مسائل الخلاف بين الأشعرية والماتريدية
1) الماتريدي لا يفرق بين صفات الذات وبين صفات الفعل لله تعالى، فهي عنده كلها قديمة، قال "والقول بحدوث شيء منها يؤدي إلى القول بتغير الله وهو يؤدي إلى عبادة غير الله" (1) بينما يفرق الأشعرية بينهما وأشار ابن عذبة في (الروضة) إلى أن الماتريدية يخالفون بذلك رأي أبي حنيفة الذي يوافق مذهب الأشاعرة في التفريق بين صفات الذات وصفات الفعل كما نقله عنه الطحاوي (2) .
- وترتب على هذا الاختلاف: خلاف في صفة الحكمة لله تعالى فهي أزلية بمعنى الإتقان والإحكام كما عند الماتريدية وليست كذلك عند الأشعري (3) . وترتب على ذلك تسوية الأشعري بين الإرادة والرضى. واعتبر البزدوي ذلك من جملة مخالفاته لأهل السنة "يريد الماتريدية" (4) . فالماتريدية يذهبون إلى أن الإرادة لا تستلزم الرضى والمحبة.
2) ذهب الماتريدية إلى أن الواجب تحقق الحقيقة في نفسها بحيث تتنزه عن قابلية العدم. أما الأشاعرة فيرون أن الذات مقتضى الوجود (5) .
3) الوجوب عند الماتريدية ليس أمرا زائدا على الذات. وعند الأشاعرة أن الوجوب أمر اعتباري لا وجود له في الخارج (6).
4) الماتريدية لا يرون تكليف الله لعباده إلا فيما يقدرون عليه. وخالفهم في ذلك الأشاعرة فجعلوا التكليف بما لا يطاق جائزا وخالفهم الإسفراييني والغزالي (7) .
5) الماتريدية يرون أن الله يفعل لحكمة تقتضي الفعل، بينما يرى الأشاعرة أن أفعاله تعالى على الجواز لا على اللزوم. وألزمهم الماتريدية باعتقاد جواز العبث في أفعاله تعالى (8) .
6) ذهب الماتريدية إلى امتناع أن يخالف الله وعيده ووعده، وذهب الأشاعرة إلى جواز إخلاف الله لوعيده (9) .
7) ذهب الماتريدية إلى أن الله لا يفعل القبيح. وقالوا: لا يجوز ما يقوله الأشاعرة من جواز تعذيب المطيعين وتخليد الأنبياء في النار، وإدخال الكافرين الجنة. وعلل الأشاعرة القول بأن الله مالك مطلق يحق له التصرف في عباده كيف يشاء حتى قالوا بجواز عفو الله عن الكافر (10) .
8) وذهب الماتريدية إلى أن العقل يدرك حسن الأشياء وقبحها وأن معرفة الله بالعقل، حتى قال الصدري التعديل "كل ما هو واجب عقلا فهو حسن عقلا، وكل ما هو حرام عقلا فهو قبيح عقلا ومن هنا قالوا أن العقل آلة في معرفة الله وأنه كاف في إلقاء الحجة على صاحبه ولم يؤمن فهو كافر مخلد في النار. وخالفهم الأشاعرة في ذلك مستدلين بقوله تعالى وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً [الإسراء: 15] (11) وقالوا "أن إرادة الله في الشرع مطلقة لا يقيدها شيء، فهو خالق الأشياء وهو خالق القبيح والحسن.... ولا عبرة بأوامر العقل، إنما العبرة بأوامر الشارع الحكيم" (12) .
- وترتب على هذا خلاف آخر وهو:
9) معرفة الله تعالى: هل هي بالعقل أم بالسمع؟ فعند الأشعري بالشرع، وأنه لا يجب إيمان ولا يحرم قبل ورود الشرع. وعند الماتريدية بالعقل. قال صاحب (النونية):
ووجوب معرفة الإله الأشعري يقول ذلك شرعة الديان والعقل ليس بحاكم لكن له الادراك لا حكم على الحيوان وقضوا بأن العقل يوجبها وفي كتب الفروع لصحبنا قولان
- أما الماتريدية فكانوا في مخالفة الأشاعرة أقرب إلى قول المعتزلة بل قولهم وقول المعتزلة على السواء كما ذكر ابن عذبة، إلا أنهم يختلفون معهم في وجوب ذلك على الصبي العاقل غير البالغ: إذا مات بدون تصديق هل هو معذور أم لا؟ (13) .
10) الماتريدية يرون وجوب الإيمان بالعقل، ولا يرون زيادة الإيمان ونقصانه. ويحرمون الاستثناء فيه ومن قال آمنت بالله إن شاء الله فهو كافر لأنه شاك في إيمانه. والإسلام والإيمان واحد. بينما يرى الأشاعرة وجوب الإيمان بالشرع. والإيمان يزيد وينقص ويجوز الاستثناء فيه. ولا يرونه والإسلام شيئا واحدا وإنما أحدهما مغاير (14) .
