2* مكانة القصة في الخطاب القرآني:
للقصة القرآنية مكانة متميزة ومنزلة متفردة في الخطاب القرآني ككل من حيث الكم ومن حيث الكيف، من حيث الموضوع ومن حيث العرض، من حيث المضمون ومن حيث الشكل، من حيث المعنى ومن حيث المبنى، فهي ذات خصائص ومميزات على المستويين الكمي والكيفي..
* أما من حيث الكم فإنه يظهر جليا شغلها لمكان شاسع على خريطة النص القرآني، واستيلاؤها على مساحة واسعة وأكثر من غيرها من المواضيع التي يزخر بها الكتاب العظيم.. فهي تتربع على أكبر عدد من آياته لا يوجد موضوع آخر بعينه استطاع أن يأخذ الحيز نفسه الذي شغلته هي.. إذ يمكن القول بأن القصة القرآنية استطاعت أن تحصل على ما يقرب من ربع القرآن الكريم.. وهذا لا يخفى على أي متلق لكلام الله جل جلاله فنظرة إحصائية تحليلية مختصرة جدا تكفي للتدليل على أن عدد القصص تجاوز العشرين قصة دون احتساب قصص السيرة النبوية المحمدية وما له ارتباط بزمن نزول الوحي، وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على مدى الاهتمام الذي أولاها إياه رب العالمين، وعلى المكانة التي حضيت بها، والمرتبة التي تبوأتها لتعبر أحسن تعبير بالمشهد والصورة أولا عن مجموع الوظائف والأغراض التي من أجلها أنزل القرآن الكريم بشكل عام.. ولتؤدي ثانيا الدور الذي من أجله سيقت هي نفسها في كتاب الله عز وجل على أحسن الوجوه، فهي مبثوثة في كل مكان من القرآن الكريم، ومنتشرة تقريبا في أكثر سوره وبشكل يجعل المتلقي على اتصال مباشر ومستمر ومتواصل بما تحمله من رؤى ونظرات إسلامية، وبما تطرحه من مفاهيم ربانية حول مجموعة من المنظومات المتجلية في الكون والحياة والوجود والإنسان والغيب والشهادة، إن لهذا الوجود القصصي الكبير أهدافا توجيهية وغايات تربوية ومرامي تعليمية وإشارات ثقافية ووقفات علمية وقبسات معرفية ولمحات تاريخية وومضات إيمانية.. فهي قصص ليست للتسلية كما أنها ليست للتحلية وليست لملإ الفراغ أو شغل الوقت وتضييعه وليست لمجرد الحكي والقص والرواية.. كما أنها ليست قصصا للتاريخ الجاف من ماء الحقيقة الممتلئ بماء الخيال، الفارغ من محتوى العبرة والعظة والخالي من الأهداف الجليلة، كما أنها ليست تسجيلا للأحداث الماضية، وما قدمت الأمم الغابرة في حياتها، وما أسلفت الشعوب المندثرة في دنياها، وما قامت به البشرية في مسيرة وجودها على وجه هذه الأرض المديدة وفي هذا العالم العريض وفي تلك الأزمنة الطويلة المتلاحقة..
إنها قصص تشخص أهداف الرسالة المحمدية في مجملها إن لم نقل بأكملها، لذا جاءت بتلك الحدة وتلك الكثرة وإن كانت كثرتها تعتمد في الأصل على التكرار في مفهومه الإيجابي، وليس كما تداوله بعضهم.. فإن في التكرار حكمة وإقرارا فالشيء إذا تكرر تقرر، وخصوصا إذا كان يتحلى بالفنية العالية ويكتسي الجمالية الرائعة.. فها هي قصة موسى عليه السلام مع بني إسرائيل أطول قصة على الإطلاق تداولا من ناحية، وتوزعا على ما يزيد على ثلاثين سورة في القرآن الكريم من جهة ثانية، وتبادلا لعرض مشاهدها الكثيرة في كل مرة وفي كل سورة بما يقتضيه السياق وما تحتاجه الرسالة المحمدية من تركيز، وما يفيد المتلقي ﴿ وذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين ﴾ (سورة ).. ومع هذا فهي لا تمل وتسأم بل تحافظ على الخصائص التواصلية في علاقة المتلقي بها وذلك لما تتمتع به من جمالية أدبية وسحرية فكرية.. وسوف تكون لنا وقفات مع البناء الفني والبنية الجمالية في القصة القرآنية لاحقا إن شاء الله تعالى...
