النص الكامل لمجموعة «الدار بوضع اليد!» لحسين علي محمد
..............الدار بوضع اليد
في آخر زيارة لقريتك (قرية «السلام») التي لم تكن مُسالمةً أبداً معك، قالت سميرة، وهي تحرص على أن تبدو أساورها من يديْها السمينتيْن:
ـ الدار بوضع اليد، ولن أخرج منها.
وقالت وهي تبتسم:
ـ لو أنصفتَ لتركتَ نصيبَك في الدار لي!
ـ نصيبي؟
أول مرة ترى ـ يا أستاذ حسني ـ امرأةً في «السلام» تُطالب بنصيبها في دار أبيها!
.. وجاءك الحاج محروس خطّاب الذي يقول عن والدتك إنها عمته ليراودك على بيْعِ بيتك .. وليتفق معك على قتلك! .. فهل تبيع البيت الذي بنيْته من ثلاثة أعوام مع والدك طوبةً طوبةً؟!! .. قبل أن يموت بشهرين.
جاء إليْكَ محروس الأصفر ـ كما يسميه أبناء قريتك .. ـ فلم يجدك قد عدت من مدرسة الأمة الإعدادية بالزقازيق، التي تُدرِّسُ فيها الرياضيات، فاستعار كرسيا من «سمسم» الساعاتي الملاصق لشقتك التي استأجرتها من الباطن ـ وجلس أمام البيت!
حينما رآك الأصفر اعتدل واقفاً، وقال:
ـ أنا منتظرك من ساعة يا أستاذ حسني!
أنت لا تحب هذا الرجل .. رغم أنه من جيل أبيك، وأنت من جيل ابنه «بدران» الذي رسب عاميْن في الصف الأول الثانوي، فالتحق بالكُتَّاب العسكري، وكرر مسيرة أبيه الذي لم يتخطّ الشهادة الابتدائية في الأزهر الشريف .. لكنه عمل بعد ذلك «مُحفظا للقرآن الكريم» بمعهد الفتيات بالقرية!
قلت وأنت روحك في أنفك:
ـ خير .. إن شاء الله يا حاج محروس!
وكأنك تقول له بالعربي الفصيح: لا يأتي من ورائك خير أبداً يا حاج محروس!
بنتك سمية ذات الأربعة عشر شهراً مريضة من خمسة أيام، كانت كالوردة تملأ حياتك بهجة، لكن الساقيْن كفتا عن الحركة، والدكتور جودة عمار طبيب الأعصاب الشهير بالزقازيق .. قال لك أمس في جرأة يُحسَدُ عليها: لا أمل في الشفاء! ولكن من الممكن أن يأتي العلاج الطبيعي معها ببعض الثمار، فتستطيع أن تتحرك على كرسي ذي عجلات وتخدم نفسها بعد مدة من العلاج قد تطول أو تقصر!
قلتَ في حزن:
ـ هل ستعيشُ سميةُ عرجاءَ مشلولةً؟!
قال الحاج محروس الأصفر:
ـ أخواتك بعن البيت! ولم يبق إلا أنت!
ـ أي بيت؟
ـ بيتكم في «السلام».
ابتلعْتَ ريقك وقلتَ في غضب تُحاول أن تكتمه:
ـ كيف بعن .. وعقد ملكية البيْت معي؟!!
ـ أنت متعود على ألاعيب أخواتك البنات، اللاتي تركت لهن القرية، وأقمتَ في البندر.
ـ لمن بعن؟!
ـ فهيمة باعت لسميرة، وحمدية لسوسن.
أنت وسميرة وفهيمة من أم، وحمدية وسوسن شقيقتان!
أخليتَ في وجهك مكاناً للغضب:
ـ وكيف صار شكلُ البيت؟
ـ كما هو !!
ـ كيف؟!
ـ أنت تعرف أن البيت واسع .. مبني على قيراط ونصف، ويمكن تقسيمه!
وجدك تبصق في منديلك الورقي بصوتٍ عالٍ، فأضاف وعيناه في الأرض:
ـ سوسن أخذت الحجرتين الشرقيتين والزريبة، وفتحتْ لهما باباً في الجهة البحرية.
ـ وسميرة؟!
ـ سميرة تقيم في البيت كما تعلم!
