بسم الله الرحمن الرحيمأغرب تفسير (( للجن ))
وقعت في يدي نسخة من جريدة ( الاتجاه الآخر ) التي تصدر في ( هولندا ) وفي زاوية ( قضايا وآراء ) تحت عنوان (الجن حقيقة أم خيال) لباحث سوري يدعى (( سليم الجابي ))،
وهو تتمة لموضوع وسم بـ (تصحيح أفكار ومعتقدات) الحلقة الثانية، العدد:33/26/9/2001م ذكر فيه الكاتب أن الجن مخلوقات بشرية، وهم كالإنس، غير أنهم متميزون عنهم بأنهم ذوو سلطان وحكم وأصحاب أمر ونهي، وباختصار القول: ( هم الحكام والزعماء .. !؟ ) وليسوا مخلوقات غيبية مخلوقين من النار، كما يعتقده السذج من المسلمين والبسطاء من جهلتهم.
ولنستعرض فقرات مما جاء في هذا المقال للرد عليه وبيان حقيقتهم كما جاء في القرآن والحديث الشريف لا كما ذكره الكاتب مسنداً ادعاءه هذا إلى كتابين، الأول ( محيط المحيط ) لبطرس البستاني، والثاني ( فتح البيان ) وهما كتابان غير معروفين في الأوساط العلمية أو الدينية .
قال كاتب المقال: (( إن الجن هم زعماء الأقوام، وأنت يا عزيزي إذا رجعت إلى ( محيط المحيط ) تلاحظ انه وتحت فعل ( أنس ) يقول الإنس هم البشر، وخلاف الجن .
وإذا قلت ( فلان إنس فلان ) فمعناه صفيه وخاصته، وعليه فيصبح إطلاق كلمة ( إنس ) على الرعية والأقوام .
فهذه الحقيقة اللغوية كانت وراء تسمية زعماء الأقوام ( جناً ) وتسمية رعيتهم ( إنساً ) في كتاب الله عز وجل في الآية (56) من سورة الذاريات { وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون ما أريد منهم من رزق وما أريد أن يطعمون إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين } .
ثم يقول جواباً لسائل ( موهوم ): فقد يذهب ظنك إلى أن المقصود من كلمة ( جن ) الواردة في هذه الآية الكريمة هو ذلك المخلوق الناري الذي تصور وثنيو العرب وجوده تحت الأرض، وما يزال عالقاً في أذهان العرب والمسلمين المقلدين تقليداً أعمى لما توارثوه .. !
فقد يتبادر إلى ذهنك ذلك الظن المخالف للمعنى الحقيقي لكلمة ( جن ) الواردة هنا ... !
أما وقد شرحت لك أعلاه ( مصدر هذه التسمية ) المذكورة فقد عاد من الواجب عليك أن تعلم بان الله عز وجل قد أراد بكلمة ( جن ) في هذه الآية الكريمة طبقة أولي الأمر، وهم ( حكام الأقوام ) على مر الزمان، هذا أولاً .
وثانياً: والدليل الثاني الذي يثبت مصداقية المعنى الذي ذهبت إليه هو أن الله عز وجل قد قال: { وذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين } ففعل ( ذكّر ) معناه في المعجم : ذكر الناس وعظهم واجعلهم يذكرون أوامر ربهم عز وجل، وكلمة ( ذكرى ) هي اسم للتذكير وللعبرة، فيصبح المعنى : وذكر فإن الذكرى ... هو أن الله تعالى أوجب على رسوله الكريم وعلى كل من يصبح قيادياً في صفوف المؤمنين أن يذكرهم ويعظهم ويجعلهم يذكرون أوامر ربهم، فلو كان المقصود من كلمة ( جن ) الواردة في الآية محل البحث مخلوقاً آخر غير الناس فقد كان من واجب محمد عليه الصلاة والسلام رسول الله أن يقوم بوعظ وتذكير المخلوق الظني الموهوم بأوامر ربهم عز وجل، خصوصاً الفئات منهم الذين آمنوا به بعدما كانوا مشركين، فهل أوردت صحف التاريخ بأن محمداً قد أدى هذه الأمانة – إن كان الجن الذين ذكرتهم سورة الجن مخلوقاً آخر غير الإنسان .. ! ؟
وما دام هذا لم يحدث .. ! فلزم الاعتقاد بان كلمة ( جن ) الواردة في قوله تعالى: { وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون } بأن المقصود من هذه الكلمة هنا سبق أن بينته للقارئ العزيز فهذان دليلان ضمنيان مشتقان من ضمن هذه الآيات الكريمة، ويثبتان مصداقية المعنى الذي ذهبتُ إليه
ويعود الكاتب إلى خطاب المتسائل: ولربما تفكر بما قلته لك وتعود تسألني من جديد وتقول: ما هو المعنى، وما هو المقصود في هذه الحال من قوله جل جلاله في الآيات (29) وما بعدها من سورة الأحقاف { وإذا صرفنا إليك نفرا من الجن ... } .
