وثـبت تـستقربُ الـنجم مجالا وتـهادت تـسحب الذيل اختيالا
وحـيـالي غـادةٌ تـلعبُ فـي شـعرها المائجِ غُـنجاً ودلالا
طـلـعةٌ ريـّا وشـيءٌ بـاهرٌ أجـمالٌ؟ جـلَّ ان يُـسْمَى جمالا
فـتـبسمتُ لـهـا فـابـتسمت وأجـالت فـيَّ ألحاظاً كسالى
وتـجـاذبنا الأحـاديـث فـما انـخفضت حِسا ولا سَفّت خيالا
كـل حـرفٍ زَلَّ عَـن مِرْشَفِها نَـثَرَ الـطيبَ يـميناً وشِـمالا
من الطبيعي عندما تقرأ هذه الأبيات أن تحس بشاعرية مغايرة نوعاً ما.. لكن عندما تسمعها من قائلها تعرف كم أنت مقصر بإحساسك نحو القصيدة.. فهناك من يقول أن القصيدة لا يعرف يلقيها إلا قائلها.. وقد
يكون محقاً في ذلك..
هذا هو إحساسي عندما سمعت القصيدة أول مرة من الشاعر عمر أبو ريشة.. كم هو رائع هذا الشاعر بقصائدة الرائعة.. وكيف لايكون رائعاً وهو الذي قال بيتاً سارت به الركبان.. وردده ألف ألف لسان..
وكتبه أكثر من ذلك بنان.. البيت هو:
رب وامعتصماه انطلقت ... ملء أفواه البنات اليتم
لامست أسماعهم لكنها ... لم تلامس نخوة المعتصم
انظر لهذا البيت.. كيف صاغه؟ وكيف نظمه؟ و.. و.. !! تكاد تخنقك العبرة عندما تقرأه.. تحس بشعور حارق نحو بذلك الذّل الذي أصاب امتنا المسلمة.. ربما لو أطلقت لقلمي العنان في الحديث
عن هذين البيتين لم يقف إلا بعشرات الصفحات..
الشاعر عمر أبو ريشة كانت وقفتي الحقيقية الأولى معه عندما حصلت على ذلك (السي دي) من أحد الأصحاب.. والذي فيه هذا الشاعر الرائع يتحدث عن نفسه ويلقي قصائده.. جذبني وشدني كما لم يجذبني
أي متحدث قبله.. وأعتقد لابعده أيضا.. يأتي بمناسبة القصيدة أو حديث حول القصيدة ثم يمطرك بذلك السيل الجارف من الابيات الرائعة.. تلهث الأنفاس عندما تركز معه.. خاصة عندما يأتي ببيت الفجأة
كما يسميه بعض الأدباء..
أذكر أننا درسنا قصيدته المشهورة ( أمتي هل لك بين الأمم... منبر للسيف أو للقلم) ولكن لم نكن نركز على القصائد ذلك الحين تركيزنا على الدرجات المكتسبة من الحفظ.. هذه القصيدة هي
التي فيها البيت ( رب وآمعتصماه )..
لا أود الإطالة عليكم.. فالحديث عن هذا الشاعر لا يُمَلّ..
صفحة أو صفحتان أو حتى صفحات.. بل ربما موقع كامل.. لا يمكن أن يشمل جميع ابداعات رجل مبدع مثل مبدعنا الشاعر الراحل.. عمر أبو ريشة..
إليكم بعضاً مما جمعته وعملته عنه..
مولده وحياته:
(ولد في منبج بلدة أبي فراس الحمداني في سوريا عام 1910م ونشأ يتيما وتلقى تعليمه الابتدائي في حلب .وأكمل دراسته الجامعية في بيروت في الجامعة الأمريكية وحصل على شهادة البكالوريوس في العلوم عام
1930م ثم أكمل دراسته في لندن في صناعة النسيج ، وهناك قام بدعوة واسعة للدين الإسلامي بلندن.
ثار على بعض الأوضاع السياسية في بلادة بعد الاستقلال وامن بوحدة الوطن العربي وانفعل بأحداث الأمة العربية بشدة .
شغل عدة مناصب :
· عضو المجمع العلمي العربي دمشق
· عضو الأكاديمية البرازيلية للآداب كاريوكا- ريودي جانيرو
· عضو المجمع الهندي للثقافة العالمية
· وزير سوريا المفوض في البرازيل 1949 م 1953 م
· وزير سوريا المفوض للأرجنتين والتشيلي 1953 م 1954 م
· سفير سوريا في الهند 1954 م 1958 م
· سفير الجمهورية العربية المتحدة للهند 1958م 1959 م
· سفير الجمهورية المتحدة للنمسا 1959 م 1961م
· سفير سوريا للولايات المتحدة 1961 م 1963م
· سفير سوريا للهند 1964 م 1970 م
· يحمل الوشاح البرازيلي والوشاح الأرجنتيني والوشاح النمساوي والوسام اللبناني برتبة ضابط أكبر والوسام السوري من الدرجة الأولى وآخر وسام ناله وسام الاستحقاق من الدرجة الأولى وقد منحه إياه
الرئيس اللبناني إلياس الهراوي.
شردته الكلمة اثنين وعشرين عاما في مشارق الأرض ومغاربها وهذا شأن كل صاحب كلمة.
