بقلم : أ.د. عبد القادر عابد الجامعة الأردنية
قال تعالى: وسخر لكم ما في السماوات وما في الأرض جميعاً منه إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون (الجاثية:13)، وقال تعالى: ثم استوى إلى السماء وهي دخان فقال لها وللأرض ائتيا طوعاً أوكَرْهاً قالتا أتينا طائعين
(فصلت: 11). هاتان آيتان من بين عدد كبير من آيات القرآن الكريم تتحدث بوضوح كبير عن تسخير الكون ككل تبعاً لإرادة الله عز وجل وليتبوأه الإنسان بعد حين. وكأن الله جلَّت قدرته قد وضع في الكون منذ نشأته الأولى "جينات" تسيّره في الطريق الذي رسمه الله له. تحدثنا في عدد سابق عن واحدة من هذه الجينات أو البصمات الوراثية وهي أنه منذ الثواني الأولى لنشأة الكون تقرر أن يكون البروتون أخف قليلاً من النيوترون ليصبح من جراء ذلك الهيدروجين العنصر الأول في تكوين مادة الكون وهو أساس تكوين النجوم والمجرات الذي أدى في النهاية لوجود الإنسان. وفي هذا المقال نتحدث عن بصمة وراثية أخرى هي القوة النووية القوية، وكيف صاغت مادة الكون منذ البداية وفي داخل النجوم ليوجد الإنسان والحياة.
القوى الموجودة في الكون
في الكون أربع قوى صاغت الكون بالشكل والمكونات التي نراها اليوم، وهي ما زالت تصوغه. هذه القوى هي: القوة النووية القوية: وهي القوة التي تمسك البروتونات بعضها مع بعض أي داخل نوى الذرات على الرغم من التنافر الشديد بينها بسبب شحناتها الموجبة المتشابهة. وكذلك النيوترونات.
القوة الكهرومغناطيسية (Electromagnetic force): وهي قوة التجاذب أو التنافر بين الجسيمات المشحونة كهربائيّاً، وهي التي تقوم بعملية الترابط بين الذرات وتكوين الجزيئات والمركبات المختلفة التي نعرفها في الكائنات الحية والجمادات. القوة النووية الضعيفة: وهي القوة المسؤولة عن تفكك أو تحلل مكونات نوى الذرات بخروج أشعة ألفا وبيتا وجاما بسبب عدم استقرار هذه النوى. قوة الجاذبية (Gravity): وهي تعمل بين الأجسام البعيدة بعضها عن بعض كالنجوم والمجرات والكواكب. وهي المسؤولة إلى حد كبير عن هندسة الكون عبر تاريخه. فلو فرضنا أن قوة القوة النووية القوية تساوي (1)، فإن القوة الكهرومغناطيسية تكون قوتها أضعف من القوة القوية بمقدار (137) مرة، بينما القوة الضعيفة تكون أضعف بمقدار (100) ألف مرة. أما قوة الجاذبية فأضعف من ذلك بكثير جدّاً. ومن ثَمَّ فالقوة القوية هي الأقوى بين القوى الأربع المذكورة آنفاً.
وكما هو واضح فالقوى الثلاث الأولى تعمل على مستوى الذرة. وينحصر دورها النهائي في تخليق العناصر المختلفة المكونة لكل أشكال المادة في الكون بخلاف الجاذبية التي تعمل على هندسة الكون الواسع. فالعناصر ومن ثَمَّ المركبات هي المكون لمادة أجسام الإنسان والحيوان والنبات، والكواكب من صخور وماء وغازات، وكذلك النجوم والمجرات. أي أن القوة النووية القوية هي المسؤولة عن تكوين أجسامنا ابتداء.
وحتى يبقى المقال في حدود النشر حجماً، فسيقتصر حديثنا على القوة النووية القوية وعلاقتها في تسخير الكون لصالح الإنسان والحياة الراقية فيه، مع وعد بكتابة مقال آخر عن دور قوة الجاذبية في هندسة الكون: نشأته وحاضره ومستقبله، كما يراها العلم الحديث.