إنهم حسب ما أورده صاحب ( فتح البيان ) المشهور ...! كانوا يشكلون وفداً من اليهود الذين كانوا يقطنون ( أفغانستان ) ومن المعلوم أن ملك بابل ( بختنصر ) الذي هاجم فلسطين وسبى الأسباط الاثنا عشر إلى العراق، وقام بهدم هيكل سليمان، فقد ضاقت أرض العراق بهم، فمنهم من هاجر إلى أرض فارس ومنهم من هاجر إلى أفغانستان .
والمهم أن اليهود الذين هاجروا إلى أفغانستان كانوا ينتظرون بعثة مشرع من بلاد العرب استناداً إلى نبوءة موسى الواردة في الإصحاح : 18/18 من سفر التثنية، والقائل (( أقيم لهم نبيا وسط إخوتهم مثلك واجعل كلامي في فمه فيكلمهم بكل ما أوصيته به . ))
فبناء على وجود هذه النبوءة المذكورة فقد كان يهود المهجر في أفغانستان خاصة ينتظرون بعثة محمد العربي فلما وصلتهم أخبار ادعاء محمد بن عبد الله النبوة انتخبوا من جانبهم نفراً مندوبين عنهم وأرسلوهم إلى مكة للتحقق من صدق نبوءة هذا الرسول العربي .
فهذا النفر من يهود أفغانستان هم الذين أشير إليهم في هذه الآيات الكريمة من سورة الأحقاف وحسبما ذكر مؤلف ( فتح البيان ) في المجلد الثامن منه .
أما لماذا استعمل القرآن المجيد لهذا النفر من يهود أفغانستان كلمة ( جن ) فلاشتقاق هذه التسمية هنا من المصدر الثلاثي ( جن ) بمعنى اختفى واستتر .
فأهل أفغانستان كانوا بالنسبة لعرب شبه الجزيرة العربية ( جن ) لبعدهم عنهم ولعدم مخالطتهم إياهم في ذلك التاريخ، ولعدم وجود المواصلات آنذاك، ولذلك استحقوا أن يسميهم القرآن الكريم ( نفرا من الجن ) .
ولمصداقية ما أورده مؤلف ( فتح البيان ) في { وإذ صرفنا إليك نفراً من الجن } لأن صرفنا إليك: دفعنا إليك ( محيط المحيط ) وهل يدفع الله جل شأنه مخلوقاً آخر لا علاقة له برسالة الإسلام إلى رسول الله ليستمع إلى آيات الكتاب المنزل عليه وليصبح من المؤمنين به ؟
إلا إذا كان المقصود من كلمتي ( نفر من الجن ) سبعة أشخاص غريبين عن شبه جزيرة العرب وليسوا عرباً ثم يوجه النصيحة .
وعليه، فما عليك يا عزيزي القارئ إلا أن تمعن نظرك في جميع ما ذكرته لك وتستفتي عقلك وقلبك ولتدرك بان كلمة ( جن ) الواردة في هذه الآيات من سورة ( الأحقاف ) قد قصد بها هذا الإنسان نفسه وليس مخلوقاً آخر سواه ! ؟ )) انتهى باختصار .
