"فومتمارا" أو لعنة "الدوتشي"
بقلم الأستاذ: سليم بتقه
قسم الأدب العربي
جامعة محمد خيضر بسكرة /الجزائر
من الروايات التي لاقت شهرة واسعة وعملت فيها المحاريث النقدية، رواية "إنيازيو سيلوني"(Ignazio Silone) المعنونة بـ "فونتمارا"(Fontamara) حيث ترجمت إلى لغات عدة ومنها العربية على يد الدكتور "عيسى الناعوري". ولا بأس استجلاء لمضامين "رواية الريف" خاصة لدى "الواقعيين الجدد" في إيطاليا أن نتوقف عند هذه الرواية.
"فونتمارا" قرية تقع بإحدى المناطق الجبلية بوسط إيطاليا، حيث قضى فيها الكاتب "سيلوني" (1900-1978) العشرين سنة الأولى من حياته، منطقة فقيرة، فسكانها إما فلاحون دون ثروة ويطلقون عليهم بالإيطالية (Cafoni) أي ملاكون صغار.
تنفتح الرواية على "فونتمارا" التي تعيش على وقع الانقطاعات المتكررة للكهرباء في ظل حكم الفاشية. فبالنسبة لهؤلاء السكان قطع الكهرباء لن يزيد سوى في تأزم الحال. وفي ليلة ظلماء بلا كهرباء، يحل بالقرية رجل غريب، يتوجه إلى السكان وهو يتكلم بعبارات وجمل لم يع معناها أحد. يطلب من الرجال أن يمضوا له على ملف كان يظهره لهم. لم يكن الملف سوى عبارة عن ورقة بيضاء سيكتب فيها بعد ذلك ما يشاء. في اليوم الموالي يشاهد السكان عمالا مسلحين بالأعمدة والفؤوس، منكبين على تحويل مجرى الماء الذي كان دوما وسيلة أهل القرية في سقي حقولهم، وهو بالنسبة لهؤلاء الفقراء الكادحين ثروة لا تقدر بثمن. هذا التحويل التعسفي سيدخل القرية في دوامة من البؤس. ولما كان الرجال منشغلين في حقولهم، كان النساء يتكفلن بنقل انشغلات القرية إلى السلطات المحلية، ليكتشفن أن القرية تسير دون رئيس، وأن أحد الأثرياء قد استأثر بالسلطة، رجل يأتي باسم مقاول وتارة يأتيهم باسم (podesta) وبعد مفاوضات سخيفة (النساء قمن بما في مقدورهن أمام سلطة لا تقهر) حصل الاتفاق في النهاية على ثلاثة أرباع مياه النبع والثلث الأرباع للثري، بمعنى أن كل و
احد من السكان سيستفيد من ثلاثة أرباع. كيف تم قبول هذا المقترح الذي يستحيل أن يستغفل به طفل لا يتعدى العاشرة؟ هل هو الغباء؟ هل هو الخوف من اضطهاد محتمل؟ لا هذا ولا ذاك إنه بكل بساطة عائد إلى صعوبة فهم لمصطلحات الاقتراح، وكونهم لا يعرفون الحساب، كان من الصعب عليهم التفريق بين الصح والخطأ. في المقابل فإن الإسراع في إمضاء الوثيقة التي ترسّم هذه القسمة سيؤكد قدر القرية.
من بين رجال القرية هناك رجل واحد لم يعد له ما يخسره، إنه "بيراردو"(Berardo) الذي فقد كل شيء، ففي الوقت الذي استسلم فيه الكل لقدرهم المحتوم، فكر "بيراردو" في القيام بحركة ما انتقاما من الرجل الثري كأن يضرم النار في مخزن الجلود، أو في الخشب أو حرق فيلته، أو تفجير الفرن، مثل هذه الأعمال ستحمل هذا المقاول على الرجوع إلى العقل. ولكن رجلا واحدا غير كاف لإثارة قرية ويدفع بأهلها لحمل السلاح وهي الصعوبة التي تجعل الآخرين لا يفكرون في أن يخسروا ما تبقى لهم. يقع "بيراردو" في حب فتاة جميلة من القرية، ولكي يوفر لها حياة سعيدة بعد أن يتزوجها. فكر في البحث عن عمل، وهكذا فجأة تحوله الرغبة عن التفكير في القيام بالثورة.
في ظل هذا الاستسلام والرضى بالأمر الواقع، ستعرف القرية كل أشكال الإذلال والتهميش. ففي أحد الأيام يُنقل السكان في حافلة إلى إحدى البلديات المجاورة لتمكينهم من تقديم احتجاجاتهم، إلا أن ذلك لم يتم حيث وجدوا أنفسهم قد جُمعوا لتحية الوزير والحاكم قبل أن يعيدوهم إلى القرية، وكان نصفهم محظوظا لتواجده بالقرب من الحافلة بينما رجع البقية مترجّلين. وفي غياب هؤلاء، يُداهم أصحاب "القمصان السوداء" المنازل وراحوا يفتشون ما بداخلها. أخيرا يُحوّل مجرى النبع ويكتشف كل واحد معنى الثلاثة أرباع إنها بعض الأخشاب، والحشائش أي أنهم لم يحصلوا ولو على قطرة من ماء. إنها بالتأكيد المجاعة. "براردو" يذهب ليجرب حظه في "روما" بمعية أحد أبناء القرية، وبعد أن يعلم بوفاة خطيبته، يكتشف القوانين الجديدة التي تمنع الهجرة، يتم القبض عليه بتهمة التحريض على القيام بأعمال مناهضة للفاشية. وهكذا تنتهي الرواية بهذه المسحة الدرامية التي يفضل "الواقعيون الجدد" إسباغها على أعمالهم على حساب عنصر التصوير.
لقد استطاع "سيلوني" وهو أحد كتاب الواقعية الجدد أن يرسم بتلك البساطة المجتمع الإيطالي في ظل حكم "موسوليني"، لأنه بكل بساطة عايش المرحلة الدكتاتورية من حكم "الدوتشي" حين كان "سوكاندو طرانكيلي" (Secondo Tranquilli) وهو الاسم الأصلي للكاتب يدير الحزب الشيوعي الإيطالي وصحيفة "اليونيتا"(Unita) لسان حال الحزب، (وقد تم إبعاده سنة 1930 بسبب وقوفه إلى جانبتروتسكي ضد ستالين).
إن المثير حقا لدى الكاتب أنه بفضل ذلك الهدوء، يدخل القارئ في عمق الفاجعة في عالم عبثي يساوي عالم "كافكا" قدرة وموهبة لم تغب عن "فولكنر"(Faulkner) الذي يرى في "سيلوني" أعظم كاتب على قيد الحيـــاة .(The great novelist at life)
الهوامش:
1- IGNAZIO SILONE: Fontamara,traduit par Jean-Paul Samson et Michèl Causse, Grasset,1989
2 - DIDIER GARCIA: Fontamara, le matricule des anges n.087 Paris 9e, octobre
الرسالة التالية أرسلت إليك عن طريق نموذج الاتصال بنا في منتديات أسواق المربد بواسطة salim betka