الحروب الامتماثلة - العميد الركن م. ريشار داغر
لماذا تخسر الأمم الكبيرة الحروب الصغيرة ؟ سؤالٌ طالما شغل رجالات الدول والباحثين، العسكريين والسياسين.
فقد تكشفت حروب النصف [*] الثاني من القرن العشرين، من الهند الصينية والجزائر إلى فيتنام وأفغانستان، عن حقائق مذهلة:
إنهزام جيوش كبرى أمام تنظيمات شبه عسكرية، صغيرة العدد، ضعيفة التجهيز، محدودة الوسائل.
في نمطٍ جديد من المواجهات العسكرية أطلقت عليه تسمية: الحرب اللا تماثلية.
حتى الحرب العالمية الثانية، كان السائد أن التفوق في القدرات العسكرية يؤدي تلقائياً إلى الفوز في الحروب،
بيد أن المواجهات الدراماتيكية التي شهدتها الساحات الدولية في الحقبات اللاحقة،
والتي انتهت بمعظمها إلى إنهزامات مروعة لجيوش جبارة، أثبتت أن التفوق العسكري الكبير للقوى العظمى لا يمكن الإعتداد به للإنتصار ضد دولٍ أضعف.
كما أدت إلى سقوط المفهوم التقليدي للحرب، حين تتورط الجيوش الكبرى في صراعات مسلحة خارج أراضيها ضد قوى محلية،
محفزة بدوافع مختلفة، ومستعدة للإنخراط في قتال مديد ذي طابع مختلف، يحمل القدرة على قلب المعادلات وتغيير النتائج.
في مفهومها البسيط، تشكل اللاتماثلية في الحرب تعبيراً عن التفاوت في القدرات العسكرية، تنظيماً وتسليحاً وتجهيزاً،
للمتقاتلين المنخرطين في المواجهة. لكنها، وبما هو أبعد، تعني نظامأ مختلفاً للصراع يخاض، من جانب القوى الأضعف،
من خارج المعايير المتدوالة للحرب التقليدية التي تتبناها الجيوش النظامية، إن على مستوى التكتيكات والاستراتيجيات،
أو على صعيد فلسفة الحرب وأهدافها ككل.فعلى المستوى التكتي، تسقط في الحرب اللاتماثلية معظم الإعتبارات التي ترتكز عليها الحرب التقليدية،
لمصلحة منظومة قتالية مختلفة، تصبح الأفضلية فيها لقوى التمرد المنخرطة في مواجهة الجيش الدخيل،
وعلى النحو الذي يسمح لتلك القوى إجهاض وتعطيل مكامن القوة والتفوق عند الطرف الأقوى، وجره إلى مواجهات من النوع الذي يلائمها،
تسمح باستغلال نقاط ضعفه واستنزاف قواه في معارك مباغتة وضربات خاطفة تضع القوات النظامية،
بطلائعها وخلفياتها، بوحداتها القتالية كما الإسنادية واللوجستية ضمن دائرة الإستهداف وتحت تأثير أشكال مختلفة من الصدمة والرعب.
وخلافاً للحرب التقليدية التي يمكن التنبؤ بنتائجها إنطلاقاً من موازين القوى التي تتداخل في تكوينها حجم القوات ونوعية أسلحتها وتقنياتها،
تبدو معادلة النتائج في الحرب اللاتماثلية معاكسة تماماً بحيث يمكن للفريق الأضعف التعويض عن تخلفه في هذه الجوانب من خلال منظومة ذات مرتكزات ثلاثة:
نوعية القتال الذي يخوضه، حرية إختيار مكان المواجهة وزمانها، والإستفادة من الدعم الذي تقدمه بيئته الحاضنة.
من هنا، وعلى المستوى التكتي أيضاً، تصبح القاعدة الأساس للحرب اللاتماثلية، رفض قوى التمرد مواجهة العدو النظامي وفقاً لشروطه بل وفقاً للقواعد التي تناسبها والظروف التي تختارها.
وفي هذه القدرة على تغيير قواعد الصراع، ما سمح لقوات التمرد العراقي بأن تتحول إلى اسوأ كوابيس الجيش الأميركي الجرار في العراق،
من خلال هجمات تنفذها ارهاط صغيرة مجهزة بعبوات ناسفة محلية الصنع، قادرة على إنزال خسائر قاسية بالوحدات الأميركية المتحركة رغم تفوق أسلحتها وتجهيزاتها. وما مكّن، قبل ذلك بزمن، المجاهدين الأفغان من توجيه ضربات مريرة للقوات السوفياتية الغازية.