الــرد :
أقول وبالله التوفيق: يبدو من كلام الكاتب مسحة دينية تشير إلى إسلامه، وهذا يختصر علينا الطريق لأن الإسلام يعني الاستسلام لله .
وعلى كل حال فان هذا ليس ذا أهمية كبيرة، لأننا أمام موضوع نناقشه علمياً سواء كان الكاتب مسلماً أو غير مسلم .
1 . إن ما ذهب إليه الكاتب في تفسيره ( للجن ) الحكام والزعماء من البشر، حقاً إنه تفسير غريب وعجيب بل إنه أغرب تفسير وأعجبه، ولعله قال ما قال ونشره على الناس مخالفاً المفسرين قاطبة ليعرف ويشتهر، على حد المثل القائل ( خالف تعرف ) .
إذ لم نجد فيما قرأنا وسمعنا من ذهب إلى تفسير ( الجن ) ما ذهب إليه الكاتب ولو في رأي شاذ أو تفسير غريب، وليته ذكر لنا مصدراً واحداً يعتمد عليه من قبل بعض العلماء أو المفسرين أو المحدثين أو كتاب السير والتاريخ .. !
لقد ذكر مصدرين لتفسيره هذا، الأول ( محيط المحيط ) لبطرس البستاني، وهو كتاب لغة وأدب لا يعتمد عليه ولا يؤخذ به في الحقائق الدينية والعقيدية، ولاسيما تفسير كتاب الله عز وجل .
والمصدر الثاني ( فتح البيان ) كتاب مجهول في الأوساط العلمية، لا يعرف ولا يعتمد عليه في بيان الأحكام وتصحيح الأفكار والمعتقدات .
والذي استغربه من الكاتب هو اكتفاؤه بالرجوع إلى هذين الكتابين دون غيرهما من كتب أهل العلم، وهي كثيرة ومتداولة في جميع أصناف العلوم، من تفسير، وحديث، وسير وتاريخ وغيرها، والباحث عن الحق الذي يريد تصحيح أفكار الناس ومعتقداتهم لا يكتفي بكتابين يؤيدان وجهة نظره وإنما يرجع إلى مصادر الفريق الذي يخالفه في الرأي، ويستعرض بعضها على الأقل ولاسيما الذين وصفهم بالسذج والبسطاء من جهلة المسلمين . على حد قوله .
عزيزي القارئ: الجن عالم غيبي من العالمين، ليس بإمكاننا أن نتصوره أو نقول فيه برأينا لأنه خارج عن حس الإنسان، وليس لنا سبيل إلى العلم به ومعرفته إلا الخبر الصادق
( الوحي ) الذي هو القرآن أو ما جاءنا عن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ( الموحى إليه ) من حديث صحيح رجاله ثقات وبالرجوع إلى القرآن نجد انه ذكر الجن في عدد من سوره وآياته، وسمى سورة منها ( الجن ) والقرآن يذكرهم على أنهم خلق من خلق الله تعالى، خلقهم من نار، واقرأ معي قول الله تبارك تعالى: { والجان خلقناه من قبل من نار السموم } الحجر: 17 ، أي نار خالصة شديدة الحرارة .
ويقول جل جلاله عن إبليس ( الذي هو مخلوق ناري باعترافه ): { خلقتني من نار وخلقته من طين } واكتفي بهاتين الآيتين عن سرد الآيات الأخرى إذ فيهما الغناء .
وجاءنا عن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أنه قال: (( خلقت الملائكة من نور، وخلق الجان من مارج من نار، وخلق آدم مما وصف لكم )) أي من الطين، رواه الإمام احمد عن عائشة رضي الله عنها. فأيهما نصدق يا كاتب المقال ومصحح الأفكار والمعتقدات .. !؟ كتاب الله الصريح في آياته وحديث رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم الذي فوض إليه الله بيان ما أنزل إليه حيث قال تعالى: { وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم }، أم صاحبي ( محيط المحيط ) و( فتح البيان ) وأيهما أجدر بالوصف بالسذاجة والجهالة، المسلمون الذين وصفتهم بهما أم أنت ومن على مذهبك .. ؟
ويعود الكاتب فيكرر تفسيره الغريب ليؤكد عليه فيقول جواباً عن سؤال مختلق: فقد يذهب ظنك إلى أن المقصود من كلمة ( جن ) الواردة في هذه الآية الكريمة، ويعني قوله تعالى: { وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون } هو ذلك المخلوق الناري الذي تصور وثنيو جزيرة العرب وجوده تحت الأرض، وما يزال عالقاً في أذهان العرب والمسلمين المقلدين تقليداً أعمى لما توارثوه .