القوة النووية القوية: كيف تعمل؟
قبل أن نتحدث عن دور هذه القوة في تسخير الكون جميعه ليتبوأه الإنسان وأيُّ حياة عاقلة مشابهة، دعونا نقدّم لذلك عن ماهيَّة هذه القوة وكيف تعمل. يعلم القارئ الكريم أن ذرات العناصر مكوّنة من نواة للذرة في المركز يحيط بها عدد معين من الإلكترونات. وفي النواة توجد البروتونات التي يحمل كل واحد منها شحنة موجبة واحدة، والنيوترونات عديمة الشحنة. أما الإلكترونات التي تدور حول النواة فيحمل كل منها شحنة سالبة واحدة. ومن المعروف من العلم بالضرورة أن عدد الإلكترونات يساوي عدد البروتونات في الذرة الواحدة حتى تصبح الذرة مستقرة كهربائيّاً، أي ليست مشحونة كهربائيّاً. الشكل (1) يوضح ما قلناه وهو معروف. لكننا نضيف إلى ذلك -ومن باب تذكير القارئ- أن عنصر الهيدروجين يشذ عن جميع العناصر الأخرى في أن نواته لا تحوي سوى بروتوناً واحداً فقط وإلكتروناً واحداً فقط. شكل (1) أيضاً.
وهنا يأتي دور القوة النووية القوية. فالهيدروجين لا يحتاج لهذه القوة لأن في نواته بروتوناً واحداً فقط. أما بقية العناصر الطبيعية وعددها (91) ففي نواها عدد من البروتونات من اثنين وحتى (92) بروتوناً وعدد مساوٍ أو يزيد من النيوترونات. وبالتالي فهي بحاجة ماسة لهذه القوة حتى تتشكل. ومن ثَمَّ كيف يمكن أن نضع في حيز النواة الصغير جدّاً هذا العدد من الجسيمات ذات الشحنة المتشابهة دون أن تتنافر مع بعضها البعض؟ هذا هو دور القوة النووية القوية. وحتى تصبح القوة النووية القوية فاعلة وتتغلب على قوة التنافر، لابد أن يقترب البروتون من البروتون الآخر قرباً شديداً جدّاً بحيث تصبح المسافة بينهما أقل من 10 12- مم. ولا يمكن أن يحدث مثل ذلك التقارب في الظروف العادية التي توجد على سطح الأرض مثلاً. ومن ثَمَّ فهناك شرطان لابد أن يتوافرا لإحداث هذا التقارب الشديد: أولهما: أن يحدث التقارب في درجات حرارة عالية جدّاً من رتبة (15) مليون درجة مطلقة أو يزيد. وثانيهما: أن يحدث التقارب في حيز مغلق تحت ضغط شديد جدّاً لإجبار البروتونات والنيوترونات على الالتقاء، لا بل على التصادم المؤدي إلى الاندماج. هذان الشرطان موجودان في الطبيعة في جوف النجوم فقط. أما على الأرض ففي جوف المفاعلات النووية. تعمل الحرارة العالية في جوف النجوم على تحريك البروتونات بسرعة عالية جدّاً بينما يجبر الضغط العالي في هذا الحيز المغلق على الالتقاء والتصادم والاقتراب الشديد. فإذا كانت الحرارة والضغط كافيين لإحداث التقارب الذي أشرنا إليه التصق البروتونان بالقوة النووية القوية. وبهذا يصبح في النواة بروتونان، وهكذا يمكن أن نضيف بروتونات أخرى بالطريقة نفسها. وبهذه الطريقة المبسطة تتخلق العناصر في جوف النجوم مثلاً. الشكل (2) يوضح ما ذهبنا إليه. ولكن ما قيمة كل ذلك للكون والحياة والإنسان؟
اللحظات الأولى من نشأة الكون
قلنا - في عدد سابق من هذه المجلة - إنه في الدقائق الثلاث الأولى من بدء نشأة الكون، تخلَّقت البروتونات والنيوترونات بحيث كانت نسبتها 1:7 على الترتيب. كان الكون كثيفاً جدّاً وكانت درجة حرارته أعلى كثيراً من درجة حرارة جوف النجوم. بمعنى أن الظروف كانت مواتية لعمل القوة النووية القوية. فالتقت جميع النيوترونات مع عدد مماثل من البروتونات وكوّنت ذرات الهيليوم وبقيت البروتونات الباقية على شكل هيدروجين. وكانت نسبتهما 1:3 أي أن ثلاثة أرباع مادة الكون الأولى كانت هيدروجين والربع الباقي من الهيليوم. في هذه المرحلة المبكرة جدّاً من عمر الكون لم ينشأ غير الهيدروجين والهيليوم وقليل جدّاً من عنصر أو اثنين خفيفين. وهنا لابد من تذكير القارئ الكريم بأن نواة ذرة الهيليوم تتكون من اندماج أربعة بروتونات بواسطة القوة القوية. وكأن هذه القوة الصمغ الذي يمسك هذه البروتونات بعضها ببعض في حيز النواة الصغير. ونضيف هنا أنه لو كانت القوة النووية أضعف قليلاً مما هي عليه فعلاً لمَاَ تشكل الهيليوم ولبقي الكون جميعه مكوناً من الهيدروجين فقط. ولمَاَ استطاع الهيدروجين أن يحترق في جوف النجوم، وبالتالي لمَاَ تكونت النجوم والمجرات، والعناصر والإنسان والنبات والصخر والماء... إلخ. ولو كانت القوة النووية أقوى قليلاً مما هي عليه فعلاً لما بقي في الكون أي ذرة من الهيدروجين أو الهيليوم. ولتحولت مادة الكون جميعها في اللحظات الأولى لنشأته إلى عناصر ثقيلة لا يمكن أن تكوِّن النجوم والمجرات ناهيك عن تكوين مواد الأرض التي نعرفها الآن ولما تكوّن الإنسان في آخر المطاف. وسنعرض إلى هذه الأفكار بشكل أوضح في العنوان التالي.