11) اتفق الماتريدية والأشعرية على الكلام النفسي، لكنهم ما لبثوا أن اختلفوا في سماع موسى كلام الله: هل سمع كلامه القديم أم سمع ما يدل على سماعه؟ فاختار الماتريدي أنه لم يسمع وحملوا نصوص السماع على أن الله تعالى خلق صوتا في الشجرة (15) وأجاز الأشعري سماع الكلام النفسي القديم، وذكر ابن عذبة أن أبا الحسن ذكر في كتابه (الإبانة) مقالة أهل السنة والحديث في مسألة الكلام وهذا إثبات بأن الكتاب معتمد عند القوم، وأما تجاهل المتأخرين له فمكابرة.
12) اتفقت الماتريدية على خلق الله لأفعال العباد ثم اختلفوا: هل لقدرة العبد تأثير؟ فإلى الأول ذهب الماتريدية وإلى الثاني جنحت الأشاعرة. ورأى الماتريدي وجود أثر القدرة للعبد في وصف الفعل، ورأى الأشعري أن كل شيء خاضع قسرا للقدرة الإلهية المطلقة. واعتبر البزدوي بأن مسألة الأفعال هي من شر المسائل التي خالف بها الأشعري أهل السنة "يريد الماتريدية". وذكر ابن عذبة أن الجويني غلا في إثبات الأثر لقدرة العبد. قال "وهذا مذهب المعتزلة" ا هـ (16) .
13) واختلفوا في مسألة التكوين والمكون، فرأى الماتريدية أن التكوين صفة أزلية والمكون حادث، وهي تغاير بذلك القدرة لتساوي القدرة في جميع المخلوقات (17) أما الأشاعرة فيرون أن التكوين هو عين المكون وهو حادث. قال أبو المعين النسفي "وقول أكثر المعتزلة وجميع النجارية والأشعرية: أن التكوين والمكون واحد قول محال" (18) .
14) واختلفوا في صفة "كن" التي يخلق الله بها الأشياء، فذهب الماتريدية إلى أنها كناية عن سرعة الإيجاد فهي ليست كلمة على الحقيقة وإنما هي كلمة مجازا. وذهب الأشعري إلى أن وجود الأشياء متعلق بكلامه الأزلي، وأن هذه الكلمة دالة عليه (19).
15) ذهب الماتريدية إلى أن التوفيق: هو التيسير والنصرة، وذهب الأشعري إلى أن التوفيق هو خلق القدرة على الطاعة (20) .
16) واختلفوا في السعادة والشقاوة هل تتبدلان أم لا؟ فقال الماتريدية: إن السعيد قد يشقى والشقي قد يسعد. وسبب إجازة الماتريدي تبدل السعادة والشقاوة: لأنهما من أفعال العباد وليس في تغيرهما تغير لما كان مكتوبا في اللوح المحفوظ. واستنكر مشايخ الحنفية مقولة من يمنعون تبدل الشقاوة والسعادة "يريدون الأشعري ومن وافقه" وذكروا أن ذلك يؤدي إلى إبطال الكتب وإرسال الرسل (21) وخالفهم الأشعري فقال: إن السعيد من سعد في بطن أمه، والشقي من شقي في بطن أمه. قال الخاطري: إن الأشاعرة قالوا إن أبا بكر وعمر كانا مؤمنين في حال سجودهما للصنم. وأن سحرة فرعون كانوا مؤمنين في حال حلفهم بعزته (22) .
17) اتفقوا على جواز رؤية الله في الآخرة، واختلفوا في الدليل عليه فذهب الماتريدية إلى أن الدليل على ذلك سمعي مستدل عليه بالكتاب والسنة. أما الأشعري فيرى أن الدليل عقلي ولم يرتض بعض الأشاعرة رأي أمامهم كالرازي فانحازوا إلى رأي الماتريدية (23) .
18) واختلفوا في صفة البقاء لله: هل هو باق ببقاء زائد على الذات أم أنه باق بذاته لا ببقاء؟ فذهب الأشعري وأكثر أصحابه إلى أن البقاء صفة زائدة على الذات. وأيده بعض الماتريدية في حين ذكر ابن عذبة مخالفة إمام الحرمين والقاضي أبي بكر لرأي الأشعري. وأرجع الآمدي في أبكار الأفكار أصل قولهما إلى المعتزلة (24) .
19) وذهب الماتريدية إلى أن صفة السمع والبصر تتعلق بما يصح أن يكون مسموعا ومبصرا. وذهب الأشعري إلى أنهما يتعلقان بكل موجود، يسمع ويرى في الأزل ذاته العلية ويسمع فيما لا يزال ذوات الكائنات كلها وجميع صفاتها الوجودية. ورد الشيخ علي القاري ذلك بأنه قول مجرد عن الأدلة وهو بدعة في الشريعة (25) .