* وأما من حيث الموضوع فإن القصة القرآنية تحتوي على الخطوط العريضة والمهمة بل والأساس لجميع مواضيع القرآن وأهدافه ومغازيه، وأكثر من ذلك إنها تعتبر الدليل الحي والتعبير الفعلي والمكون الحركي التشخيصي الرئيس للمجال النظري الذي يزخر به الخطاب القرآني ، أي أن الأوامر والنواهي الإلهية الموجودة في كتاب الله تعالى بشكل مباشر ووعظي يمكن أن نجد مصداقا لها في حياة تلك الشخصيات التي سجل القرآن بعض مآثرها وخاصة ما يخدم الهدف القرآني كما قلنا.. ومن هنا جاءت المكانة المتميزة للقصة، فهي تعبر تعبيرا صادقا وحركيا وواقعيا وتصويريا عن كل ما أتى القرآن لتبليغه للناس.. انطلاقا من تصوير حلقات حياة تلك الكوكبة المباركة من الأنبياء والرسل ومن تبعهم من الناس، وأولئك الأقوام الذين عصوهم ولم يتبعوا أمرهم ولم يمتثلوه، أو ما سار في مسار القصة والحكاية والرواية والتمثيلية..
إن القصة بمثابة التشخيص الإنساني والتجسيد الواقعي والتصوير السينمائي لكل معاني ومضامين ومحتويات النصوص القرآنية..
فمثلا نجد القرآن الكريم جاء جملة وتفصيلا لتحقيق هدف أسمى وغاية أزكى وهي الدعوة إلى توحيد الله عز وجل وإفراده سبحانه بالعبودية على قاعدة ﴿وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون ﴾ (الذاريات:56 )، فتأتي القصة بشخصياتها إنسانية كانت أو حيوانية.. وأحداثها ووقائعها ومساراتها، بقصها وحكيها وحوارها وصراعها وحبكتها وعقدتها وتأثيراتها التقنية والفنية واللغوية والأسلوبية ولمساتها الجمالية.. تأتي بكاملها أو مفرقة مرة أو معادة ومكررة قصيرة أو طويلة صغيرة أو كبيرة، تأتي لقطة أو لقطات.. تأتي محملة بالمفاجئات لتخدم هدفا رئيسا هو بناء ذلك المبدإ، مبدإ التوحيد على أسس واقعية، وتعمل على إبرازه وإيضاحه وتبيانه والتأكيد عليه من خلال تصوير حركي وسلوك عملي ومعطى واقعي، فما من نبي أو رسول على سبيل المثال – وهم شخصيات وأبطال أغلب القصص القرآني – إلا وجاء يدعو قومه ومن خلفهم إلى إفراد الله تعالى بالوحدانية وتخليص العبادة له وحده سبحانه من كل الشوائب التي تعلق بها بين الحين والحين على مر التاريخ، وتداول الأيام وتعاقب الأقوام.. بل حتى تلك القصة القصيرة التي بطلها شخصية حيوانية "الطائر الهدهد" تصور هذا الهدف وتعمل على تحقيقه في صياغة بديعة وأسلوب جمالي رائع يكون سببا في نجاته من وعيد سليمان عليه السلام كما سيكون التوحيد نجاة لصاحبه من النار.. جاء على لسان الهدهد الطائر الجميل ﴿إني وجدت امرأة تملكهم وأوتيت من كل شيء ولها عرش عظيم* وجدتها وقومها يسجدون للشمس من دون الله وزين لهم الشيطان أعمالهم فصدهم عن السبيل فهم لا يهتدون* ألا يسجدوا لله الذي يخرج الخبء في السموات والأرض ويعلم ما تخفون وما تعلنون* الله لا إله إلا هو رب العرش العظيم﴾ (النمل: 26)
* ومن المواضيع التي تناولتها القصة في القرآن موضوع الإيمان بالرسل والأنبياء والعمل بمقتضى ما بعثوا به وما أوحي إليهم من عند الله تعالى.. وهذا الأمر موجود بطبيعة الحال في ثنايا الخطاب القرآني ككل من غير القصص.. كما يصور الخطاب القرآني مصير المعاندين للرسل والجاحدين بدين الله تعالى والمتطاولين على خلقه سبحانه والواقفين عقبة كأداء في وجه الدعوة إلى الله عز وجل.. إن مصير هؤلاء كما في القرآن الكريم نراه مجموعة من