تناول جواز سفره وهرول مسرعاّ إلى صالة الحقائب وشعر بدهر كامل يمر خلال الدقائق القليلة التي استغرقها وهو يضع حقائبه على إحدى العربات المنتشرة في الصالة ،
بخطوات طائرة اتجه نحو باب الخروج وكالطفل ارتمى في أحضان أشقائه وشقيقاته ودموعه تروي لهم عذاب أربعين عاماّ من لوعة الفراق حتى انه لم يتمكن من الرد على عبارات الترحيب والأسئلة المتلاحقة واكتفى بالقول : دعونا نخرج من هنا .
ألقى ببصره من خلال نافذة السيارة المنطلقة بهم إلى دمشق يراقب حبات المطر التشرينيه وهي تنقر نقراّ خفيفاّ على زجاج السيارة ثم التفت إلى شقيقته الصغرى الجالسة بقربه وقال : إن رائحة الورد الجوري والياسمين الدمشقي تملأ صدري .. الله .. الله ما أجمل تلك الرائحة .
نظرت شقيقته إليه باستغراب وبابتسامة حائرة قالت : إنه الخريف يا أخي وليس الربيع !!
تجاهل حيرتها ونظر إليها بحب وحنان وبتلعثم شديد : ما هي أخبار صديقتك ليلى ؟؟
نظرت إليه باستغراب مرة أخرى : ليلى .. لدي اكثر من صديقة اسمها ليلى !!
احمر وجهه قليلاّ وكأنه فتى في السادسة عشرة من عمره : ليلى بنت جارنا الحداد أبو مصطفى ؟
وبتودد أجابته بعد أن لاحظت احمرار خديه وخجله الشديد : ليلى بنت جارنا أبو مصطفى .. نعم لقد تذكرتها الآن فهي تزوجت بعد سفرك بعامين ومنذ انتقالنا من الحارة قبل خمس وثلاثون عاماّ لم اسمع عنها شيئاّ صمتت لبرهة ثم أردفت قائلة : ما الذي جعلك تتذكرها بعد كل هذه المدة الطويلة ؟؟
أشاح بوجهه عنها حتى لا ترى دمعة ترقرقت في عينيه وكاد أن يقول إذا كنت تعتقدين أنني نسيتها رغم كل تلك السنوات الطويلة فأنت واهمة لكنه تراجع وعادت به الذاكرة إلى لقائه الأخير بليلى قبل اربعين عاما وهي تتوسل إليه : لا تسافر فإنني لا أقوى على الحياة بدونك .
أجابها بحزن محاولاّ التخفيف عنها : يجب أن أسافر عام أو عامين لتحسين وضعي المادي .
وبكلمات تخنقها الدموع : صدقني سوف تسرقك الغربة مني وسوف تسرقني منك.
احتضنها بعينيه ومسح دموعها بمنديله الأبيض : ولكنني لا أملك سوى حبي لك .
تمسكت بيديه بشدة : يكفيني حبك لي وهو كل ما أريده منك .
أمسك بيديها وبعينان تذرفان حباّ : لا تخافي سوف تمضي الأيام مسرعة وسأعود إليك .
نعم يا حبيبتي لقد كنت على حق فالغربة سرقتك مني وسرقتني منك ولكن لو تعلمين كم بحثت عنك في ليالي غربتي الباردة.... لو تعلمين كم ناديتك وكم من الأشعار نظمتها في حبك وكم من رسائل حب كتبتها أشكو بها إليك غربتي ووحدتي وشوقي وحنيني .
أعترف يا حبيبتي أنني كنت أبحث عنك في كل فتاة قابلتها لكن هيهات ففي هذا العالم لا يوجد سوى ليلى واحدة وهي بعيدة آلاف الأميال عني وهاأنذا بعد اربعين عاماّ أعيش وحيداّ مع أشعاري ورسائلي .
تحسس جيبه والتفت إلى أخيه قائلاّ : خذوني إلى حارتنا القديمة فقد اشتقت لأزقتها الضيقة وللجيران .