20) ذهب الماتريدية إلى أن الإيمان غير مخلوق. وذهب الأشاعرة إلى أنه مخلوق. قال الكردري "قال الإمام محمد بن الفضل: من قال الإيمان مخلوق لا تجوز الصلاة خلفه. واتفقوا على أنه كافر (26) وبناء على ما نقله الكردري يصير الأشاعرة في نظر الماتريدية غير مسلمين فضلا عن أن يكونوا من الفرقة الناجية!
وإننا لنعجب حين نجد ابن عذبة وهو يروي لنا أن أول من قال بخلق الإيمان أبو حنيفة نفسه، وأن الخلاف في هذه المسألة ناشىء بين أهل بخارى وسمرقند وكلاهما ما تريديون (27) .
21) واختلفوا في إيمان المقلد فاشترط الأشعري والباقلاني والإسفراييني وإمام الحرمين على المسلم أن يعرف كل مسألة بأدلتها كشرط لصحة إيمانه وإلا كان كما يصفه القشيري "ساقطا عن سنن النجاة، واقعا في أسر الهلاك" (28) بينما ينكر القشيري نفسه نسبة هذا القول للأشعري مؤكدا أن ذلك من مفتريات الكرامية على الإمام. ويلاحظ كما في الروضة البهية إنكار القشيري نسبة المسائل التي لا تتناسب ومذهب الأشاعرة إلى الأشعري. ويعزو هذه النسبة إلى مفتريات الكرامية.
22) وأنكر الماتريدية أن يكون الله أرسل رسلا نساء واشترطوا ذكورة النبي أما الأشاعرة فلم يروا ذكروة النبي شرطا، بل صحت نبوة النساء عندهم بدليل قوله تعالى وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى [القصص: 7] (29) .
23) واختلفوا في القدرة: هل تصلح للضدين؟ فذهب الماتريدية إلى أنها تصلح للضدين، وذهب الأشاعرة إلى أنها لا تصلح للضدين، بل لكل منهما قدرة على حدة (30) .
24) واختلفوا في الأعمال التي حبطت بالردة: هل تعود بعد التوبة منها أم لا؟ فقال الماتريدية لا تعود، وخالفهم الأشاعرة فقالوا تعود (31) .
25) واختلفوا في الكفار: هل يعاقبون على ترك الفروض والواجبات بجانب الكفر؟ فقال الماتريدية: يعاقبون على ترك الاعتقاد دون الفروض وقال الأشاعرة يعاقبون على ترك العبادات زيادة على عقوبة الكفر (32) .
26) واختلفوا في توبة اليأس: هل هي مقبولة أم لا؟ فذهب الماتريدية إلى أنها مقبولة وأن إيمان اليأس غير مقبول. وذهب الأشاعرة إلى أن توبة اليأس لا تقبل كإيمان اليأس (33) .
27) وذهب الماتريدية إلى أن الشم والذوق واللمس ليسوا صفحة زائدة لله بل هو نوع من العلم في حقه، بدليل أن ذلك الإدراك يهم العروض بأمور حادثة ينزه الله عنها. وذهب الأشاعرة إلى أن المماثلة تثبت بالاشتراك حتى لو اختلفا في وصف لا تثبت المماثلة. فاستنكر النسفي ذلك وقال: "لا نقول ما يقول الأشاعرة من أنه لا مماثلة إلا بالمساواة في جميع الصفات" (34) .
28) واختلفوا في عصمة الأنبياء: فمنع الأشاعرة وقوع الكبائر من الأنبياء مطلقا، وجوزوا عليهم الصغائر سهوا. ومنهم من منع وقوع شيء من ذلك مطلقا كالإسفراييني والقاضي عياض المكي (35) وهم بذلك موافقون للماتريدية.
نهاية المطاف
أن هذه الخلافات العميقة بن الفرقتين هي في ذاتها دليل ضد كل من يدعي أهما الطائفة الناجية وهما الماتريدية والأشعرية.
فالفرقة الناجية ليست مركبة من فرقتين متناحرتين في العقائد، وإنما هي طائفة واحدة كما في الحديث.
وليس من سماتها تقديم العقل محل النقل ولا التأويل في أسماء الله وصفاته وإنما تتميز الطائفة الناجية بأنها تقدم النقل على العقل من غير أن تعطل دور العقل.
فلا تقدم العقل على النقل على النحو الذي مضى عليه الفلاسفة والمتكلمون والمعتزلة والأشاعرة والماتريدية.
ولا تقدم القلب والكشف على النقل كما يفعل الصوفية والباطنية. (96)
ليس هناك فرق بين منهج ابن كلاب الذي لا يقر بصفات خبرية، وبين منهج متأخرة الأشاعرة، إلا ما أضافوه من تطبيقات، وما أثاروه من شبهات، وعلى هذا تكون الموازنة بين منهج الأشاعرة ومنهج الماتريدية مع بيان مأخذهما من مذهب الكلابية الذي يعد منبع أفكارهما.