مرحلة تكوّن النجوم والمجرّات
انتهت اللحظات الأولى من عمر الكون بتكونه من (75%) هيدروجين و(25%) هيليوم. ولأن الكون يتوسع ومن ثم يبرد، تماماً كما يتوسع هواء إطار السيارة ويبرد عند تنفيس الإطار مصداقاً لقول الله عز وجل: "والسماء بنيناها بأيد وإنا لموسعون" (الذاريات: 47). نقول: إنه بعد مرحلة تكوين الهيدروجين والهيليوم المشار إليها أصبحت درجة حرارة الكون أبرد كثيراً من أن تؤثر في إحداث أي اندماج لنوى الهيدروجين وبقي العنصران كما هما منذ اللحظات الأولى لبدء الخلق. بعد ذلك بآلاف السنين، وبسبب اختلافات قليلة في كثافة مكونات الكون في أماكن محددة منه، نشأت السدم (جمع سديم وهو غيمة ضخمة مكونة من الهيدروجين والهيليوم في هذه الحالة) (شكل 3). أصبحت هذه السدم تدور وتنكمش بفعل ضغط أجزائها الخارجية على داخلها أو ما يعرف الانكماش الجذبي. ومع استمرار الانكماش ازدادت درجة الحرارة والضغط في جوفها إلى أن بلغتا مبلغاً عظيماً كافياً لأن تبدأ القوة النووية القوية بالعمل. فبدأت كل أربع ذرات هيدروجين بالاندماج والتحول إلى ذرة هيليوم. هذا التفاعل منتج لقدر كبير من الحرارة بسبب تحول المادة إلى حرارة. فتحول السديم إلى نجم مضيء بحيث أصبحت القوة الناتجة عن حرارة جوف النجم مساوية لقوة الانكماش الجذبي واستقر النجم. ويكفي لتوضيح ما قلنا، أن حرارة جوف شمسنا (وهي نجم) تبلغ (15) مليون درجة مطلقة. وأنه في كل ثانية تمر على الشمس يندمج (600) مليون طن تقريباً من الهيدروجين متحولة إلى (596) مليون طن هيليوم. وأن الملايين الأربعة من أطنان الهيدروجين قد تحولت إلى الحرارة التي نراها تشع من الشمس. ولا يفوتنا أن نذكر أن الشمس ستبقى على هذا الحال ما دام الهيدروجين موجوداً في جوفها. ومن ثم سيبقى ضوؤها وحرارتها، وهما عمادا الحياة على سطح الأرض. نعود ونكرر أنه لولا وجود القوة النووية القوية لبقي السديم الأولي مكوناً من الهيدروجين فقط ولَمَا تمكنت ذراته من الاندماج ولبقي السديم سديماً هيدروجينيّاً إلى ما شاء الله، ولمَا تكونت شمسنا ولا غيرها من النجوم. هل انتهى دور القوة النووية القوية عند تكوين النجوم فقط؟ والجواب بالطبع لا. فما زال لها دور كبير تلعبه في تشكيل الكون من خلال تخليق العناصر في جوف النجوم. تعد النجوم مصنع العناصر جميعها التي نعرفها. فالعناصر لا تتخلق على الأرض أو في الفضاء بين النجوم والمجرات بل في جوف النجوم. تختلف النجوم بعضها عن بعض في كمية الهيدروجين المحترق في الثانية. فشمسنا نجم متوسط قدراً متوسطاً من الهيدروجين بالمقارنة مع نجم الشعرى اليمانية مثلاً الذي يحرق هيدروجينه بإسراف بالغ. وبالتالي ترتفع درجة حرارة جوفه مرات عديدة أكبر من حرارة جوف شمسنا. وهناك نجوم كالنجوم المستعرة تبلغ درجة حرارتها أكثر كثيراً من الشعرى اليمانية. في مثل هذه المفاعلات النووية النجمية مختلفة الحرارة لا يندمج الهيدروجين إلى هيليوم فقط بل تحدث عمليات اندماج أعلى مكونة العناصر تبعاً لدرجة حرارة النجم. وكمثال فقط، وحتى لا يمل القارئ، فقد تندمج (3) نوى هيليوم لتكوين عنصر الكربون. وقد تندمج نواتا ذرتي كربون لتكوين عنصر المغنيسيوم وهكذا. ولا ننسى أن نذكر القارئ بأن القوة النووية القوية هي التي تقوم بكل هذه الاندماجات.
