" لما كان الإنسان الحيوان الوحيد الذي يعيش الشقاء، أضحى الحيوان الوحيد الذي يضحك"
أصدر القاص والشاعر هشامي العيدي مجموعة قصصية موسومة بـ"هجرة الظلام" عن دار النشر القرويين، الدار البيضاء2009، من القطع المتوسط في 88 صفحة. تحتضن المجموعة أضمومة قصصية من خمس عشرة قصة قصيرة، تعد في جماعها خلاصة تجارب من وحي العطالة.
سوف نركز في قراءة هذه المجموعة القصصية على ثيمة رئيسة فيها، يتعلق الأمر بالسخرية من حيث بعدها الأسود، فلا مندوحة في أن السخرية تتعدد بتعدد العمادات السردية الحاضنة لها، وكذا من خلال الأبعاد التي تريد الذات الإنسانية تمرير أفكارها من خلالها، فالسخرية في الكاريكاتير ليست هي نفسها المتعلقة بالرواية، وليست كتلك التي نعثر عليها في الشعر، وهكذا دواليك. إن إواليات الفعل السخري في الممارسة الإنسانية بكامل تمفصلاتها، جعلته يتزيى بكل أنماط التعبير المختلفة، من حيث البناء ومن حيث التدليل؛ فالسخرية توجد في كل الأنماط السردية، وهي بذلك خاضعة لطبيعة النصوص الحاضنة لها.
إن السخرية(Ironie) بناء له خصوصيته في الاشتغال ونمطه المخصوص في التدليل، وليست ضرورة معطى جاهزا، إذ تقوم على العلاقة التواصلية بين المتخاطبين والمقامات التواصلية الجامعة بينهم، حيث يمكن من خلال هذه العلاقة خلق أثر فعل ساخر يكون بالضرورة ذا طابع مبنين استنادا إلى الموسوعة الإدراكية الجامعة، لذلك فإن ضبط الفعل السخري في هذه المجموعة القصصية مناط التحليل يتم عبر الاسترشاد بمجموعة من المؤشرات التي تجعل من سبر غوره أمرا واردا.
ننطلق في هذا التحليل من مسلمة مفادها أن كل نص سردي له خصوصيته في التعامل مع المؤشرات الساخرة، وهذه الخصوصية تجعل من المؤشرات الساخرة غير منمطة، لكن تخضع لطبيعتي النص والعماد الحاضن له.
بناء مفهوم السخرية
ترتبط السخرية في الحس المشترك بالاستهزاء والطنز، وقول شيء والمراد خلافه، حيث يكون المنطوق بخلاف المفهوم، ولعل هذا لا يحيد قيد أنملة عما تقدمه اللغة العالمة لمفهوم السخرية، جاء في لسان العرب لابن منظور قوله: "سخر وسخر منه وبه، وسخرا وسخرية وسخرا أي هزء به[1]، ومنه فالسخرية فعل قائم على قلب المعاني المباشرة إلى معان مستلزمة حواريا، تخلق ورود الانتقال من المعاني التقريرية التي تؤديها العبارات ظاهرا إلى المعاني الخالقة لأثر فعل ساخر.
تكاد تجمع النماذج السيميائية التي اقترحت لدراسة الفعل السخري في كون السخرية تقوم على القلب، لكنه قلب مخصوص، فهو لا يقوم على قلب لغوي فقط، وإنما يتم من خلال عكس للتمثل والصور الذهنية المنطبعة عفويا بعد الإدراك المباشر للعلامات، إنه انزياح عن المعنى المباشر الذي يقدمه المؤول المباشر للعلامات، حيث يطرح الدلالة ضمن مؤول دينامي خالق لمعنى ساخر، وهذا الانتقال لا يتم إلا من خلال عملية ننعتها بالتسخير(Ironisation)، أي الاستناد إلى ذخيرة معرفية تقذف بالدال السخري في التدلال إلى حدود الوصول إلى معنى نهائي نطمئن إليه أخيرا، هو المدلول السخري عينه الذي يقدمه المؤول النهائي. ولذلك ارتبطت السخرية بصور الفكر، وليس بصور اللغة، ودون الدخول في متاهة التعريفات المتعددة للسخرية، نورد تعريفا، نظنه، يفي بالغرض يقول: "إن الملفوظ السخري هو الملفوظ الذي يقول شيئا آخر لا الذي نفكر فيه، ويجب أن نفهم شيئا آخر غير الذي قيل، إنه يوظف بوصفه قلبا لخطاب الآخر، للتعبير عن مجاوزة الدفاع عن مباشرية الملفوظ، وذلك بخلق سياق مخصوص[2]".