ضحك أخيه بصوت عال :الله يسامحك يا أخي هل تعتقد وبعد اربعين عاماّ تنتظرك الأزقة أو الجيران !!
استيقظ يا أبو حميد لقد أصبحت الدنيا غير الدنيا التي تعرفها وتحولت الأزقة الضيقة إلى شوارع عريضة
ولم يتبقى من الجيران القدامى أحد تقريبا فحالهم كحالنا .
أصابته القشعريرة من كلمات أخيه القاسية : اعرف... أعرف ولكن أرجوك أريد أن أسير قليلاّ في تلك الشوارع حتى بعد أن أصبحت عريضة كما تقول .
ضحك أخيه بسخرية وقال : كما تريد .. أنا تحت أمرك !!
ترجل من السيارة ومسح بكفيه حبات المطر التي تساقطت على وجنتيه : لا تنتظروني أعطوني عنوان البيت الجديد وسألحق بكم بعد ساعة .
أطلت شقيقته من النافذة وقالت معترضة : لن نذهب سننتظرك هنا .
ابتسم ابتسامة خفيفة: دعوني على حريتي .. ساالحق بكم سريعاّ فلا تقلقوا .
وضع العنوان في جيب سترته ولوح مودعاّ : لقائنا بعد ساعة إنشاء الله .
انطلقت السيارة وبقي وحيداّ يتلفت يمنة ويسرى غير مصدق ما آلت إليه حارته القديمة فالأزقة الضيقة والبيوت القديمة اختفت وحل مكانها شوارع عريضة وعمارات شاهقة وتمتم قائلاّ : زياد معه حق فاربعون عاماّ مدة طويلة كما يبدو .
اخرج علبة الدخان من جيبه وحاول إشعال سيجارته ولكن المطر المنهمر أطفأ الولاعة مرة بعد مرة فلم يرى بداّ من الوقوف في مدخل إحدى العمارات المنشرة على جانبي الشارع ليشعل سيجارته وأخذ ينظر إلى المارة تهرول مسرعة هرباّ من المطر المنهمر بغزارة .
مرحبا يا آخي .
التفت نحو مصدر الصوت فوجد رجل في حوالي السبعين من عمره يبتسم له وبعدم اكتراث أجابه: مرحبا
أردف الرجل السبعيني قائلاّ : أنت ساكن جديد في هذه العمارة ؟
أشعل سيجارة أخرى وقال : لا .. ولكنني أتقي المطر لبضع دقائق .. على كل حال أنا من سكان هذا الحي ولكن قبل اربعين عاماّ .
نظر الرجل إليه بتمعن وباستغراب وتعجب قال : أنت من السكان القدامى في هذا الحي ؟
أجابه بتململ ونفاذ صبر : نعم . وأشاح ببصره نحو الشارع يراقب المارة مرة أخرى .
ربت الرجل السبعيني على كتفه بلطف وقد شعر بنفاذ صبره : عفواّ هل لي التشرف بمعرفة اسمك ؟
تمتم في سريرته آه من فضول هذا الرجل ومع زفرة طويلة قال : اسمي احمد القباني .
لم يلحظ نظرة الدهشة والاستغراب في عيني الرجل ولكنه شعر بإلحاحه : أبن أبو أحمد البقال !! وامسك الرجل بكتفيه وهزه قائلاّ :آلا تعرفني ؟ انظر إلي جيداّ .. أنا خليل ابن جاركم القديم أبو خليل القهوجي .
شعر بقشعريرة تسري في عروقه ونظر إلى الرجل بتمعن فوجد وجهه مألوفاّ لديه : أنت خليل !!
بضحكة مجلجلة أجابه :أنا خليل .. لا تستغرب فالعمر لا يبقي أحد على حاله ولا يبقي الشعر أسوداّ .
عانقه بحرارة وقال مازحاّ : الله عليك يا خليل ولكنني أرى العمر لم يترك لك شعراّ اسوداّ ولا أبيضاّ .
بفرح طفولي أخذ بيده : تعال معي فأنا اسكن في الطابق الأول وسنتحدث مطولاّ ونحن نشرب القهوة .