مرحلة تكوّن الأرض والإنسان والحياة
وعندما ينفد وقود النجم فإنه يموت وتتناثر بقاياه في الكون. والقاعدة هنا أن النجوم المسرفة في حرق وقودها تعيش فترة أقصر من النجوم المقتصدة. ثم تتجمع مادة النجوم المتناثرة مكونة سدماً جديدة كالسدم التي تحدثنا عنها في الفقرة السابقة مع فارق واحد. هذا الفارق هو أن هذه السدم تحوي بالإضافة إلى الهيدروجين والهيليوم كميات قليلة من العناصر التي خلّقت في دورة حياة النجم الأولى. ولنأخذ شمسنا كمثال على ذلك. فقد نشأت شمسنا من سديم من هذا النوع من السدم الذي يحوي كمية معينة من العناصر التي تشكلت في نجوم سابقة على نشأة الشمس. وقد نشأت الشمس بالكيفية نفسها التي تحدثنا عنها قبل قليل في نشأة النجوم. وقد دخل أكثر من (99%) من مادة هذا السديم في تكوين الشمس نفسها. أما باقي السديم فقد نشأت منه الكواكب التي تدور حول الشمس. نترك الشمس الآن لأننا نعرف كيف تعمل كنجم بما قلناه في العنوان السابق ونتحدث عن كواكبها. انظر شكل 4 الذي يوضح مراحل تكون الشمس والكواكب في النظام الشمسي.
الكواكب أجرام سماوية باردة مادتها هي مادة السديم الذي تكونت منه الشمس. ففي المرحلة الأولى من تشكل الكواكب وهي ما زالت غازية سديمية، قامت الرياح الشمسية بدفع غازات الهيدروجين والهيليوم المكونة للكواكب القريبة من الشمس وهي عطارد والزهرة والأرض والمريخ. فلم يبق في هذه الكواكب الأربعة غير العناصر ال (92) التي نعرفها الآن في الأرض. أما بقية الكواكب البعيدة المشتري وزحل وأورانوس ونبتون فهي ما زالت غازية تركيبها كالسديم الذي نشأت منه هي والشمس.
واضح – إذن - أن الأرض قد ورثت عناصرها المكونة لها من نجوم قديمة. ثم بدأت هذه العناصر بالتفاعل بعضها مع بعض تفاعلات كيميائية عادية لتكوين المركبات والمعادن التي تشكلت منها صخور الأرض. وقد أسهم كثيراً وجود الماء على سطح الأرض في تنويع هذه التفاعلات ومن ثم تنويع الصخور الموجودة فيها وعليها. هذا الموضوع طويل ولا حاجة بنا إليه غير أن نقول أن بين هذه الصخور: الصخور الطينية أو الطين الذي خلق الله منه الإنسان أول مرة.
فالعناصر المكونة لأجسامنا هي من عناصر صخور الأرض التي نشأت في نجوم قديمة بفعل القوة النووية القوية. أكرر مرة أخرى وأقول: لو كانت هذه القوة أضعف قليلاً مما هي عليه فعلاً لما وجد في الكون غير عنصر الهيدروجين الذي لا يقوى على تشكيل أي عنصر آخر. وبالتالي لن توجد النجوم والكواكب والإنسان والحياة. ولو كانت أقوى قليلاً لَمَا بقي في الكون هيدروجين ولأصبحت مكونات الكون عناصر ثقيلة لا تقوى على الاندماج لتكوين النجوم ولأصبح الكون غير الكون الذي نشأنا منه وفيه بقدرة الله العظيم جلَّت قدرته.
أرأيت كيف وضع الله تبارك وتعالى هذه البصمة الوراثية (القوة النووية القوية) في الكون منذ الثواني الأولى لخلقه فيسير في الطريق المرسوم له حتى يتبوأه الإنسان أو ما يماثله من حياة عاقلة في أي مكان منه.