وتُوفي رحمه الله في الرياض عام 1990 م. وقيل انه دفن في مسقط رأسه.. في سوريا.){1}
نفسيته في شعره:
(الشاعر عمر أبو ريشة شاعر أصيل متمكن في مجال الشعر له أسلوبه المميز والمنفرد ، وله طريقته في الشعر وسمته التي يتميز بها عن غيره من الشعراء فأنت تقرأ قصيدة من شعره تسير على نمط معين ولكنه
يفاجئك في أخرها ببيت يختم به قصيدته تلك ويكون هذا البيت خلاف ما تتصور فيكون بيت مفاجأة أو إثارة بالإضافة إلى أن الشاعر يحشد كما هائلا من الصور والأخيلة في قصيدته حتى لكأنك وسط معمعة من المفاجآت
والخيالات والظواهر التي لا تتخيلها في الموقف فمثلا في قصيدته اقرئيها تجد :
إنها حجرتي لقد صدئ النسيان** فيها وشاخ فيها السكوت
ادخلي بالشموع فهي من الظلمة** وكر في صدرها منحوت
وانقلي الخطو باتئاد فقد** يجفل منك الغبار والعنكبوت
عند كأسي المكسور حزمة أوراق** وعمر في دفتيها شتيت
انظر كيف يقدم لنا الشاعر كما هائلا من الصور والأخيلة والأشباح
صدئ النسيان ، شاخ السكوت ، وكر ، في صدرها منحوت ، يجفل ، الغبار ، العنكبوت ، كاسي المكسور ، حزمة أوراق ، دفتيها ، شتيت.... كلمات تنهال على الخيال فتعيش القصيدة وكأنك تدخل وكرا فيه أشباح
وأشياء مرعبة ثم تجده في مجالات أخرى يحلق بنا في الفضاء مع النجوم والشموس والكواكب وكأنما يشعرنا أنه يتطلع إلى الصعود لكن معوقات الواقع تقيده وله نظرة سامية عليا يعبر عنها كثيرا بالنجم والكوكب والشمس
والفضاء اقرأ له في عدد من قصائده :
فكم جبل يغفو على النجم خده
وتهاديت كأني ساحب ** مئزري فوق جباه الأنجم
وثبت تستقرب النجم مجالا
جناحه بعدما طال المطال به ** مخضب من شظايا الشهب منكسر
لأظن جناحي محترقا ** محترقا من لمسة نجمة
وحمائم بيض في اليم ** مدت أجنحة للنجم
ما بعدك يا أفقي الأعلى ** دنياي توارت في العتمة
قدم تجرح أحشاء الثرى ** وفم يلثم خد الفرقد
وتناقلت آيات رحمتها شفاه الأنجم
***
كلمات كلها تتعلق بالسماء وكأنما تعبر لنا عن نفسية الشاعر الذي عاش يبحث عن الرقي والكمال والرفعة والعلو فهو صاحب همة عالية وارتقاء في الفكر والسلوك لا يرضى بالوضيع بل يحب ان يجلس عاليا رغم كل
شيء وعلى الرغم مما عاناه هذا الشاعر من معوقات ومن متاعب جنتها عليه همته العالية إلا انه ظل كذلك إلى أن مات مرفوع الرأس اقرأ قوله:
عشت حرا بلغت جنة دنياي** وجفني بنورها اكتحلا
إنها نعمة أقطع فيها ** العمر مستغفرا ومبتهلا
اعف عني يارب بدد همومي** فلقد عشت مرة رجلا
أيضا نجد في شعر الشاعر نبرة الفخر والاعتزاز بالنفس والثقة ولا نستغرب في رجل لم يفتأ يتجرع غصص المجد ليصل إلى مبتغاه ولو خذلته الدروب ولكنه بذل من أجلها الكثير فاستطاع أن يصل إلى الكثير مما تمناه
ولو لم يستطع الإتمام إلا أنه لم يكن محابيا ولو حابى لاستطاع الوصول لكن طموحة أبى عليه وتألقه منعه من أن يصل بالتنازل عن مبادئه التي يؤمن بها فرضي أن يظل حسب ما أمكنه مع الاحتفاظ بكرامته التي يراها أعز
ما لديه وما أغلى الكرامة ، بل ربما يرفض المجد إن كان بطريقة غير مشروعه يقول:
ما أرخص المجد إذا زارني ** ولم يكن لي معه موعد
وهي نظرة تخصه كما قال البارودي قبله :
أسير على نهج يرى الناس غيره ** لكل امرئ فيما يحاول مذهب
ولذا تجد تشابها بين الرجلين في نظرتهما للحياة ، ولمكاسبها ولذا كان البارودي وأبو ريشة يدفعان ثمن إبائهما غاليا لكنهما نفذا رغبتيهما بثمن باهض، وعاشا وهما يعانيان نتيجة الرفض والإباء ولكل ثمن ، يعبر عنه امرؤ
القيس عندما بكى صاحبه وهما مسافران طلبا للملك :
بكى صاحبي لما رأى الدرب دونه ** وأيقن أنا لاحقان بقيصرا
فقلت له لا تبك عينك إنما ** نحاول ملكا أو نموت فنعذرا
إذن،أشعرُ أن أبا ريشة عاش غريبا ومات غريبا حفاظا على مبدإٍ اعتقده فعبر عن ذلك في شعره :
أتكلم ما ذا أتكلم
أقلامي جف عليها الدم
ولهاتي سالت في المأتم
أتكلم ؟ هل أحمل في صدري أسرار
أخشى أن تفشى أو تكتم
إني لا احمل غير العار
في الدرب الموحش والمبهم
إني غنيت إلى الآلام فكيف عليها أتألم
أتكلم ، أعرفني شبحا لا ظل له فوق الأرض
في الهدأة من غصص الذكرى
يتساءل بعضي عن بعض
فأغض واختصر الآلام وأمسك بالريح وأمضي
وهكذا مضى عمر وهو لا يمسك بشي إلا بكرامته ورفعة نفسه وإبائه وكفاه ذلك).{2}