من وحي الرحم
لا أرى على الدنيا شيئاً أجمل من الحب ، فهو وحده ما يخلق للإنسان جناحين يطير بهما إلى ما وراء المحسوس ، ويخلق له معهما جناحين يحلق بهما في أعماق نفسه ، فيحس بذاته قدر ما يحس بغيره ، فنحن لا نعرف أنفسنا إلا بالدرجة التي نحس بها بغيرنا ، بل قد لا يكون الواحد منا إنساناً إلا إن بلغ من الحب للآخرين حداً يحس فيه أن كل خير يصيبهم إنما يصيبه ، وكل شر ينالهم إنما يناله .
و أولى الناس بالمحبة من المرء أهله ، وفطرة الإنسان تدعوه إلى محبتهم قبل غيرهم ، فنحن نرى أنفسنا مقبلة عليهم بلا رغبة منا ولا مشيئة ، وقلوبنا متجهة نحوهم بلا إرادة ولا غاية ، خلقنا على هذه الحال ونسير عليها ، إلا إن داخلنا شيء من الشوائب والأدران ، لكنَ الإنسان و إن كان بينه وبين أهله كل شر وخلاف ، بل و إن كان يحسبهم أسوأ من خلق الله على البسيطة ، فما ذلك مما يغير حقيقة كونهم أقرب الناس إليه ، إذ محبتهم مستقرة في أعماق كل منا بهبة من العزيز الحكيم ، لكنَه قد يطمس بغشاوة من حب الدنيا وزخرفها ، ومشاكلها و أحزانها ، وهمومها ومصائبها ، فيبعد الإنسان عنهم بعقله ، وقلبه – وإن خاله كارهاً لهم – معلق بهم و مخلص لهم ، لأنه من فطرته و خلقته الأزلية ، فهم منه وهو منهم و إن باعدت بينهم السنون ومزقت مشاعرهم الأيام .
والقرابة هي ذلك الشعور الغريب عن غيره والمميز منه ، الشعور الذي نحسه في قلوبنا حباً حاراً كالجمر ، لأنه لصيق بنا كلحمنا ، معلق بأعماقنا تعلق الرجل الهاوي في واد لا قرار له بغصن شجرة ، مستقر فينا استقرار الإيمان في صدور الأنبياء ، باق فينا وإن حسبناه غائباً عنا ، لأنه خصيصة فينا ، لا تفارقنا وإن بذلنا لذلك منا الغالي والرخيص ، وذاك الشعور ليس إلا قلباً داخل قلوبنا ، فللرحم شيء ليس لغيرهم ، ودنيا ليست لسواهم ، يسكنها الإنسان معهم وإن في داخله ، ولا يدخل غيرهم فيها ، لأنها ملكهم وحدهم ، ولأنه دونهم شاء أم أبى يغدو عارياً كشجرة في منتصف الشتاء مهجورة ومنسية ،لا حياة فيها ولا يقربها أحد .
كتبت يوم الأحد 2 - أيلول- 2007