لقد سلك الأشاعرة منهجاً يقضي بإثبات بعض الصفات الإلهية وتأويل بعض، فأثبتوا سبع صفات فقط وهي: القدرة، والإرادة والعلم، والحياة، والسمع، والبصر، والكلام. وسموها "صفات المعاني" ثم اشتقوا منها سبعاً أخرى سموها "صفات معنوية" أي منسوبة إلى السبع السابقة، وهي: كونه تعالى قادراً، مريداً، عالماً، حياً، سميعاً بصيراً، متكلماً. كما ذكروا ست صفات أخرى سموها "صفات سلبية" لأن إثباتها ينفي أضدادها وهي: الوجود، القدم، البقاء، مخالفة الحوادث، القيام بالنفس، الوحدانية (36) . فبلغت الصفات عندهم عشرين صفة، إلا أنهم يرجعونها إلى السبع المسمى صفات المعاني، وزعموا أنهم أثبتوا هذه الصفات لأنها ثبتت بالعقل، قال الأنصاري: "وأما برهان اتصافه تعالى بالقدرة، والإرادة، والعلم، والحياة، أنه لو انتفى شيء من صفات المعاني لما وجد شيء من الحوادث، لاستحالة وجود المتوقف بدون المتوقف عليه؛ إذ وجود العالم متوقف على اتصاف الفاعل بهذه الصفات، فلو انتفت القدرة لزم العجز، والعاجز لا يوجد شيئاً من الحوادث، ولو انتفت الإرادة لانتفى التخصيص، فلا يوجد شيء من الحوادث، ولو انتفى العلم لانتفت الحوادث لاستحالة القصد للشيء المجهول.
ولو انتفت الحياة لانتفت هذه الصفات فلا يوجد شيء من الحوادث... وأما برهان وجوب السمع له تعالى والبصر والكلام فالكتاب والسنة والإجماع، والعقل؛ لأنه لو لم يتصف بها لزم أن يتصف بأضدادها التي هي الصمم، والعمى، والبكم، وهي نقائص، والنقص عليه تعالى محال" (37) .
وبناء على هذا المسلك فقد أول الأشاعرة جميع الصفات الخبرية، وهي التي لا يصح أن نصف الله بها لولا ثبوتها في النقل، وليست مثل صفة الحياة – مثلاً – التي يعلم كل عاقل بفطرته أن الباري متصف بها، ووضع لها الرازي قانوناً للتأويل ما عدا السبع فقال: "القانون الكلي في أمثال هذه الصفات: أن كل صفة تثبت للعبد فيما يخص بالأجسام، فإذا وصف الله بذلك فهو محمول على نهايات الأعراض لا على بدايات الأعراض، مثاله: أن الحياء حالة تحصل للإنسان ولها مبدأ ونهاية، أما البداية فهو (هكذا) التغير الجسماني الذي يلحق الإنسان من خوف أو ينسب إلى القبيح، وأما النهاية فهي أن يترك الإنسان ذلك الفعل، فإذا ورد الحياء في حق الله تعالى فليس المراد منه ذلك الجواب الذي هو مبدأ الحياء وتقدمته، بل المراد هو ترك الفعل الذي هو منتهاه وغايته، وكذلك الغضب له مبدأ وهو غليان دم القلب وشهوة الانتقام، وله غاية وهي إيصال العقاب إلى المغضوب عليه، فإذا وصفنا الله تعالى بالغضب فليس المراد هو ذلك المبدأ أعني غليان دم القلب وشهوة الانتقام، بل المراد تلك النهاية وهي إنزال العقاب، فهذا هو القانون" (38) .
وهذا القانون لا يخفى اختلاله على متأمل؛ إذ يلزم منه أن يكون كل مغضوب عليه معاقباً، وهذا يؤدي إلى قول المعتزلة في وجوب معاقبة صاحب الكبيرة، كما يطعن فيه كون كثير من الصفات التي لا يثبتونها ليست لها بدايات ولا نهايات، وإلا فأين بدايات ونهايات "اليد" و"العين" و"القدم" وغيرها من الصفات الثابتة في النقل؟
ويذكر شيخ الإسلام ابن تيمية أن أول من اشتهر عنه نفي الصفات الخبرية، وتأويلها أبو المعالي الجويني ت 478هـ حيث أولها في كتاب (الإرشاد)، ثم رجع عنه وحرم تأويلها في (الرسالة النظامية) (39) . ولعل المقصود من كلامه – رحمه الله – الاشتهار كما هو ظاهر عبارته، وإلا فقد نفى بعضها الباقلاني ت 304هـ، ومشى على قانون التأويل فقال: "ونعتقد أن مشيئة الله تعالى ومحبته، ورضاه ورحمته، وكراهيته، وغضبه وسخطه، وولايته، وعداوته كلها راجع إلى إرادته" (40) هذا مسلك الأشاعرة في الإثبات والتأويل.