في الحرب التقليدية يتم تقويم الصراع على أساس الخسائر العسكرية للأطراف المتحاربة، وهي التي ترسم إتجاهات الحرب ونهاياتها.
أما في الحرب اللاتماثلية فإن الحسابات تتجاوز ذلك لتأخذ في الإعتبار تأثيراتها الاستراتيجية ومفاعيلها السياسية عند الطرف الأقوى،
ذلك لأن الغاية الرئيسة لقوى "الغرية" أو التمرد، ليس تدمير القدرات العسكرية للعدو، الأقوى، بل ضرب معنوياته وإرادته القتالية،
لا بل نقل تأثيرات الحرب ومفاعيلها النفسية والسياسية، إلى ما يتعدى المسرح الميداني للصراع، ليصيب الدولة العدوة في عقر دارها،
بكل ما ينطوي عليه التعبير من معنويات واقتصاديات ومؤسسات سياسية. وعلى النحو الذي يربك مراكز القرار فيها ويحرض الرأي العام ضدها،
بما يؤدي إلى إعادة الحسابات وتجريد خيار الحرب من أهم مرتكزاته، اي القبول الشعبي به.
ففي ظل إنعدام القدرات المادية والتقنية والوسائل الكفيلة بتدمير القدرات العسكرية للعدو يصبح الهدف كسر إرادته السياسية على متابعة الصراع.
ذلك هو جوهر ما كشفته الحروب التي خاضتها القوى العظمى ضد دول أقل منها شأناً وإمكانات. فالولايات المتحدة لم تخسر قدراتها العسكرية في فيتنام،
بل إرادتها السياسية على متابعة الحرب. ذلك أن التأثيرات النفسية والمعنوية لتورطها العسكري في هانوي تخطت في الداخل
الأميركي تأثيرات الحروب التقليدية التي خاضتها، وإلى الحد الذي جعل الإدارة الاميركية أنذاك، تستسلم أمام عاصفة الرأي العام المعارض للحرب،
وتنسحب من فيتنام مهزومة، ما دفع وزير خارجيتها يومذاك، هنري كيسنجر، إلى القول "نحن خضنا في فيتنام حرباً عسكرية، وأخصامنا خاضوا حرباً سياسية".
هذه النتائج السياسية التي أفضت إليها حرب الفيتنام شكلت في الواقع الإنتصار الأكبر لقوى الفيتكونغ.إلى ذلك، فإن التفاوت في القدرات العسكرية لمصلحة الجيش الغازي يأتي دائماً مترافقاً مع تفاوت في القدرة على تحمل الخسائر لمصلحة قوى المقاومة.
فالقوى العظمى التي تتورط في صراعات لا تماثلية لا تملك ترف الدخول في حربٍ كلية، طويلة الأمد، باهظة الأثمان،
بكل ما يرتبه ذلك من تداعيات سياسية واقتصادية ومعنوية. على عكس قوى التصدي في الدولة المستهدفة، المعبأة للقتال المديد،
المستعدة للدخول في حربٍ كلية تجند لها كل الطاقات، والجاهزة لتحمل كل اشكال الخسائر.فالثورة الجزائرية ضد الإستعمار الفرنسي(1954 – 1961)
أرغمت حكومة باريس على الإعتراف باستقلال الجزائر بعد سبعة أعوام من الصراع لأنها لم تعد تحتمل مزيداً من الخسائر البشرية
التي بلغت 25000 جندي قتيل وضعفهم من الجرحى، في حين كان الجزائريون مستعدين لمتابعة القتال رغم سقوط اكثر من مليون ونصف المليون شهيد.
ومن الثورة الجزائرية وغيرها من الصراعات المماثلة تتكشف العبر البارزة للحرب اللاتماثلية، أولها: أن قوى التمرد تربح الحرب بمجرد أن تبقى حية، وأن الجيوش التقليدية تخسر إذا لم تحسمها سريعا. ومنتهاها أن الحرب اللاتماثلية ستظل كابوساً مرعباً للدول والجيوش.