مؤشرات السخرية في النص
انطلاقا من المسلمة السالفة الذكر، يمكن أن نسترشد إلى الحضور السخري في المجموعة القصصية "هجرة الظلام" من خلال المؤشرات الآتية:
٭ السخرية والتصريح: نقصد بهذا المؤشر الحضور السخري في النص من خلال المدلولات اللفظية الدالة على السخرية، حيث تقوم بإدراج الذات المتقبلة أمام مؤول مباشر صريح، يمكنه بوساطته التعرف إليها دون عنت:
"أنت لم تنقش على الصخر، ولكنك تنكمش فوقه، وتنقش على ذكريات بالية..ما أسوأك من رسول..يسخر منه الشباب، وهو يتعارك مع جحشه النحيل وقلتي الماء" ص17
" يستقبلني بالحفاوة والحبور ببذلته الزرقاء النقية التي رسم عليها بخط أحمر واضح:"حارس الدراجات"سألته ذات يوم مازحا:
- هل تحرس السيارات أم الدراجات فقط؟" ص 23
" – يا سيدتي الوزيرة: تريثي قليلا لا تأخذي كلام أي أحد مأخذ الجد.
- أرجوك، لا تسخر مني، ربما أكون وزيرة بالفعل أو على الأقل برلمانية، كل شيء ممكن، كفى من التشاؤم" ص 47
يعن لنا من خلال هذه المقاطع أن السخرية القائمة على التصريح تكفي القارئ عناء القيام بالفعل التسخيري السالف ذكره، وتجعل من الإيديولوجيات التي ترزح في مستواها الغفل تسفر عن لثامها، وتهب نفسها ذلولا للتداول خارج المعطيات النصية، كاشفة عما تحبل به التجربة الإنسانية من تناقضات.
٭ السخرية والموقف: إذا كانت السخرية المصرح بها من خلال الألفاظ الدالة عليها، تعد بناء عاديا يسعف القارئ في الوصول إلى الفعل السخري مباشرة، فإن سخرية الموقف تعد من أرقى مؤشرات السخرية، إن لم نقل هي مضمون السخرية عينها، مادامت هذه الأخيرة موقف الأنا من العالم انطلاقا من تنشئتها الاجتماعية، والبنيات التي تحدد نمط وجودها، وبالتالي فإن إدراكها يتم من خلال موسوعة سابقة في الوجود عن التحقق الفعلي لها عبر المعطيات النصية، فهي تحضر من خلال مواقف السارد من العطالة والحلم والدراسة والفشل وتناقضات المجتمع التي يراها بعين حنقة:
"مازال الأطفال يلعبون اللعب نفسه، الركل والرفس والركض..ومازال المعلم يتسلل بهدوء وراء حجرة الدرس ليقضي حاجته في كيس من البلاستيك، ويلقي به أسفل سافلين" ص16
"المرضى هنا يموتون كما الحشرات، والمسؤولية لا تقع على أحد بعينه!
إذن ينبغي للفقراء أن لا يمرضوا!
هذا هو الحل لأزمة الصحة ببلادنا، وربما ينبغي لهم ألا يموتوا أيضا" ص ص 31-33
إن السخرية موقف من العالم، وهي بهذا ترجع إلى كون السارد يعيش داخل أكوان قيمية لها مجموعة من المضامين الأكسيولوجية، يتم التعبير عن موقفه منها عن طريق التسخير، ومن تم تنتقل هذه القيم من الأكسيولوجيا، من قيم مضمونية بالغة التجريد والمحايثة، إلى قيم تتخذ من الاستثمار السردي سندا لها فتتحول إلى إيديولوجيا بمعناها السيميائي، أي مجموع القيم التي تبرز في شكل دلالة الخطاب السردي. يعد التسخير البؤرة الأولى لتناول القيم وتحديد الرؤية إلى العالم، ففي المقطع الأول نستشف رأي السارد للروتين اليومي الذي يطبع الحياة المغربية، فلا شيء إلا ويبقى على حاله، وأيضا يشير إلى الطبقية التي تشغل المجتمع المغربي أيضا، وإلى الهوة الصارخة بين أصحاب البطون المنتفخة والفقراء، وغيرها من الأسئلة التي تقبع خلف ذهن أي مغربي ضاق مرارة العطالة وعنف الهراوات.