المشاهد والأحداث في قصصه، نعيش في أجوائها ونتصورها ونتصور فيها ومن خلالها ذلك المصير وهو يتحرك بكل ثقله وأشكاله وبكل ألوانه وأنواعه في حياة نماذج من البشر يقصها علينا الكتاب العظيم قصا لنجمع في وعينا وإحساسنا بين الوعظ المباشر المعتمد على الترغيب والترهيب أو الإرشاد الرباني المبني على أسلوب الأمر في شقيه الإثباتي والنفيي "افعل أو لا تفعل".. وبين أحداث الواقع المعيش والحركة الحية التي مثلتها تلك الكوكبة المباركة من خيرة خلق الله عز وجل، والأقوام المختلفة التي عاصرتها، وذلك في كل ما جاء به الإسلام..
إذن فالقصة أسلوب تصويري وتشخيصي وتمثيلي وتوضيحي يمتلئ حيوية وحركية وواقعية يعرض معاني القرآن الكريم ومواضيعه ومضامينه ومحتوياته في شكل سرد أو حوار أو جدال أو صراع أو عقدة أو حبكة أو حركات وسكنات أو أحداث ووقائع أو حكي أو روي بطريقة تجمع بعض ذلك أو كله أو جله.. تقوم به مجموعة من الشخصيات أفرادا أو جماعات من جميع الأصناف في فضاءات مختلفة وظروف مغايرة وبأشكال متعددة وعقليات متنوعة..
* أما من حيث الشكل الذي به يتم العرض أو الطريقة التي تم بها طرح القضايا السابق ذكرها فإن أسلوب القرآن موحد من أوله إلى آخره وفريد في وحدته، ولكن هذه الوحدة تتكون من مجموعة من المختلفات، أي أن وحدة الأسلوب التي نلحظها في كتاب الله عز وجل تنبني على تعددية تزيدها فصاحة وبلاغة ونضارة وحلاوة وطلاوة وماء زلالا ورونقا وجمالا وتنسيقا.. فهذه الوحدة لم تتجل ولم تتأكد لو لم تكن تلك التعددية في مستويات الخطاب القرآني الكريم..
إن الأسلوب القرآني يعتمد التصوير أساسا له في تبليغ رسالته وتربية الناس على مبادئه، وهذا التصوير يقوم على أسس لغوية متينة.. فبالمفردة الصحيحة الفصيحة والجملة القوية المتينة والتركيب العالي البليغ والسرد الشيق المعجز يصور المعاني الرائعة التي يريدها ومن ثمة يرسمها بريشة بديعة راقية ورائقة مستخدما كل ألوان الطيف اللغوية والأسلوبية وكل الألوان الكائنة والممكنة التي تزخر بالحياة وتتميز بالحيوية وتتفنن في التنسيق بين ذلك مع تسليط الأضواء الكاشفة لجمالية الصور تلك، حتى إنك لتجد نفسك أمام إن لم نقل في قلب لوحات فنية رائعة ومدهشة، وتسبح في إطار فني واسع وتتمتع بجمالية مثيرة ومذهلة ولغة أخاذة معجزة.. تأخذ الألباب وتأسر العقول وتملك القلوب وتسيطر على الجوارح وتمسك بالإحساس وتذهب بالوجدان وتشد إليها المتلقي شدا، فلا يسعه إلا أن يعترف بالانبهار أمام تناسقها وبالخضوع أمام نظمها وبالخشوع أمام نظامها وبالعجز أمام سلطان فنيتها وجماليتها.. ويتمثل الإعجاز القرآني فيها ويبرز التحدي الإلهي من خلالها كما يتجلى ضعف الخلق أجمعين أمامها وعدم القدرة على الاستجابة للتحدي القائم في الزمان والمكان المستمرين المتواصلين بدون انقطاع.. وصدق الله العظيم إذ يقول: ﴿قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا * ولقد صرفنا في هذا القرآن من كل مثل فأبى أكثر الناس إلا كفورا * ﴾ )الإسراء:89(.. وصدق سبحانه إذ يقول أيضا:﴿.. قل فآتوا بسورة مثله وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين * ﴾ (يونس: 38).. ويقول أيضا: ﴿.. أم يقولون افتراه قل فأتوا بعشر سور مثله مفتريات وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين﴾ (هود: 13)..