2 . في أي كتاب أم في أي حديث وجدت أن ( الجن ) هم حكام وزعماء الأقوام، اللهم إلا في ذينك الكتابين ولماذا أتعبت نفسك في مراجعة ( محيط المحيط ) و ( فتح البيان ) ولم تراجع كتاب الله عز وجل وهو بين يديك وفيه البيان ( لا: فتح البيان ) إذ يقول تعالى: { يا بني آدم لا يفتننكم الشيطان كما اخرج أبويكم من الجنة ينزع عنهما لباسهما ليريهما سوآتهما، إنه يراكم هو وقبيله من حيث لا ترونهم إنا جعلنا الشياطين أولياء للذين لا يؤمنون } الأعراف: 27 .
فهل كان زعماء و حكام الأقوام من هذا القبيل، يرون أتباعهم وهم لا يرونهم، هل كانوا يرون رعيتهم ورعيتهم لا تراهم ؟ أي جهل هذا، أخشى يا كاتبي العزيز أن يكون الشيطان قد أصابك بنصب وعذاب فلا تكن للشيطان وليا، وجدد إيمانك إن كنت مؤمناً فأنا لك ناصح أمين .
3 . أما قوله (( فلو كان المقصود من كلمة ( جن ) مخلوقا آخر غير الناس فقد كان من واجب محمد رسول الله عليه الصلاة والسلام أن يقوم بوعظ وتذكير المخلوق الظني الموهوم، فهل أوردت صحف التاريخ بان محمدا عليه الصلاة والسلام قد أدى هذه الأمانة .. ! ؟ ))
الجواب: نعم، أدى هذه الأمانة وبلغ الرسالة ونصح الأمة، فلقد كان رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم – قياماً – منه بواجب الرسالة العامة للإنس والجن يقوم بتبليغ الجن ( المخلوق الموهوم في نظرك )، وأنا انقل لك ما جاء في تفسير ابن كثير المشهور بين أهل العلم والذي حاز القبول والرضى من جماهير الأمة إذ يمتاز ( بالمأثور ) أي تفسير القرآن بالقرآن ثم بحديث رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ثم بأقوال الصحابة والتابعين رضي الله تعالى عنهم .
فهو يقول عند قوله تعالى: { قل أوحي إلي أنه استمع نفر من الجن فقالوا إنا سمعنا قرآناً عجباً، يهدي إلى الرشد فآمنا به ولن نشرك بربنا أحدا } الجن: 1-2 .
يقول تعالى: آمرا رسوله صلى الله تعالى عليه وسلم أن يخبر قـومه أن الجن استمعوا القرآن فآمنوا به وصدقوه وانقادوا له، كقوله تعالى: { وإذ صرفنا إليك نفراً من الجن يستمعون القرآن فلما حضروه قالوا أنصتوا فلما قضي ولوا إلى قومهم منذرين } الأحقاف: 29 .