٭ السخرية والتناقض: تعضد السخرية القائمة على التناقض موقف السارد من الأشياء والعالم، هدف السخرية الأخير من ذلك تدمير التصورات الثابتة والعبث بها من خلال الجمع بين النقائض والنظائر:
" أما وأنا الآن في هذا المكان الراقي لا يقلقني سوى حذائي المتهالك، وأخشى أن يرى سعادة المدير أصبعي، وهو يطل منه كالجرد المتردد بين الإقدام والإحجام" ص 12
"استغربت، لماذا هذا النوع من الاستقبال، المزابل أول ممن يستقبلك عند دخول أي مدينة، ربما هذا هو السبب الذي يجعل الميسورين والمهمين من الناس يحلقون في السماء، أو يسافرون عبر سيارات مكيفة" ص 45
" قاطعني متسائلا:
- أين تشتغل؟
- أشتغل معطلا" ص68
بين السارد التناقضات التي يعيشها المجتمع المغربي من خلال نظرة متعلم معطل، فكم هي الصور المتناقضة التي لملمها كثير من المعطلين، وهم يدخلون أبواب الوزارات ينتعلون الأسمال، وتكاد لا تفرق في سحناتهم بين الأحياء والأموات، تلك هي النظرة التي بدرت للسارد، وهو يصور تلك المشاهد التي ألفناها وأصبحنا مطبوعين على مشاهدتها، للأسف، صباح مساء: المزابل والزبونية وغيرها تعكس الوضع الحقيقي للمجتمع، كما تحدد نظرة السارد للعالم والأشياء والرموز،عبر معطيات بصرية محددة، سواء كانت أوضاعا إنسانية أم سلوكيات فردية.
٭ السخرية والتصوير الحسي: يقوم التصوير الحسي على استثمار الأبعاد الإنسانية في الفعل السخري استنادا إلى المدركات الخمس: البصر، والسمع، والشم، واللمس، والذوق، لمحاولة تقديم أثر معنى ساخر، وهذا ما يمكن استخلاصه في المقطعين الآتيين:
"فكرت في الدخول إلى المرحاض، وهذه حاجة لا يتخلى عنها أي إنسان، ولا ضرر في ذلك، وهناك أتخلص من الجوارب، والملابس الداخلية" ص 13
"تخرج بعض النساء بين الآونة والأخرى لأغراض تافهة، أو لقضاء الحاجة الطبيعية..هذه الحاجة تحرج الفتيات اليانعات فقط، هن من يجبن بالعيون في كل الاتجاهات قبل الاختفاء" ص 15
تشترك الحواس الخمس (الحس المشترك) في هذه المقاطع السردية لتقديم أثر فعل ساخر، إن المدركات الحسية في هذه السخرية الحية لا تقف عند أبعادها النفعية فقط، فالتسخير يظهر قريبا من الوضع الإنساني في كامل جزئياته.
٭ السخرية والتضمين السالب: نقصد بالتضمين السالب استعارة الكاتب من غيره كلاما يضمنه في كلامه، بشرط أن يكسب بهذا التضمين فعلا ساخرا بناء على جماع عناصر النص السردي المبنية على سلب الدلالة المشهورة من الشيء المضمن:
"ربما لو كتب لأفلاطون أن يرى هذا العالم البشوش لتبناه بدل مثله الغبية. أنت يا أفلاطون أحمق وبليد لم تسافر إلى العمق كما أنا، كنت تنظر إلى العالم المثالي من كهف مهجور" ص ص 7-8
"أخطأ أبو القاسم الشابي، كان عليه أن يقول:
من لا يحب نزول الجبال يعش أبد الدهر بين الحفر" ص 16
"والحقيقة أنه كان على جاليليو أن يكتشف دوران الرأس بدل الأرض، لأن الرأس هي التي تدور دون توقف"ص73
لا تخفى هذه التصنيفات التي تلعب دورا رئيسا في الفعل السخري، إذا نظرنا بعين الاعتبار إلى المقام الذي وردت فيه، ففي الأول تم تضمين المدينة الفاضلة لأفلاطون بطريق يسلب لأفلاطون منهج تفكيره فيها، والسارد يفعل ذلك تحت وطأة التناقضات التي يراها، مما يجعله ينظر إلى الأشياء المألوفة بعين غير مألوفة وبطريقة ساخرة، وفي المقطع الثاني حوار بين مع بيت شعري مشهور للشاعر التونسي الرومانسي أبو القاسم الشابي الذي يقول فيه:
ومن لا يحب صعود الجبال يعش أبد الدهر بين الحفر
وقد كان هذا البيت والقصيدة كلها ترددها جحافل المعطلين وتتبنى مضامينها، أما المقطع الأخير فتم تضمين نظرية جاليليو المتعلقة بدوران الأرض حول الشمس، مفندا بذلك زعم قرارها، إلا أن النظرة المتشائمة للسارد جعلته يحاورها أيضا مبينا أن الرأس الإنساني هو الذي يدور بلا قرار، وفي ذلك إشارة إلى تبدل الإنسان مع تغير أحواله، وهذا نفسه ما حدث لكثير من المعطلين بعدما حصلوا على وظائفهم.
