في ظل الحالة المزرية المتضمنة لعوامل تعيق تحقيق قدر كبير من التقدم في العالم النامي، يجب تحقيق التغيير الثقافي. ولا يمكن تحويل الإمكان الحبيس لدى الشعوب النامية إلى حقيقة واقعة إلا بإزالة العوامل المعيقة للتقدم.أثر التخصص والسياسة في التقدمد. تيسير الناشف
وللتخلف أسباب منها قلة دور العِلم في حياة المجتمعات ووجود قدر كبير من الجمود والانغلاق الفكريين، وقيام مؤسسات منتفعة من الحالة القائمة بتقليل التأكيد على أهمية دَور العِلم والتكنولوجيا أو بعدم التحفيز بما فيه الكفاية عليه، والسلطة الحكومية وغير الحكومية والنظام الذكوري الأبوي ونظام التعليم التلقيني المؤكد على الاستظهار وإهمال التنشئة على التفكير المستقل المبدع ومعاداة الفكر الفلسفي أو عدم إيلائه ما يستحقه من الاعتبار والدور الكبير الذي تؤديه الحمائلية والقبلية والطائفية والإقطاع ونظام الشلّة في قطاعات من الشعوب العربية وعدم استعمال الاجتهاد على نحو واف بالغرض وانعدام الجرأة لدى كثيرين من المسلمية على الإشارة إلى سوء فهم قسم من المسلمين لنص القرآن الكريم والسنة النبوية المشرفة وإلى سوء فهم مفاهيم من قبيل القضاء والقدر والعقاب ومسؤولية الإنسان عن أفعاله واستخلاف الله تعالى للإنسان على الأرض والنزعة الاتكالية والانبهار بالشخص الغربي وشعور التضاؤل حياله والتأثير السلبي الذي يمارسه الفكر الساكن وقلة حضور الفكر النشيط النقدي وقلة الأخذ به والغزو الثقافي الغربي الذي يشوش أو يقطع عملية التطور الطبيعي السلس إلى حد ما للفكر.
وللتقدم ملامح. وأحد هذه الملامح هو الانفتاح العقلي على مختلف مجالات الحياة والكون، والاستعداد النفسي والعقلي للحوار البناء معها. ومقياس التقدم هو مدى هذا الانفتاح. ويتحقق هذا الانفتاح عن طريق الوعي بدينامية (نشاط) المفاهيم. ومن أدوات تعزيز هذا الوعي النقد الفكري والعقلي والفلسفي والتفكير المنطقي والرياضي. من هنا يعني التقدم توفر القدرة الفكرية على التصدي لحالاتنا الإشكالية التي تحول دون تشخيص أدوائنا ودون السير قدما بحياتنا وكياننا. ومن دلائل الوعي الاستعداد للتعامل العقلاني والموضوعي مع الواقع واحتياجاته.
وذلك لن يتسنى دون تحقيق الحرية الفكرية السياسية والاجتماعية: حرية الفرد في قراره واختياره وأفعاله، وذلك طبعا في نطاق القيم العليا التي يأخذ بها المجتمع ومصالحة وفي إطار القانون. هذه الحرية الفكرية هي الرافد الرئيسي للإبداع الفكري. وتحقيق الحرية يعني تحقيق إمكان الإبداع.
وللثقافة تعريفات. والأهم منها اثنان: الثقافة هي طريقة الاتصال التي يتبعها البشر وطريقة تعاملهم بعضهم مع بعض وتعاملهم مع الأشياء والظواهر. والتعريف الثاني هو أن الثقافة هي المُثُل والقيم التي يتبناها الشعب. وللتعريفين سمات متشابهة ومتماثلة. وثقافة الشعب مستمدة من الفضاء الأيديولوجي (العقائدي) والأسطوري والفكري والقيمي والتاريخي والنفسي والجغرافي لذلك الشعب.
