سؤال موجه إلى الأكاديميين العرب
بقلم: فهمي هويدي
.....................
كان مدهشا ومخجلا حقا، غياب العالم العربي عن المعركة التي شهدتها بريطانيا خلال الأسابيع الأخيرة حول المقاطعة الأكاديمية للجامعات الإسرائيلية، إذ في حين حشدت إسرائيل حشودها بشكل غير عادي لإلغاء قرار الأكاديميين البريطانيين بالمقاطعة، فإنه باستثناء الجهد الفلسطيني، لم يكترث العالم العربي بما يجري، حتى أنه لم يغب فقط عن ساحة المواجهة، وإنما غاب أيضاً عن مقاعد المتفرجين! ولذلك لم يكن مفاجئاً لأحد أن تكسب إسرائيل الجولة، وأن يمنى جهد المقاطعة بنكسة كانت بمثابة ضربة لمساندي الشعب الفلسطيني وقضيته العادلة.
الأمر كان مفاجئاً منذ البداية، على الأقل بالنسبة للأغلبية التي تضع «الغرب» كله في سلة واحدة، من دون إدراك كاف للفروق بين أوروبا والولايات المتحدة، أو للتمايزات داخل كل قارة على حدة، ناهيك عن التمايزات داخل القطر الواحد. إذ لم يكن متوقعاً أن ينجح الأكاديميون البريطانيون المنصفون في استصدار قرار من نقابتهم التي تضم حوالي 50 ألف أستاذ جامعي، يدعو إلى مقاطعة اثنتين من الجامعات الإسرائيلية، الأولى «جامعة حيفا» بسبب مساندتها لسياسة قمع الفلسطينيين وللاحتلال، والثانية «جامعة بار إيلات» المؤيدة للمتطرفين الدينيين، خصوصاً بعدما افتتحت لها فرعاً في مستوطنة «ارييل» بالضفة الغربية المحتلة، وفي الاجتماع السنوي لنقابة أساتذة الجامعات الذي عقد 22 إبريل (نيسان) الماضي، اتفق أيضاً على إرجاء البحث في مقاطعة الجامعة العبرية للأسباب ذاتها.
هذا القرار لم يتمكن الأكاديميون البريطانيون المتعاطفون مع القضية الفلسطينية من استصداره في مؤتمرهم الذي عقد في العام الماضي (2004)، ولكن افتضاح السياسات الإسرائيلية الوحشية، إضافة إلى إقدام الكنيسة المشيخية بالولايات المتحدة على تجميد نشاطها في إسرائيل بسبب تلك السياسات، هذه الملابسات ساعدت على نجاحهم في استصدار القرار خلال المؤتمر الذي عقد هذا العام. وكانت للخطوة أصداؤها القوية في بريطانيا، ففي حين أدرجت نقابة معلمي المعاهد العليا والفنية مسألة المقاطعة على جدول أعمال مؤتمرها الذي يفترض أن ينعقد هذا الصيف، فإن الأوساط الموالية لإسرائيل أصيبت بصدمة، وأقامت الدنيا وأقعدتها، ليس فقط لأن من شأن القرار كشف سياسة تل أبيب وإدانتها، وإنما أيضاً خشية أن تتسع دائرة المقاطعة، ويحدث مع إسرائيل ما سبق أن جرى مع جنوب أفريقيا، التي تعرض نظامها العنصري لمقاطعة عالمية، كانت بمثابة إدانة وتوبيخ لذلك النظام.