ثم استشهد على ذلك بحديث رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم إذ يقول: روي عن الزبير ( وإذ صرفنا إليك نفراً من الجن يستمعون القرآن )، قال: بنخلة ورسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يصلي العشاء الآخرة { كادوا يكونون عليه لبدا } كانوا سبعة من جن نصيبين، فانظر رحمك الله كيف جاء الكاتب بهم من أفغانستان . وروى الحافظ البيهقي في كتابه ( دلائل النبوة ) عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: (( ما قرأ رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم على الجن ولا رآهم، انطلق رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم في طائفة من أصحابه عامدين إلى سوق عكاظ وقد حيل بين الشياطين وبين خبر السماء وأرسلت الشهب عليهم فرجعت الشياطين إلى قومهم فقالوا: مالكم ؟ فقالوا: حيل بيننا وبين خبر السماء وأرسلت علينا الشهب قالوا: ما حال بينكم وبين خبر السماء إلا شيء حدث فاضربوا مشارق الأرض ومغاربها وانظروا الذي حال بينكم وبين خبر السماء، فانطلقوا يضربون مشارق الأرض ومغاربها، يبتغون ما هذا الذي حال بينهم وبين خبر السماء، فانصرف أولئك النفر الذين توجهوا نحو ( تهامة ) إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وهو بـ ( نخلة ) عامداً إلى سوق عكاظ وهو يصلي باصاحبه صلاة الفجر، فلما سمعوا رجعوا إلى قومهم ( قالوا يا قومنا إنا سمعنا قرآناً عجباً يهدي إلى الرشد فآمنا به ولن نشرك بربنا أحدا ) وانزل الله على نبيه صلى الله تعالى عليه وسلم { قل أوحي إلي أنه استمع نفر من الجن ... }، وإنما أوحي إليه قول الجن )) البيهقي ورواه البخاري ومسلم بنحوه .
وعن عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنه قال: (( هبطوا على النبي صلى الله تعالى عليه وسلم وهو يقرأ القرآن ببطن ( نخلة ) فلما سمعوه قالوا أنصتوا، قال: صه، وكانوا تسعة أحدهم ( زوبعة ) فلما قضي ولوا إلى قومهم منذرين )) .
فهذا مع رواية ابن عباس يقتضي أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم لم يشعر بحضورهم في هذه المرة وإنما استمعوا قراءته ثم رجعوا إلى قومهم، ثم بعد ذلك وفدوا إليه أرسالاً قوماً بعد قوم وفوجاً بعد فوج .
قال الحافظ البيهقي: وهذا الذي حكاه ابن عباس رضي الله تعالى عنهما إنما هو أول ما سمعت الجن قراءة رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وعلمت حاله، وفي ذلك الوقت لم يقرأ عليهم ولم يرهم ثم بعد ذلك أتاه داعي الجن فقرأ عليهم ودعاهم إلى الله عز وجل .
روى الأمام مسلم عن عامر قال: سألت علقمة: هل كان ابن مسعود رضي الله تعالى عنه شهد مع رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ليلة الجن ؟ فقال علقمة: أنا سالت فقلت: هل شهد أحد منكم مع رسوا الله صلى الله تعالى عليه وسلم ليلة الجن ؟ قال: لا، ولكنا كنا مع رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ذات ليلة ففقدناه فالتمسناه في الأودية والشعاب، فقيل اسْتـُطيرَ؟ وقيل: اغتيل ؟ قال: فبتنا بشر ليلة بات بها قوم، فلما أصبحنا إذ هو جاءٍ من قبل حراء، قال: فقلنا يا رسول الله فقدناك فطلبناك فلم نجدك فبتنا بشر ليلة بات بها قوم، فقال: أتاني داعي الجن فذهبت معهم فقرأت عليهم القرآن، قال فانطلق بنا فأرانا آثارهم وآثار نيرانهم وسألوه الزاد فقال: (( كل عظم ذكر اسم الله عليه يقع في أيديكم أوفر ما يكون لحماً، وكل بعرة أو روثة علف لدوابكم، قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: (( فلا تستنجوا بهما فإنهما طعام إخوانكم )) مسلم في صحيحه .
فيا صاحبي هل كان طعام الحكام والزعماء العظام التي يطرحها أقوامهم من البشر أم الموائد الزاخرة بأنواع الأطعمة والأشربة .. ! ؟ أفيدونا رحمكم الله .
وروى الترمذي عن محمد بن المكندر عن جابر .. قال: (( خرج رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم على أصحابه فقرأ عليهم سورة ( الرحمن ) من أولها إلى آخرها فسكتوا، فقال: لقد قرأتها على الجن ليلة الجن فكانوا أحسن مردوداً منكم، كنت كلما أتيت على قوله تعالى { فبأي آلاء ربكما تكذبان } قالوا: لا شيء من نعمك ربنا نكـذب فلك الحمد . )) هكذا يكون تفسير كتاب الله لا كما جاء في ( محيط المحيط ) و ( فتح البيان ) يا مصحح الأفكار والمعتقدات ...