وأما الصفات الثبوتية عند الماتريدية فثمان صفات وهي: القدرة، والعلم، والحياة، والإرادة، والسمع، والبصر، والكلام، والتكوين (41) . وإنما خصوا الإثبات بهذه الصفات دون غيرها لأنها هي الثابتة بالعقل عندهم، وما عداها لا يدل العقل على ثبوتها فيلزم نفيها تنزيها لله، كما قال الأشاعرة تماماً، ولذا لا تجد لهم قدماً راسخة في الإثبات، يقول الماتريدي – عن علو الله تعالى -: "والأصل فيه أن الله سبحانه كان ولا مكان، وجائز ارتفاع الأمكنة وبقاؤه على ما كان، فهو على ما كان، وكان على ما عليه الآن، جل عن التغير والزوال والاستحالة والبطلان، إذ ذاك أمارات الحدث التي بها عرف حدث العالم" (42) ويقول: "وأما رفع الأيدي إلى السماء فعلى العبادة، ولله أن يتعبد عباده بما شاء ويوجههم إلى حيث شاء، وإن ظن من ظن أن رفع الأبصار إلى السماء لأن الله من ذلك الوجه إنما هو كظن من يزعم أنه من جهة أسفل الأرض بما يضع عليه وجهه متوجهاً في الصلاة ونحوها... على أن السماء هي محل ومهبط الوحي ومنها أصول بركات الدنيا، فرفع إليها البصر لذلك" (43) وهذا الكلام يدل دلالة قاطعة على أن الرجل لا يثبت علو الله، وأنه لا يفرق بين ما ثبت بالشرع وبين ما ثبت بالفطرة.
وأما آيات الاستواء فيرى التوقف في فهم معناها، يقول أبو منصور: "... وقد بينا أنه في فعله وصفته متعال عن الأشباه فيجب القول بـ الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى [طه: 5] على ما جاء به التنزيل وثبت ذلك في العقل، ثم لا نقطع تأويله على شيء لاحتماله غيره مما ذكرنا... ونؤمن بما أراده من غير تحقيق على شيء دون شيء... فإن الله يمتحن بالوقوف في أشياء كما جاء من نعوت الوعد والوعيد، وما جاء من الحروف المقطعة وغير ذلك مما يؤمن المرء أن يكون ذامما المحنة فيه الوقف لا القطع" (44) هذا موقفه من هذه الصفة في هذا الكتاب، ويقول في كتاب آخر: "لو حقق معنى الاستواء لأوجب ذلك تغيراً وزوالاً ونحو ذلك، والله يجل عنه ويتعالى؛ إذ ذلك علم الحدوث، وأمارة الغيرية" (45) وهذا القول يناقض القول بالتوقف؛ لأنه نفي إثبات لهذه الصفة الثابتة في القرآن الكريم، مع العلم أن الوقف ذاته يخالف مذهب السلف من أهل السنة والجماعة.
ونظراً لاضطراب قول الماتريدي بين التأويل والتفويض اضطربت الماتريدية بعده، فرجح بعضهم التأويل، ورجح آخرون التفويض، ومنهم من أجاز الأمرين، ومنهم من خص التفويض بفئة من الناس والتأويلات بفئة أخرى، حيث قالوا – عن آيات الصفات -: "إما أن نؤمن بتنزيلها ولا نشتغل بتأويلها... وإما أن تصرف إلى وجه من التأويل يوافق التوحيد" (46) وقالوا: "إنه تعالى استوى على العرش مع الحكم بأنه ليس كاستواء الأجسام على الأجسام من التمكن والمماسة والمحاذاة، بل بمعنى يليق به سبحانه وحاصله: وجوب الإيمان بأنه استوى على العرش مع نفي التشبيه، فأما كون المراد أنه استيلاؤه على العرش فأمر جائز الإرادة؛ إذ لا دليل على إرادته عيناً، فالواجب عيناً ما ذكرنا، وإذا خيف على العامة عدم فهم الاستواء إذا لم يكن بمعنى الاستيلاء إلا باتصال ونحوه من لوازم الجسمية وأن لا ينفوه فلا بأس بصرف فهمهم إلى الاستيلاء" (47) .
وقال ماتريدي آخر: "فاللائق بالعوام سلوك طريق التسليم، واللائق بأهل النظر طريق التأويل لدفع تمسكات المبتدعة" (48)"فالماتريدية إذاً ليس لهم قانون موحد مستقيم يسيرون عليه في التأويل ولا في التفويض فأقوالهم فيه مختلفة مضطربة" (49) .
