كانت أرجلنا بالكاد تلامس درجات السلم صاعدون للاتصال لطمأنة أهلنا في البلد فلابد أنهم علموا بحظر التجوال المفروض على المدينة الحزينة نظرا للأحداث التي وقعت
وقتها كانت الأحداث تتلاحق كفيلم سينمائي من أفلام (الأكشن) ولكننا أبينا إلا أن نحتفظ بأدوارنا الهزلية رغما عن الجميع يدفعنا لهذا شباب جامح ذو أجنحة تملأ الفضاء من حولنا لا تقوى على السيطرة عليه قوة مهما بلغت سطوتها
كانت الحياة بالنسبة إلينا مسرحية هزلية نرتجلها دون رقابة من أحد
وكنا نطلق على أنفسنا ( قبائل البربر )
نأخذ اللا مبادئ عنوانا لنا
نقف على رؤوسنا وقتما شئنا ، ننطلق عبر دروب المدينة نسخر من هذا وذاك حتى نسخر من أنفسنا ، وكلما ازداد الفرد منا جنونا كلما أصبح مرموقا بيننا
دخلنا إلى ( مركز الهاتف ) للاتصال، ولكن لا فائدة، فالخطوط كلها معطلة بسبب الضغط الزائد عليها
جلسنا ننتظر قليلا لعلهم يجدون حلا، ولكن لم نجد بصيص أمل مهما طال انتظارنا فقررنا الانصراف
نزلنا درجات السلم بصورة هستيرية نضحك، ندفع بعضنا البعض
لفت انتباهي هذا الجندي الواقف في بزته العسكرية السوداء ترتسم على قسماته براءة طين أرض الصعيد الخارج منها
أبيض لم يتلوث بهذه المدنية الزائفة بعد
وجدتها فرصة لا تعوض للنيل من براءته و إضحاك حثالة قبائل البربر المصاحبين لي ، ولتكن نقطة توضع في ملفي الأسود لإثبات أحقيتي بالزعامة التي يحاول آخرون النيل منها
ذهبت إليه وبادرته قائلا:
إزيك يا بلد يا أبو (...) جلد
( حاول أفراد البربر إمساك الضحك بكل ما في استطاعتهم حتى أكمل مشهدي وإلا انتهى سريعا ولقد نبهتهم لهذا قبل حديثي )
: وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته
- (قالها وكأنه لم يفهم ما قلته)
-
- :مش المفروض إنت المسئول هنا ؟
- ( ابتسم ابتسامة بلهاء، حاولت معرفة المقصود منها دون جدوى)
و لكنني بادرته قائلا
- : عشان خاطري خليهم يخلوني أكلم أهلي والنبي
- ( انحنيت على يديه أقبلها )
- ( قال بكل براءة)
- :استغفر الله العظيم، استغفر الله العظيم، ليه كده بس؟
- طب هم ليه ما خلوكش تتكلم ؟ واحد عاوز يطمن ناسه ، حرام ؟
- :بيقولوا لازم ( واسطة) : واسطة إيه دي كماني ؟ هي دي عايزه واسطة كماني ؟
- : عاوز الصراحة ؟
طبعا :
- ( حاولت ارتجال أيه مشكلة لأريهم كيفية براعتي في السيطرة على هذا
- العقل الخام وحمله بأطراف أصابعي واللعب به برفعه في الهواء و من
- ثم إلتقاته علي أصابع قدمي ورفعه لأعلى كما يفعل ( الخطيب ) بالكرة )
- : أم السيد ، عارفها ؟
- : لأ
- : أم السيد ، بس إوعى تقول لحد، والنبي حبيبك يا شيخ الموضوع ده
ما يخرجش بره ،
- والله لو حد عرف الكلام ده ما عرفك تاني،أصل أبو السيد بيغير عليها زي
- كلبة العمدة
- والعمدة زي ما انت عارف لما عرف بالموضوع جاته الحصبة ،
- شيخ البلد لما عرف بموضوع ( نحمده ) راح لجوزها وهزأه و قاله
- : ماهو انتم لو كان في بلدكم راجل ما كانش حصل اللي حصل في سبعه و ستين
- ( ظللت هكذا أدور بعقله وأدور و المسكين يتابع يحاول أن يستبين المقصود
- دون جدوى وعندما رأيت التعب يسدل ستائره على عينيه
- فجأة لمعت عينيه واتسعت وكأنه بكياسته وفطنته قد وصله شيئا
- وتفتق مخه المظلم بنور يضيء الكون من حوله)
- ( بادرني وكأنما انحلت العقدة من لسانه توا بعدما انعقدت دهرا )
- : آه ، فهمت ، فهمت
- : فهمت ؟ وفهمت إيه بقى يا ناصح ؟ صدقني كلبة العمدة تفهم أكتر منك
- (قلتها مبهمة لم يفك شفرتها غير حثالة البربر الواقفون كأكياس ( الجوافة )