أما ما أشار إليه من المرحلة التاريخية حيث ذكر ( بختنصر ) وقتاله اليهود ثم تهجيرهم إلى أرض العراق ثم تفرقهم منها إلى بلاد فارس وأفغانستان، وزعمه بأن قوله تعالى: { وإذ صرفنا إليك نفرا من الجن .. } هم اولئك اليهود الذين أرسلوا وفداً عنهم حصرهم في سبعة أشخاص، وذكر لنا رواية من العهد القديم لإثبات مدعاه، فكلام باطل .
ثم لماذا أفغانستان ؟ لبعدهم من جزيرة العرب وعدم مخالطتهم إياهم ؟ هكذا علل الكاتب زعمه .. ! لماذا لا تكون الصين وهي أبعد من أفغانستان وقد قال صلى الله تعالى عليه وسلم : (( اطلبوا العلم ولو بالصين )) .
ثم لماذا لا يكون هذا النفر من النصارى في العراق ، وفي كتبهم أيضاً البشارة بمحمد صلى الله عليه وسلم وهم أقرب إلى الرسول عليه الصلاة والسلام والمؤمنين من اليهود وألينهم قلوبا، يقول تعالى: { لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا .. } والآية بينت بجلاء عداوة اليهود للمؤمنين، وسلكهم الله عز وجل والمشركين في سلك واحد .
ولما جاء على ذكر النصارى قال: { ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى .. } وقد أسلم منهم عدد لا يحصون وفي مقدمتهم ( سلمان الفارسي ) الباحث عن الحق رضي الله تعالى عنه فلم يزل ينتقل من راهب إلى راهب حتى عثر على بغيته ومطلوبه في المدينة المنورة فآمن برسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم .
فأيهما أجدر بإرسال وفدٍ عنهم، اليهود المعادين للمؤمنين أم النصارى الوادين لهم .. ! ؟
فلماذا أهملت هذا الكم الهائل من الأحاديث النبوية ولجأت إلى ( محيط المحيط ) و ( فتح البيان ) هل يعني هذا أنهما أصدق وأعلم من رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم في نظرك ؟ وهل لعاقل يحترم عقله أن يترك أهل البيت ويسأل المتلصص .. ! ؟
أخشى أن تكون يا أستاذ سليم ممن ينكرون السنة النبوية – وهنا الطامة الكبرى – لأن النبي الكريم عليه صلوات الله تعالى وسلامه حذرنا من طائفة تظهر في هذه الأمة وتدعي الاكتفاء بالقرآن دون حاجة إلى السنة النبوية إذ يقول صلى الله تعالى عليه وسلم : (( ألا هل عسى رجل يبلغه الحديث عني وهو متكئ على أريكته فيقول بيننا وبينكم كتاب الله فما وجدنا فيه حلالاً استحللناه وما وجدنا فيه حراماً حرمناه، ألا وإن ما حرم رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم كما حرم الله . ))، ويقول في حديث آخر (( ألا وإني أوتيت الكتاب ومثله معه )) .
ومن المعلوم من الدين بالضرورة أن طاعة رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم كطاعة الله ومعصيته كمعصيته، قال تعالى: { من يطع الرسول فقد أطاع الله } وقال جل جلاله: { وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا }، وفي القرآن الكريم آيات كثيرة بوجوب طاعة الرسول عليه الصلاة والسلام .
اسأل الله تعالى لك الهداية والعود الحميد إلى الحق وجادة الصواب ( فالعودة إلى الحق فضيلة وخير من التمادي في الباطل ).
عود على بدء :
من المعلوم أن عالم الجن عالم غيبي من جملة العوالم الغيبية الأخرى كعالم الملائكة وعالم الآخرة لم نطلع عليه وإنما أمنا به للخبر الصادق الذي هو ( الوحي ) وهو الطريق الوحيد الذي يوصل المعلومات إلى عالمنا هذا ومن ثم إلى عقولنا وأسماعنا فتستقر فيها .