وبإلقاء نظرة عاجلة على ما سبق يتجلى لنا ما يلي:
1- التقارب البين بين المنهج الأشعري، والمنهج الماتريدي في الصفات وقانون التأويل، ولعل السبب في ذلك راجع إلى أن المذهبين انبثقا من المذهب الكلابي الذي كان منتشراً في بلاد ما وراء النهر، وهي البلاد التي عاش فيها الماتريدي (50) ، وهذا التقارب جعل عدداً من الباحثين والكتاب يجزمون بأنهما فرقة واحدة تحت اسمين: يقول البياضي الماتريدي: "إنهم – يعني الماتريدية والأشعرية – متحدوا الأفراد في أصول الاعتقاد، وإن وقع الاختلاف في التفاريع بينهما؛ إذ لا يعد كل من خالف غيره في مسألة ما صاحب مقالة عرفاً، وما من مذهب من المذاهب إلا ولأصحابه اختلاف في التفاريع" (51) ويقول الزبيدي: "إذا أطلق أهل السنة والجماعة فالمراد بهم الأشاعرة والماتريدية" (52) ويقول فتح الله خليف: "حرصنا على أن نقدم كل هذه النصوص لنبين أن الحافر يقع على الحافر وأن توسط الماتريدي هو بعينه توسط الأشعري، وأن شيخي السنة يلتقيان على منهج واحد، ومذهب واحد، في أصول مسائل علم الكلام" (53) وذكر أيضاً أن هذا التقارب الفكري هو الذي يفسر لنا كون الأزهر – رغم أشعريته الكلابية – اتخذ كتاب (العقائد النسفية) للنسفي الماتريدي مصدراً أساساً لدراسة التوحيد منذ زمن بعيد (54) .
وتوصل شمس الدين الأفغاني في موازنته بين الطائفتين إلى نتيجة ذكرها بقوله: "والحاصل أن الماتريدية والأشعرية فرقة واحدة من ناحية المعتقد، أو كادتا أن تكونا فرقة واحدة، على أقل التقدير، وما بينهما من الخلاف فهو يسير وغالبه لفظي، وهما واسطة بين أهل السنة، والجهمية الأولى، والمعتزلة، كما أنهما من المعطلة" ثم ذكر أن الماتريدية الديوبندية يصرحون بأنهم أشعرية وماتريدية في آن واحد (55) .
2- أننا إذا تأملنا الصفات السبع لدى الأشاعرة، والصفات الثماني لدى الماتريدية نجد أن إثباتها ونفي ما سواها يعود إلى قاعدة إثبات صفات الذات ونفي ما عداها التي قعدها ابن كلاب.
3- أن صفة التكوين التي أضافها الماتريدي – وقال بها بعض الأشاعرة – تعود في الحقيقة إلى قاعدة ابن كلاب المذكورة في الصفات، ويتبين ذلك بذكر مفهوم التكوين عندهم: فمن المعلوم أن أفعال الله تعالى على نوعين: متعد، ولازم، فالمتعدي مثل الخلق، والرزق، والإحياء، والإماتة، ونحو ذلك، واللازم مثل الاستواء، والنزول، والمجيئ والإتيان، ونحو ذلك (56) ، وترى الماتريدية أن جميع صفات الأفعال المتعدية ترجع إلى صفة واحدة هي صفة التكوين، والتي فسروها بإخراج المعدوم من العدم إلى الوجود (57) ، أما الصفات الفعلية اللازمة فينفونها بالتأويل الفاسد بناء على القاعدة الكلامية القائلة بأن إثبات الصفات يجب أن يكون بالعقل، ومعلوم أن الأصل في ثبوت الأفعال اللازمة الخبر، والعقل لا يستقل بإثباتها، كل ما في الأمر أن ابن كلاب نفي جميع صفات الأفعال الخبرية، وأرجعها إلى صفات الذات التي لا تتعلق بالمشيئة، وأما الماتريدي فأرجع الجزء المذكور من صفات الأفعال إلى صفة التكوين، ووصفوها بأنها أزلية لا تتعلق بالمشيئة (58) ، وسيأتي – بإذن الله – بيان أن صفة التكوين تمثل نقطة خلاف بين جمهور الأشعرية والماتريدية.
4- أننا حين نقول: إن الأشاعرة والماتريدية يثبتون سبع صفات أو ثمان صفات لله ينبغي أن نقول ذلك بتحفظ؛ لأن إثباتهم لها يختلف عن الإثبات المعروف عند أهل السنة والجماعة، وهو: أن السلف يفهمون معنى الصفة الثابتة لله، ويوكلون إدراك الحقيقة إلى الله، مع القطع بعدم مشابهة المخلوقين، فلو نظرنا في إثباتهم للكلام – مثلاً – لوجدناهم يقولون: "وليس مرادنا من إطلاق الكلام غير المعنى القائم بالنفس" (59) ويعتقدون أن هذا الكلام النفسي هو الذي لا يوصف بأنه مخلوق، أما ألفاظ القرآن التي نقرأها فهي مجرد عبارة عن كلام الله وليس كلام الله حقيقة، ويقول أحدهم بكل صراحة: "أما القرآن بمعنى اللفظ الذي نقرؤه فهو مخلوق، لكن يمتنع أن يقال: القرآن مخلوق، ويراد به اللفظ الذي نقرؤه إلا في مقام التعليم" (60) ويقول النسفي الماتريدي: "وقال أهل الحق (الماتريدية)... إن كلام الله تعالى صفة أزلية ليست من جنس الحروف والأصوات، وهي صفة قائمة بذاته منافية للسكوت والآفة، من الطفولة، والخرس، ونحو ذلك،
والله تعالى متكلم بها آمر ناه، وهذه العبارات دالة عليها، وتسمى العبارات كلام الله تعالى على معنى أنها عبارات عن كلامه، وهو ينادي بها؛ فإن عبر عنه بالعربية فهو قرآن، وإن عبر عنه بالسريانية فهو إنجيل، وإن عبر عنه بالعبرية فهو توراة، والاختلاف على العبارات المؤدية لا عليه، كما يسمى الله تعالى بعبارات مختلفة بالألسنة، وفي لسان واحد بألفاظ مختلفة، والمسمى ذات واحد لا خلاف فيه، هذا هو بيان قول أهل الحق" (61) .