وأحد أدواء مختلف الثقافات البشرية هو الاستكانة إلى قبول مقولات سياسية واقتصادية وتاريخية دون دراستها على نحو واف. في هذا القبول طَمْس وقَمْع لجوانب لم تُتناول تناولا وافيا لتلك المقولات، وكان يمكن للتناول الوافي لتلك الجوانب أن تغير نظرة الشعوب النامية إلى الاستنتاجات التي تم استنتاجها على أساس الدراسة الناقصة.
السياسة والتأثير
والإنسان مخلوق سياسي. السياسة متأصلة في طبيعة الإنسان وسلوكه وحياته. وللسياسة تعاريف. وأحد هذه التعاريف هو أن السياسة هي العمل على اكتساب القدرة على ممارسة التأثير بغية تحقيق هدف من الأهداف. والسياسة بهذا التعريف أكثر اتساعا من مفهوم السياسة بمعنى سوس الأمم والدول أو بمعنى مجال نشاط الحكومات. وكل نشاط هو نشاط سياسي لأنه مسكون بممارسة التأثير. وفي الحقيقة أن هذا التعريف لم يولَ الاهتمام الذي يستحقه في الدراسات الاجتماعية والتاريخية على الساحة العالمية، بما في ذلك الساحة العربية.
والعلاقات بين البشر في شتى المجالات علاقات سياسية، بمعنى أنها تنطوي على التأثير والتأثر. وتنطوي المنظمات الثقافية والاقتصادية على علاقات، فهي إذن علاقات سياسية. والمجتمع البشري المنطوي على العلاقات مجتمع سياسي. والنظام الدولي المنطوي على العلاقات نظام سياسي. وفي أي علاقة بين شعب وشعب آخر أو بين بلد وبلد آخر عامل سياسي.
وتتوقف قوة الصفة السياسية في العلاقات الاجتماعية تبعا لقوة أو ضعف تلك العلاقة وموقعها في الظروف والملابسات الاجتماعية والنفسية والتاريخية والطبيعية.
وتختلف قوة البُعد السياسي لنشاط الإنسان تبعا لاختلاف الظروف التي يعيشها. من هذه الظروف التخصص المهني. كلما ازداد فرد تخصصا من الناحية المهنية قلت قوة البُعد السياسي في أدائه المهني. ولكن يزداد في نفس الوقت ثقله السياسي بوصفه شخصا يؤدي وظيفة في المجتمع. وظيفيته المهنية في المجتمع تؤمن ممارسته للتأثير. وحجم هذا التأثير يتوقف على عوامل منها مدى الاحترام الذي يوليه أفراد المجتمع لمزاولة مهنة من المهن. فالتعليم الجامعي، على سبيل المثال، له وزن سياسي أكبر في المتوسط من بعض المهن الأخرى.
ويمكن تناول العامل السياسي لمزاولة المهن من منظور آخر. في هذه المزاولة يقل أو يزيد العامل السياسي تبعا لما إذا كان التخصص المهني في العلوم الطبيعية والرياضية – أي العلوم التي تُدعى دقيقة – أو في العلوم الأقل دقة، من قبيل القانون والعلم السياسي وعلم الاجتماع وعلم النفس وعلم الاقتصاد. من طبيعة العلوم الأقل دقة أنها أكثر طواعية للتأويل وأشد خضوعا لمختلف القرارات. وبعكس ذلك العلومُ الدقيقة التي تقل أو تنعدم فيها القراءات، وبالتالي فهي أقل خضوعا للتفسيرات الذاتية. في الأداء المهني المعتمد على التخصص في العلوم الدقيقة يقل العامل السياسي لأنه ينعدم في هذا الأداء التفسيرُ الشخصي الذاتي المغرض، مما يتيح للمتخصص حيزا أكبر لممارسة التأثير وبالتالي يكون من الأسهل تحقيق الممارسة السياسية في هذه الحالة.