تحركت على مستويات عدة كل القوى المساندة لإسرائيل، تتقدمها السفارة الإسرائيلية والمؤسسات اليهودية، بدءاً من الضغط السياسي الرسمي على أعلى مستوى، وانتهاء بممارسة ضغوط أخرى على نقابة الأساتذة الجامعيين، ومروراً بالتعبئة الإعلامية التي نددت بالقرار واعتبرته تهديداً لمسيرة «السلام» في المنطقة (!) وتعطيلا للجهود التي تبذل لإقامة حوار بين الإسرائيليين والفلسطينيين. في هذا الصدد فإن الصحف البريطانية الكبرى، الغارديان والاندبندنت مثلا، فتحت صفحاتها لعرض آراء مؤيدي المقاطعة ومعارضيها، وكان ملاحظاً أن المنافسة التي جرت هذا الأسبوع على صفحات «الغارديان» حول مسألة المقاطعة، اشترك فيها نفر من مثقفي جنوب أفريقيا، الذين عاشوا سنوات التمييز العنصري، فقد أيد المقاطعة وزير جنوب أفريقي، أعاد إلى الذاكرة واقعة مقاطعة 500 أكاديمي بريطاني لجامعات ونظام بريتوريا العنصري في الثمانينيات، بعد طرد جامعيين من وظائفهم، وتحدثت مقالته عن التشابه الكبير بين النظام العنصري السابق في جنوب أفريقيا وبين ممارسات دولة إسرائيل، واستشهدت في ذلك بقول رجل الدين الأفريقي البارز ديزموند تونو، أن نظام التفريق العنصري في إسرائيل أسوأ وأشد وطأة منه في جنوب أفريقيا، في المقالة أيضاً نقد للجامعات الإسرائيلية، التي التزمت الصمت إزاء السياسات القمعية والوحشية للدولة، خصوصاً التمييز الذي يمارس ضد عرب إسرائيل.
في مقابل هذه الشهادة، نشرت الغارديان مقالة «موالية» حملت توقيع أحد رؤساء التحرير السابقين لصحيفة «راند ديلي ميل» الصادرة في جوهانسبرج، ومعه أكاديمي إسرائيلي من جامعة بن جوريون، استهلها الكاتبان بشجب الاحتلال الإسرائيلي للضفة والقطاع، ثم إدانة المقاطعة التي تلحق الأذى بآخر مكان متروك للنقاش في إسرائيل، وهو الجامعات، وذهب الكاتبان إلى أن المقاطعة تعطي زخماً جديداً لليمين المتطرف الذي سيستخدم هذا الحدث ليؤكد أن العالم بأجمعه يكره اليهود ويريد هلاكهم، أما جديد المقالة فيتلخص في نقطتين تتعلقان بقضايا إسرائيل ليس من المألوف إيرادهما لدى التكلم عن قضايا نظام جنوب أفريقيا العنصري هما:
* هل يمكن نقد عنصرية إسرائيل والصمت حول عنصرية دول الجوار وسياساتها القمعية إزاء الأقليات الدينية أو العرقية أو سياساتها المجحفة إزاء نساء؟
* المقاطعة البريطانية للجامعات في جنوب أفريقيا في عهد الامارتايد كان لها أثرها السلبي، لأنها لم تؤد في نهاية المطاف إلا إلى حرمان جامعات جنوب أفريقيا من الأكاديميين البريطانيين، الذين كانوا يضخون في تلك الجامعات أفكاراً جديدة، وحيوية وشجاعة سياسية، وكان ذلك الاعتبار أحد العوامل التي أدت إلى تراجع حملة المقاطعة في بريطانيا لجامعات جنوب أفريقيا.
الحوار كان له صداه في داخل إسرائيل، حيث نشرت صحيفة «يديعوت احرونوت» مقالة لأستاذ علم الاجتماع اوري رام، انتقد فيها تواطؤ الجامعات مع الاحتلال، ووجه كلامه إلى رؤساء الجامعات الإسرائيلية قائلا: «لن يحاكمكم المستقبل على عدد خريجي جامعاتكم أو عدد المقالات العلمية التي أصدرتموها بل على مواقفكم أمام الاحتلال والاضطهاد»، كذلك أكد رام على أنه يقف ضد المقاطعة لأنها تضع هذه المسألة في الواجهة، ينسي الناس أن السيئ في الأمر هو الاحتلال. جامعي إسرائيلي آخر هو شلومو صاند طالب في «هارتس» بمقاطعة مشروع جامعة ارييل على الأقل تلك المستوطنة الإسرائيلية التي اقيمت في قلب الضفة الغربية للحيلولة من دون اقامة الدولة الفلسطينية في المستقبل.