5- بهذا كله نعلم أن منهج الأشاعرة والماتريدية – على الرغم من انتشارهما في العالم الإسلامي – منهج مخالف لما كان عليه سلف الأمة من إثبات صفات الله إثباتاً حقيقياً بلا تعطيل، ولا تمثيل، وإن زعم سلفية هذا المنهج من زعمها من المتأخرين كما صنع فتح الله خليف في مقدمته لكتاب (التوحيد) للماتريدي (62) .
وأضيف هنا أن الأشعرية الكلابية، والماتريدية على الرغم من أنهما اتفقا في سلوك منهج التأويل والتعطيل، وركوب صهوة العقل، فقد اختلفوا في مسائل الاعتقاد، عنى بجمعها المؤلفون (63) ، فنقل التاج السبكي ت 771هـ عن والده التقي السبكي ت 756هـ أن مسائل الخلاف، بين الطائفتين ثلاث مسائل فقط، ثم ذكر هو أنها ثلاث عشرة مسألة، منها ست الخلاف فيها معنوي، وسبع الخلاف فيها لفظي، وتبعه على ذلك، الزبيدي، والمقريزي، وأوصلها البياضي إلى خمسين مسألة (64) ، والذي يبدو للمتأمل أن خلافهم في التعداد راجع في غالبه إلى التفصيل والإجمال، وأن أذكر من تلك المسائل ألصقها بالصفات والتأويل:
1- صفة التكوين: والتكوين عند الماتريدية – كما تقدم – هو الإخراج من العدم إلى الوجود، وهو عندهم صفة أزلية، والصفات الفعلية المتعدية عندهم من متعلقات التكوين، وليست صفات لله حقيقة، وإلا لزم قيام الحوادث بالله تعالى، أو لزم تكثير القدماء جدا (65) وأما جمهور الأشاعرة فلا يعترفون بصفة التكوين، ويذهبون إلى أن صفات الأفعال مجرد إضافات واعتبارات حادثة مرجعها مجموع القدرة والإرادة (66) ، ويبدو أن الأشاعرة رفضوا هذه الصفة بناء على أصلهم السابق في إقرار سبع صفات فحسب، مع قولهم: إنها الثانية بالعقل، وأما الماتريدية فقد أتوا بهذه الصفة – التكوين – ووصفوها بالأزلية فراراً من القول بحلول الحوادث بذات الله – كما زعموا – غير أنهم قد عجزوا عن إزاحة الغموض عن رأيهم حول هذه الصفة، قال الرازي في مناظراته مع نور الدين الصابوني الماتريدي ت 580هـ: "هذه الصفة التي سميتها التكوين إن كانت عبارة عن هذه الصفات السبع فنحن نعترف بها، إلا أن البحث يصير لفظياً، وإن كانت صفة أخرى فلابد من بيانها وشرح حقيقتها حتى يمكننا نفيها أو إثباتها" (67) وهذا يدل على أن الخلاف في هذه المسألة خلاف جوهري.
2- هل يجوز سماع كلام الله تعالى أو لا؟
ذهبت الأشعرية إلى الجواز (68) ، وذهبت الماتريدية إلى المنع، وأولوا النصوص التي ورد فيها ذكر لسماع كلام الله بمعنى إعلام الله إيانا معنى كلامه كما علمنا قدرته وربوبيته، وقدرته تعالى على المعلومات لا من المسموعات (69) .
وقول الماتريدية – على بطلانه – أوفق لمذهبهم في القول بالكلام النفسي الذي ليس بحرف ولا صوت؛ لأنه إذا لم يكن بحرف وصوت، لم يتصور سماعه، والأشاعرة كان يلزمهم القول بمذهب الماتريدية لأنهم يقولون بالكلام النفسي.
3- هل المشيئة والإرادة تستلزمان الرضا والمحبة، أو لا؟
ذهبت الماتريدية إلى عدم استلزام المشيئة للرضا والمحبة، فالمعاصي والكفر مراد لله تعالى كونا مع عدم الرضا به (70) ، وذهب جمهور الأشاعرة إلى أن الإرادة والرضا متحدان فالله تعالى كما يريد الكفر يرضى به أيضاً واختار بعضهم المذهب الأول (71) ، ومذهب جمهور الأشعرية في هذه المسألة باطل بدليل قوله تعالى: إِن تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنكُمْ وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ[الزمر: 7] فالإرادة عند أهل السنة نوعان: إرادة كونية شاملة لجميع الموجودات، وإرادة شرعية متضمنة للمحبة والرضا (72) ، وبناء على هذا الأصل في عدم التفريق بين الإرادة الكونية، والإرادة الشرعية فقد أقدم الأشاعرة على تأويل النصوص الدالة على أن الله تعالى لا يرضى لعباده الكفر والمعاصي (73) .