هذا هو التحدي القرآني بشكل عام، وتأتي القصة لتأخذ النصيب الأوفر من هذا التحدي، ومن ثمة فإنك واجد فيها التصوير في أعلى مراتبه وأبهى صوره وأحلى مواده وأرقى أدواته وأزكى أهدافه، إنه أسلوب قصصي يعتمد عدسة لغوية متمكنة من أدواتها تنقل أحداثا ووقائع تاريخية حقة وصادقة تصهرها في بوتقة لفظية رائعة وتسبكها بتراكيب بلاغية زاهية وتبعث فيها الحياة بمائها العذب الزلال وتزرع فيها روحا تشع بالأنوار الربانية وتزدهي بالأضواء القدسية وتوحي بالجمالية الطاهرة وتومض بالفنية الخالصة وتعبق بالمعاني السامية، كما تنشر فيها حيوية ولطفا تجعل المتلقي (قارئا أو مستمعا أو مشاهدا) يتصور وقع كل لفظة بعد أن يحس بها الإحساس الكامل، ويتأمل جرس كل كلمة بعد أن يستشعرها كل الاستشعار، ويتمثل فحوى كل جملة بعد أن يتصورها التصور التام، ويستحضر كل التعابير في مخيلته حركات تنبعث فيها ومنها الحياة فينفعل وكأنه هو نفسه جزء من المشاهد التي تعبر عنها القصة وتصورها، وذلك لكي يعيش بروحه ونفسه وعقله ووجدانه وبكل كيانه مع الأحداث المقصوصة، ويتحرك في كنفها ويشارك في تطورها، ويمشي في ظلالها، ويتفاعل معها ومع كل الشخصيات الرئيسة أو الثانوية وهي تتحرك في الزمان والمكان والإطار الذي رسمه القرآن الكريم بريشته المعجزة الرائعة عبر سوره وآياته وجمله وألفاظه.. أي عبر نصوصه فـإن ((( كل بنية إشارية تنقل معنى محددا ومكتملا هي نص ))) (2).. بل قد يحمل ذلك الزمان الغابر إلى زمانه الحاضر فكأنه لحظة من لحظات حياته المعيشة حتى لقد يتم بذلك نوع من التماهي..
يظهر إذن مما سلف أن القصة في القرآن الكريم تتمتع بمكانة خاصة، فهي من جهة الكم كثيرة الورود ومتفرقته على مستوى الفضاء القرآني وإن كان مبدأ التذكير بالتكرار وارد.. ومن جهة العرض والتقديم فقد جمعت القصة طرائق الكتاب العظيم في الدعوة و منهجه في التبليغ ومنهاجه في التواصل كما احتوت على فنية معجزة بينة وتحلت بأدبية رائعة زاهية واكتست جمالية إبداعية بديعة وامتازت بطريقة تربوية فريدة.. ومن جهة الموضوع فإنها تكاد تطرق أبواب كل المواضيع التي جاء الإسلام من أجلها وإن كانت لم تفصل فيها ولم تسهب، واكتفت بالإشارة أو التلميح في أغلبها..
//**++.. يــــتـــــبــــع ..++**//