وبينما جندت السفارة الإسرائيلية كل ما تملك من امكانيات واتصالات لحمل نقابة الأكاديميين البريطانيين على الرجوع في قرارها، تلقت فكرة المقاطعة ضربة موجعة، كان أحد الأكاديميين الفلسطينيين شريكاً فيها للأسف، إذ قبل حوالي أسبوع من انعقاد اجتماع اتحاد الأساتذة الجامعيين ـتحديداً في 19 ـ 5 نشر في لندن بيان مشترك وقعه الدكتور سري نسيبه رئيس جامعة القدس ومناحم ماجيدور رئيس الجامعة العبرية بالقدس المحتلة ، أعربا فيه عن حرصهما على تمتين الروابط الأكاديمية بين المؤسستين، وتحدث البيان عن أن «التعاون» بدلا من المقاطعة هو الذي سيحل مشاكل الشعبين.
أثار البيان موجة استياء واسعة تحث على مطالبة الدكتور محمد ابو زيد رئيس نقابة الأساتذة الجامعيين الفلسطينيين بطرد نسيبه من النقابة، كما حث مجلس إدارة الجامعة على تسريحه لانه خرج على الإجماع الأكاديمي والشعبي الفلسطيني.
في يوم 26/5 الذي كان محدداً للاجتماع الاستثنائي لاتحاد الأكاديميين البريطانيين، وقف بعض المتظاهرين أمام مقر الاتحاد حاملين لافتات بعضها يدعو إلى إلغاء قرار المقاطعة، والبعض الآخر يدعو إلى تحرير فلسطين من الاحتلال، وفي الداخل كان الحضور غير عادي، وكان واضحاً أن مؤيدي إسرائيل جاءوا مصرين على كسب الجولة، وطبقاً للتصريحات التي نشرتها «الشرق الأوسط» على لسان الدكتورة سويلا كويل صاحبة مشروع المقاطعة، فإن الهيئة التنفيذية للنقابة جاءت خاضعة للضغوط، ومصممة على إلغاء القرار، وهو ما لم يحدث طيلة الخمسة عشر عاماً الماضية.. وتحقق للإسرائيليين ما أرادوا!
لم أقرأ فيما نشر من تقارير حول الموضوع أن السفارات العربية في لندن اعتنت بالأمر ـ وهي معلومة أرجو ألا تكون صحيحة ـ وكان واضحا:ً أن بعض الناشطين الفلسطينيين وحدهم الذين تحملوا العبء، وساندوا قدر استطاعتهم أولئك النفر من الأكاديميين البريطانيين الشرفاء، في مسعاهم للدفاع عن مظلومية الشعب الفلسطيني، وكان مؤسفاً أيضاً أن الإعلام العربي غاب عن المشهد، ولم تهتم به سوى الصحف العربية الصادرة في لندن. الأمر الذي يجدد السؤال حول المكانة التي باتت تحتلها قضية فلسطين ضمن أولويات الخطاب السياسي العربي في الزمن الراهن، وهي التي كانت «قضية مركزية» في زمن مضى.
يبدو المشهد مفجعاً من هذه الزاوية، ولا يخفف من حجم الفجيعة فيه سوى موقف المقاطعة الذي لا يزال يلتزم به أغلب المثقفين والأكاديميين العرب، حتى في بلد مثل مصر، الذي كان سباقاً إلى التطبيع مع إسرائيل ـ للأسف! ـ فإن نوادي هيئات التدريس في كل جامعاته لها قرارها المعلن الرافض للتطبيع والمتمسك بالمقاطعة، طالما استمرت السياسة الإسرائيلية إزاء الفلسطينيين على ما هي عليه.
إن القصة لم تنته في بريطانيا، فالأكاديميون الداعون إلى المقاطعة، لا يزالون على موقفهم الشخصي ودعوتهم إلى المقاطعة الجماعية مستمرة، ثم انهم بما فعلوه نجحوا في فضح السياسة العنصرية الإسرائيلية.
والسؤال الذي يشغلني هو: كيف نساندهم ونشد أزرهم، بعد أن نعبر لهم عن عميق الاحترام وبالغ التقدير؟.. السؤال موجه إلى الأكاديميين والمثقفين العرب، وليس السياسيين يقيناً!