4- هل يجوز عقلاً أن يعذب الله تعالى المطيع أو لا؟ فالأشعرية يجوزون ذلك (74) ، والماتريدية لا يجوزونه (75) ، والحق أن الله لا يعذب المطيع (76) .
5- هل معرفة الله واجبة بالعقل أو بالشرع؟
قالت الأشعرية: معرفة الله واجبة بالشرع لا العقل (77) ، وقالت الماتريدية: معرفة الله واجبة بالعقل ولو لم يكن الشرع (78) ، وقال صاحب نظم الفرائد: "ذهب جمهور مشايخ الحنفية إلى أنه تعالى لو لم يبعث للناس رسولاً لوجب عليهم بعقولهم معرفة وجوده تعالى ووحدته، واتصافه بما يليق به (79) " وثمرة الخلاف تظهر فيمن لم تبلغه الدعوة فمات، ولم يؤمن، فهو غير معذب عند الأشاعرة، معذب الماتريدية (80) ، والحق أن الله لا يعذب من لم تبلغه الدعوة بدليل قوله تعالى: وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً [الإسراء: 15] (81) وترتب على هذا تأويل الماتريدية للنصوص القاضية بلزوم إقامة الحجة قبل العقاب (82) .
6- هل يجوز التكليف بما لا يطاق؟ قالت الأشعرية بالجواز، وقالت الماتريدية بالمنع (83) ، والحق المنع بدليل قوله تعالى: لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا [البقرة: 286] وترتب عليه تأويل الأشاعرة هذه الآية وما في معناها (84) .
7- هل يجوز صدور الصغائر من الأنبياء؟ مذهب الأشاعرة الجواز، ومذهب الماتريدية المنع (85) ، والحق أن الأنبياء معصومون من الإقرار على الذنوب مطلقاً (86) .
8- هل يجوز الاستثناء في الإيمان؟
منعت الماتريدية الاستثناء، وقالت الأشاعرة بالجواز (87) ، ولم يصب التاج السبكي في جعله الخلاف في هذه المسألة خلافاً لفظياً، فكيف يكون لفظياً وقد رتب عليه بعض الأحناف تكفير من يقول بالاستثناء في الإيمان، فيقول: "لا ينبغي للحنفي أن يزوج ابنته من رجل شافعي المذهب، ولكن يتزوج من الشافعية تنزيلاً لهم منزلة أهل الكتاب، بحجة أن الشافعية يرون جواز الاستثناء في الإيمان وهو كفر" (88) .
9- هل يصح إيمان المقلد؟ (89) مذهب جمهور الحنفية الماتريدية أن إيمان المقلد صحيح، غير أنه عاص بترك الاستدلال (90) ، وذهب جمهور الأشاعرة إلى عدم الاكتفاء بالتقليد في العقائد، وفسر بعضهم عدم الاكتفاء بالكفر، ونقل عن الأشعري أنه قال: إن المقلد خرج من الكفر ولم يستحق اسم الإيمان (91) .
قلت: إن صح عنه هذا فهو من آثار الاعتزال وبقاياه، وإلا فما المانع من أن يستحق اسم المؤمن إذا شهد بالحق واستقامت حاله؟ والحق صحة إيمان كل مؤمن بما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم مع طاعته (92) ، وذكر صاحب (التمهيد) أن المشهور من مذهب الأشعري أن المقلد ليس بمؤمن (93) .
والحاصل: من هذه المقارنة أن هؤلاء لا يختلفون في الأصول الكلامية التي بنوا عليها التأويل، أعني: تقديم العقل على النقل، وبناء التأويل على ما سموه محالات عقلية، يقول أحد أئمة الماتريدية:
"وقد تقرر أن الأمر الممكن الذي أخبر به الشارع يجب الإيمان من غير تأويل، وأما الأمر المحال عقلاً فالنص الوارد فيه مصروف عن ظاهره، كالنصوص الموهمة لإثبات جسمية، أو جهة للواجب تعالى، نحو قوله: يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ [الفتح: 10] فإنهما مؤولة بالقدرة، وقوله: الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى [طه: 5] فالاستواء مؤول بالعظمة التامة، والقدرة القاهرة" (94) .
وكذلك متفقون على أن نصوص القرآن والسنة المتواترة وإن كانت قطعية الثبوت ولكنها ظنية الدلالة؛ لأنها أدلة لفظية وظواهر ظنية لا تفيد اليقين (95) . ولأجل هذا كله اتحد منهجهم في باب الصفات فأثبت كل بعض الصفات وأول بعضاً.
وتجدر الإشارة إلى الأقوال المنسوبة إلى الطائفتين فيما سبق من باب التغليب، فقد يوجد من الأشعرية من قال بقول الماتريدية في بعض المسائل، وكذلك العكس.