صعدا الدرج سوية وخليل لا يريد ترك يده ويتمتم مرحباّ : آهلا وسهلاّ ، آهلا وسهلاّ ، والله زمان يااحمد
فتح خليل باب البيت وصاح : يا الله معي ضيف .. تفضل .. تفضل لا تخجل البيت بيتك .
وبخطى بطيئة اتجها نحو صالة الضيوف وخليل ما زال يردد كلمات الترحيب به .
وما أن استقر على كرسيه حتى بادره خليل : لم تتغير كثيراّ يا احمد !! فكما يبدو أن الزمن في الغربة يمر مسرعاّ بعكس الزمن هنا فهو يمر بطيئاّ وبضحكة عريضة وضع يده على رأسه أردف : ولابترك لك شيئاّ على رأسك لا أسود ولا أبيض .
ضحك احمد ضحكة لم يعرفها منذ اربعين عاما واخرج سيجارة ّ: عفواّ خليل إنني أدخن كثيراّ أرجو أن لا تكون متضايقاّ من رائحة السيجارة .
أجابه خليل بمرح : ماذا تقول يا رجل .. دخن كما تريد فالبيت بيتك ، ثم صاح منادياّ على زوجته :أم احمد تعالي وسلمي على ضيفنا .. انه جار قديم لنا .
بعد عدة دقائق فتحت الباب أم احمد ودخلت .. إنها امرأة في نحو الستين من عمرها وتميل الى البدانة الشديدة وبادرتهم بالسلام : السلام عليكم .
خفض احمد نظره إلى الأرض مجيباّ : وعليكم السلام .
بمرح وفرح شديد قال خليل :آلا تعرفينه يا أم احمد ؟؟ انه احمد ابن جارنا القديم أبو احمد البقال . وأنت يا احمد آلا تعرفها ؟؟ إنها جارتكم القديمة ليلى بنت أبو مصطفى الحداد .
كأن صاعقة أصابته فلم يقوى على رفع بصره ، فنهره خليل : ارفع نظرك يا رجل فإننا أهل وجيران وضحك ضحكة عالية ثم أكمل : وعجائز ايضاّ .
ببطء وخوف شديدين رفع بصره ونظر إليها وشعر بالزمان يعود به إلى ما قبل اربعين عاماّ أراد الكلام ولكن الكلمات توقفت في جوفه ورفضت الخروج فطأطأ رأسه مجدداّ.
هتف خليل : ما رأيك يا أم احمد في هذه المفاجأة ؟ مفاجأة أليس كذلك ؟
ردت أم احمد بخجل وتلعثم وبأحرف باكية : أهلاّ وسهلاّ .
هزه خليل من كتفيه مما أيقظه من شروده : كيف تشرب قهوتك ؟ حلوة أو وسط أو سادة كما اشربها؟
وقف متثاقلاّ وقال : أعذرني آخي خليل فإنني اشعر بألم شديد في معدتي ولا أقوى على شرب القهوة واعذرني مجدداّ علي الذهاب الآن لتناول دوائي .
تمسك به خليل : ماذا تقول أتريد الذهاب ! اجلس فكأس من الزهورات كفيل بالقضاء على وجع معدتك ،
ونظر إلى زوجته قائلاّ : بسرعة احضري لنا الزهورات .
بعناد وإصرار : اعذرني ولكنني لا أستطيع البقاء فالألم شديد ويجب أن أتناول دوائي .. ولكنني أعدك بزيارة قريبة جداّ .
وبخطوات تحمل كل أثقال الأرض اتجه نحو الباب وهو يهز رأسه موافقاّ خليل : لقد وعدتنا بزيارة ثانية ووعد الحر عليه دين فلا تنسى .
خرج إلى الشارع وامتزجت دموعه مع حبات المطر المنهمرة على وجهه بإشفاق ، مد يده إلى جيبه وتحسس أشعاره ورسائله وأشار إلى إحدى سيارات الأجرة والقى بجسده المنهك داخلها وهو يتمتم كلمات شقيقته الصغرى : انه الخريف وليس الربيع .
سليمان عباسي --- دمشق
Abasi_777@hotmail.com