فان خالف ذلك عقل الكاتب فليراجع حساباته مع معطيات إيمانه بالله وبالقرآن الذي يؤمن به إذ يقول تعالى : { الم، ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين الذي يؤمنون بالغيب ... } .
أما تساؤله: كيف يستطيع جسم ناري الاغتسال بالماء الذي سيطفئه، وكيف يصلي على سجادة فيحرقها ... ! ؟
فانه كلام عجيب يدل على جهل الكاتب بأقرب شيءٍ إليه، وهو جسمه وطبيعة تكوينه الجسدي، نقول له: يا هذا ألست مخلوقا من الطين .. ؟ فأين الطين والأوحال في جسدك ؟ لقد تحولت يا صاحبي إلى طبيعة أخرى ؟؟ ! كذلك الجن تحولت من النار إلى طبيعة أخرى، فكما تحولت أنت إلى لحم وعظام وأعصاب ودماء ... الخ كذلك فان الجن لم يعد على طبيعته وخلقته النارية وإنما صار مخلوقاً آخر يأكل ويشرب ويعقل ويتعب وينام ويتناسل ويموت ويحاسب في الآخرة هكذا يقول القرآن حيث يخاطب الجن والأنس بقوله (( يا معشر الجن والأنس ... )) .
ترى لو رميناك بكتلة من الطين متحجرة ألا تتألم مع أن هذه الطين على هذه الصفة هي مرحلة من مراحل تكوينك كما جاء في القرآن { من صلصال كالفخار } .
وأزيدك استفساراً آخر لم يخطر في بالك وهو: كيف يعذب الجن بالنار وهم مخلوقون من النار .. ؟
أليس هذا سؤالاً وجيهاً .. ! ؟ فكيف غاب هذا عن فكرك وعقلك العلمي .. ! ؟
وأما قوله: فان هذا المخلوق الناري الخفي عن أعيننا لا يكون مكلفاً بالإيمان برسالة أتى بها رسول من البشر، فهذا كان صحيحاً في فترة من حياة البشر حيث كان الرسل يبعثون إلى أقوامهم خاصة ولم تكن رسالة عامة، والآية التي استشهدت بها لدعم رأيك لا تؤيدك في زعمك.
فلما أذن الله تعالى أن يبعث رسولاً عاماً عالمياً للبشر والجن قاطبة اختار الله تعالى لها محمد بن عبد الله عليه الصلاة والسلام نبياً ورسولاً فأرسله إلى الثقلين جناً وإنساً وجعله خاتم أنبيائه ورسله، قال تعالى: { ما كان محمد أبا احد من رجالكم ولكن رسول الله وخاتم النبيين }، وقال جل ثناؤه: { وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين } .
وفي القرآن الكريم آيات كثيرة تنص على عمومية رسالته صلى الله تعالى عليه وسلم .
فتدبر هذه الآيات وراجعها في كتاب الله عز وجل كي تفرق بين الرسالات الخاصة والرسالة العامة الخاتمة .
ثم أوجه الخطاب لك يا أستاذ مشعان حرصاً على صحيفتك من الانحراف عن رسالتها والسير في ركاب دعاة الجهل أو مسايرتهم وأخشى عليها الانزلاق في مهاوي الضلال والفساد .
إذ كيف تسمح لصحيفتك العالمية أن تكون منبراً للدعوات الهدامة ؟ وبأي منطق ولمصلحة من تدع هذه الأفكار المسمومة تتسرب إلى عقول الآخرين .. ! ؟ وهي تخالف عقيدة مليار مسلم وأنت واحد منهم . أناشدك أن لا تنصت إلى أقوال المرجفين الذين قال الله تعالى عنهم: { وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا إنما نحن مصلحون، ألا إنهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون }، والمسؤولية الكبرى أمام الله عز وجل يوم الفزع الأكبر يوم تعرض الأعمال على الله الناقد البصير فاتقوا الله في عقيدة هذه الأمة التي ائتمنكم الله عليها، وقانا الله وإياكم شرور الفاسدين وصان صحيفتكم من العبث والدجل والآراء الباطلة، والحمد لله رب العالمين .
خاشع ابن شيخ إبراهيم حقي