللورين وتحقيق هدف ريشيليو -الذي كان الآن قد فارق الحياة- في كسر شوكة آل هابسبورغ ومد حدود فرنسا، وتمكين وحدة فرنسا ودفاعها، والإبقاء على فوضى الإمارات في الإمبراطورية، وعلى الصراع بين الأمراء والإمبراطور، وعلى النزاع بين الشمال البروتستانتي والجنوب الكاثوليكي، مما يحمي فرنسا من خطر ألمانيا موحدة. واحتلت أسرة البوربون مكان آل هابسبورغ بوصفها قوة عظمى مسيطرة على أوروبا، وسرعان ما علا شأن لويس الرابع عشر لقب بالملك الشمس.
بروسيا
للملاحظة التاريخية أن فرنسا دعمت أسرة هوهنزلرن الناشئة في الحصول على أكبر مكتسبات من الصلح على أساس إقامة قوة أخرى ضد آل هابسبورغ ولكن التاريخ خذل فرنسا حيث أن براندنبرج أصبحت لاحقا بروسيا والتي سوف تحدت فرنسا في عهد فردريك الأكبر وهزمتها على يد بسمارك.
السويد
إضافة إلى مكتسباتها من الصلح استولت السويد لاحقا على ليفونيا وأستونيا وأنجريا وكاريليا وفنلندا وأصبحت في عداد الدول العظمى باعتبارها سيدة البلطيق حتى مجيء بطرس الأكبر.
سيطرة الكنيسة
الضحية الخفية للحرب هي الكنيسة الكاثوليكية التي إضطرت إلى التراجع بموجب هذا الصلح. لقد كان على الكنيسة الكاثوليكية أن تتخلى عن قرار إعادة أملاك الكنيسة وأن تعود إلى الوضع الذي كانت عليه ممتلكاتها في 1624. وترى الأمراء مرة أخرى يقررون عقيدة رعاياهم. ومهما يكن من أمر، فإن هذا مكن الكنيسة من إخراج البروتستانتية من بوهيميا موطن إصلاح هس. لقد قضى على الإصلاح المضاد، ومثال ذلك أنه لم يكن محل نزع أن تقيم بولندا المذهب الكاثوليكي في السويد البروتستانتية، بضعف ما كان عليه من قوة من قبل.
وقد رفض ممثل البابا في مونستر أن يوقع المعاهدة. وفي 20 نوفمبر 1948 أعلن البابا إنوسنت العاشر "أنها غير ذات قوة شرعية ملزمة، ملعونة بغيضة، ليس لها أي أثر أو نتيجة على الماضي أو الحاضر أو المستقبل". وتجاهلت أوروبا هذا الاحتجاج. ومنذ تلك اللحظة لم تعد البابوية قوة سياسية عظمى، وأنحط شأن الدين في أوروبا.
أما بالنسبة للبروتستانت فكانت المعاهدة في جملتها -وهي ثمرة جهود كاردينال توفي وآخر حي- نصراً للبروتستانتية التي أنقذت ألمانيا على الرغم من احتجاج بعض البروتستانت وخاصة أولئك الذين فقدوا مساكنهم في بوهيميا والنمسا. لقد ضعفت في الجنوب وفي الراين، ولكنها في الشمال قويت عن ذي قبل، واعترفت المعاهدة رسمياً بكنيسة الإصلاح أو الكنيسة الكلفنية. وبقيت خطوط التقسيم الديني التي أقرت في 1648، دون تغيير جوهري حتى القرن العشرين، حين بدأ التغاير في معدلات المواليد أو نسب تزايد السكان، يوسع من رقعة الكثلكة بطريقة تدريجية سليمة.
ولكن على الرغم من إن الإصلاح الديني قد أنقذ، فإنه عانى، مع الكاثوليكية، من التشكك الذي شجعته بذاءة الجدل الديني. ووحشية الحرب، وقساوة العقيدة. وأعدم أثناء المعمعة آلاف من الساحرات. وبدأ الناس يرتابون في المذاهب التي تبشر بالمسيح وتقترف قتل الأخوة بالجملة. وكشفوا عن الدوافع السياسية والاقتصادية التي تسترت تحت الصيغ الدينية، وارتابوا في أن حكامهم يتمسكون بعقيدة حقة، بل أنها شهوة السلطة هي التي تتحكم فيهم-ولو أن فرديناند الثاني بسلطانه المرة بعد المرة، من أجل عقيدته. وحتى في أظلم العصور الحديثة هذه، ولى كثير من الناس وجوههم شطر العلم والفلسفة للظفر بإجابات أقل اصطباغاً بلون الدم من تلك التي سعت العقائد أن تفرضها في عنف بالغ. وكان جاليليو يفرغ في قالب مسرحي ثورة كوبرنيكس. وكان ديكارت يثير الجدل حول كل التقاليد وكل السلطة. وكان برونويشكو إلى أوروبا آلامه المبرحة وهو يساق إلى الموت حرقاً. لقد أنهى صلح وستفاليا سيطرة اللاهوت على العقل في أوروبا، وترك الطريق إلى محاولات العقل واجتهاداته، غير معبد، ولكن يمكن المرور فيه.
ويكي