٭ السخرية والتصوير الكاريكاتيري: يعد الكاريكاتير خطابا مزاجيا يقدم أثر فعل ساخر عبر انزياح يخلقه هذا الفعل نفسه، وهو يسمح في الغالب بقاربة سريعة تضلل من خلال وجهتها المضحكة، لكنها تغطي فقط تسلية بسيطة، تحرس فقط على مشاهدتنا لحركة سريعة للحظة. يقوم في النص على ثلاثة مبادئ هي: الإيحاء: أي الإشارة الخفية للموضوع، ومهما تسترت هذه الإشارة فإنها لا تكون غامضة، كما أنها لا تصل إلى الوضوح التام، ثم التلازم: أي ترابط بين عنصرين أو أكثر بينهم علاقة ناظمة، قد تكون مواقف أو موضوعات، ثم الحكم: وهو حاصل ما يريد أن يصل إليه الكاريكاتير، يكون حكما غير مباشر غالبا:
"فحتى ابن عمي هذا اللقيط الأجرب، رجلاه كبيرتان، وحذاؤه أكبر من رأسه، فرغم أننا أقران، ولنا الطول نفسه والعرض إلا أن قدميه كالقاربين، لا أدري لماذا تنمو أرجل الفقراء بسرعة، وبتفاوت مع باقي الأعضاء؟ باستثناء الفقيرات، لا تنمو أرجلهن، ولكن شيء آخر.." ص12
"لم يرقها ردي قطبت وتقوست، فأصبحت ضئيلة مقدار صاع أو أقل.. هذه السيدة التي تجلس إلى جانبي الآن بشاطئ عين الذئاب، هنا في مدينة الدار البيضاء، ليست هي التي كانت، ضاع جمالها من شدة الكدر" ص 21
تقوم هذه المقاطع السردية المبنية على الخطاب الكاريكاتيري على المبالغة في الوصف، مما يخلق تسلية بسيطة بالغة الإيحاء بالاعتماد على الوصف البصري للشخصيات.
٭ السخرية والحلم: تقوم السخرية الحلمية على خرق أفق توقع القارئ، حيث يجد نفسه عند تتبع المشاهد والمسارات التصويرية أنه أمام صورة حلمية، سواء كانت قائمة على الارتكاسات أم التداعيات أم مكبوتات يعجز الفرد عن حلها في عالم الواقع أم آمالا ينشدها ويتعلق بها ويرجو تحقيقها. ومما يبرر هذه المسلمات كون الكاتب في النص الذي نحن بصدده يجلو المقاطع الحلمية في آخر القصة القصيرة المتعلقة بالحلم، كما هو الشأن بالنسبة لقصتي "سفر إلى الجنة"، و"حارس الدراجات" نوردهما على التوالي:
"على ذعر رهيب فتحت عيني، ووجه أمي منتصب أمامي، قطبت، وهي تقول: هذا منتصف النهار، وأنت ماتزال في فراشك تهذي كالمجنون، اللعنة عليك يا عرة الشباب" ص14
"نهضت من فراشي كالمجنون، وأمي تردد:
- إذا لم تستيقظ باكرا في المرة القادمة، سأفرغ عليك سطلا من الماء، وليس كأسا فقط" ص27
٭على سبيل الختام
تسهم آليات الصورة الساخرة السالفة الذكر في بنائها، ونقصد بالأساس كل المشيرات التي تقوم على خلق صورة ذهنية ساخرة لدى المتلقي، تقوم على قلب المعنى الذي يقدمه المؤول المباشر، لكونه لا يتجاوز المعاني التقريرية للعلامات بمختلف أنواعها وطرقها في التدليل وما تحيل إليه من معادلات موضوعية، والفعل المفارق يستدعي مؤولا ديناميا يوجب بالضرورة موسوعة إدراكية تجعل الانتقال من المعنى التقريري إلى المعنى الإيحائي الساخر أمرا ممكنا.
يمكن أن نخلص نهاية من خلال هذه الدراسة ودراسات سابقة إلى أن طبيعة النصوص هي التي تحدد مؤشرات السخرية، كما أنه ليس هناك نموذج عام للفعل السخري، والسخرية ترتبط بطبيعة الخطاب التي تتجلى فيه، وهي في الخطاب السردي بناء سردي يدخل في الآليات التي تنتج هذا الخطاب، كما أن طبيعة كل تلق تسهم في اختيار البعد السخري، فما أراه ساخرا قد لا يبدو لغيري كلاما عاديا مباشرا.
- ابن منظور، محمد بن مكرم: لسان العرب، دار المعارف،6 أجزاء، (دون تاريخ) مادة س خ ر[1]
ROBERIEUX (Jean, Jaque) : Les figures de style et de Rhétorique DONOD, Paris, 1998, pp.59-60. - [2]