بجواري تكاد قلوبهم أن تتوقف من الضحك الذي أحل بهم ) ( قال بكل ما أوتي من قلة عقل )
- : استناني شويه
- (والتفت ليعطينا ظهره ولكني وقفت على أطراف أصابعي ورأسي تعلو كتفه لأختلس النظر لما يفعله ، أرفع كفاي أرفرف يهما بجوار أذني وكأن رأسي طائرا يحلق )
- ( دس هو يده في جيبه الداخلي وأخرج منه حافظة نقود بالية شاحبة منتفخة بعض الشئ و أخذ يقلب ما بها من قصاصات صحف قديمة قصت وكأنها نقود كثيرة )
و طبعا لم أتركه يفلت من لساني السليط بادرته قائلا :
: يا إبن الذين .....كل دي فلوس ؟
- ( كاد قلبي أن يقف من الضحك ، لكنه لم يعرني انتباها )
وأخذ يبحث بها جاهدا عن ضالة لا يعرف مكنونها سواه وفجأة أخرج بحرص شديد ورقة نقود بالية من فئة الخمسة وعشرون قرشا وأخذ يحاول إخفائها في كفه كي لا يلحظها أقراني مخافة إحراجي أمامهم والتفت إلي ممسكا بيدي يدس في كفي نقوده قائلا
-
- :والله ما معايا غيرها خدها عشان تطمن ناسك
-
- ( عندها دارت الدنيا كلها من حولي )
( لم أدري عندها من أنا )
- ( ولماذا ؟ )
- ( وكيف؟ )
- (ومن ؟ )
- ( وما ؟ )
- ( وكم ؟ )
- أحسست بقلبي يسقط بين أقدامي
صدري يضيق لا أقو على التنفس
جسدي كله يرتجف يرتعد لا أقو على الحراك
أحاول جاهدا لملمة مشاعري المبعثرة في أرجاء الكون المترامي دون فائدة
وانهمرت سيول دموعي تملأ الكون من حولي تغرقني وأحاول النجاة بنفسي ولا أستطيع
- ( عندها وجدته ينتشلني ويضمني إلى صدره يربت فوق ظهري )
- ( ترتعد أ وصالي أكثر فأكثر )
- بادرني بصوت هامس : جرالك إيه امال ؟ والله لو معايا غيرها
- هامسا
- : كلام في سرك ؟ كنت عاينها عشان لما انزل مادخلش عليهم بأيدي فاضيه
لكن انت أولى
- : أقولك ، ممكن تستناني شوية أشوفلك مع ابن عمي ؟
- ( انهمرت دموعي على كتفه وأخذت أربت على ظهره بشدة)
- : أرجوك كفاية ، كفاية حرام عليك
- ( همس في أذني ببراءته المعهودة كي لا يسمعه أحد ممن حولنا)
- :ياغرع إحنا اخوات، وإذا ما وقفناش مع بعضينا في الوقت ده
- ها نقف إمتى امال ؟
- ( انتزعت نفسي من فوق كتفيه مسحت دموعي )
- ( حاولت لملمة نفسي )
-
- وقلت له بكل أسى:
- : تصدق بإيه
- :لا إله إلا الله
- :أنا كنت جايلك أنا والرمم دول عشان نضحك عليك،
- وشوف انت وقلبك ونيتك البيضا
- جيتك بجهلي ، رغم إنهم بيقولوا علي إن أنا متعلم
- وانت تخطفني بأدبك وعلمك رغم إنهم بيقولوا عليك إنك ما تعلمتش
- ( وصرخت بأعلى صوتي )
: والله الذي لا اله إلا هو ، إنهم هم الجاهلون
- أرجوك تسامحني
- (بادرني قائلا)
- :وإيه اللي حصل لكل ده يابن الناس؟ وبعدين إحنا اخوات وشباب زي بعضينا
إيه المانع لما تضحك معايا شوية ؟
- : يعني مسامحني ؟
- : وإيه بس اللي حصل يا أخي عشان كل ده ؟
- ( ضممته لصدري ثانية )
- ( سلمت عليه بحرارة تلمذتي في المرحلة الابتدائية وأنا أودع أستاذي وقدوتي ) وانصرفت وحيدا لا أقوى على رفع عيني أمام براءته وسعة صدره ونور قلبه الذي أضاء الدنيا من حولي
- جاءتني أصوات الحثالة :
: على فين يا زعيم ؟
- : أنتم رايحين فين ؟
- :إحنا رايحين زي ما اتفقنا ( المهندسين )
- : طريقي غير طريقكم أنا رايح البلد
- :إنت تجننت وإلا إيه ؟
- وركضت بكل قوتي وحيدا فارا بنفسي من هذا التلوث
قصة من تأليف : محمد عبد المحسن سنجر
السن :40 عاما
بلد الإقامة : الكويت
الجنسية : مصري
بكالوريوس الفنون الجميلة – جامعة حلوان
المهنة : فنان تشكيلي
ت : ****************
البريد الإلكتروني: singerbasha@yahoo.com