خرجت منك ضحكة مجروحة! .. وتذكرتَ أنها قالت لك بلهجةٍ سوقيةٍ حينما طلبتَ منها الخروج من البيت:
ـ نعم يا حبيبي؟ .. لن أخرج أبداً .. الدار بوضع اليد، ولن أخرج منها.
رآك الأصفر مشغولاً فأضاف، وكأنه يذكِّرك ما نسيت:
ـ أنتم إخوة من أم واحدة، هي عمتي «خديجة» رحمها الله.
وعاد يؤكِّد على كل حرف:
ـ قفا أنت وفهيمة بجوار سميرة، حتى تستريح عمتي «خديجة» في قبرها!..
وسكت هنيهة فبل أن يسأل:
ـ ما رأيك؟ ..
لم ترد، كانت الأشباح تتراقص أمام عينيك، ولوْ كانت سميرة وفهيمة أمامك لقتلتهما في الحال!
عاد يتحدث في كلمات متقطعة:
ـ سميرة تقيم في البيت كما تعلم من سنتين!
ـ أنا الذي سمحت لها بالإقامة في البيت بعد أن انعزل زوجها عن أسرته .. وليتني ما فعلت ...
تذكّرت أنك تركتَ البيْتَ بعد أن تزوّجت بستة أشهر، حينما نقلتَ إلى مدرسة الأمة بالزقازيق، فكان من الأسهل لك أن تنتقل إلى ديرب نجم، وتسافر يومياً إلى الزقازيق، بدلاً من أن تبقى في «السلام».
توقفت عن الكلام، فزاغت عيناه، وهو يرى أن مهمته المقدسة في إخراجك من البلد لم تتم!
وجد عينيك محمرّتين، فقال:
ـ أستاذ حسني .. هل أجيء لك مرة أخرى؟ .. هل جئتُ لك في وقتٍ غيرِ مناسب؟
قلتَ في غلظة:
ـ البنت التي لم تتم عاماً ونصف عام مشلولة.
قال في إشفاق حقيقي:
ـ أنا آسف يا أستاذ حسني .. لم أعلم .. كان الله بعونك .. متى تم ذلك؟
ـ من خمسة أيام.
ـ ربنا يشفيها!
ـ لكن الساقيْن كفتا عن الحركة!
ـ أنا آسف يا أستاذ حسني .. يمكنني أن أمر عليك في يومٍ آخر.
وأدار ظهره ومشى عدة خطوات، لكنه عاد:
ـ أستاذ حسني .. ليتك تذهب ببنتك للدكتور أسامة علوان في القصر العيني .. فهو أستاذ كبير في الأعصاب .. سأرسل لك ورقة بعنوانه حينما أعود للسلام .. ذهبتُ له عدة مرات مع بعض المرضى من أقاربنا.
ـ لا ترسل، فأنا معي عنوانه، وسأذهب له غداً.
ـ بالتأكيد؟
ـ نعم، لقد طلبتُ إجازة من المدرسة لآخذ البنت وأذهب له.
قال بصوت منخفض، قبل أن يُدير رأسه للطريق الذي سيسلكه عائداً دون أن يخلع جذرك من القرية:
ـ أنا آسف يا أستاذ حسني .. أنت تعرف أنني أقف مع سميرة بنت عمتي .. ويهمني أمرُها.
قلتَ له والقرف يُضمِّخُ كلماتك:
ـ أنا أيضاً ابن عمتك يا حاج محروس!
لم تحب أن تتجادلَ معه، وانطلقتَ للشقة التي يستأجرها زميل لك سافر إلى ليبيا بعشرة جنيهات، واستأجرتَ حجرتيْن منها بأربعة جنيهات، بعد أن كدّس أثاثه في حجرتين من الشقة وأغلقهما!
لحقك الحاج الأصفر وقال:
ـ أريد كوب ماء .. حلقي جف من الحزن على ابنتك الصغيرة .. أريد أن أراها أيضاً لأطمئن عليها.
ورفع يده متمتماً بصوت دعاءٍ خفيض: «ربنا يشفيها».
ـ سمية ليست موجودة .. هي وأمها عند حماتي .. لأن البنت لا تجعل أمها تنام في الليل!
ـ أشربُ ماءً إذن .. وأجلس معك خمس دقائق!
دخلتَ الشقة وأنتَ متعب يتبعك الحاج محروس الأصفر بخطواته الدؤوب .. وجدتَ المذياع مفتوحاً على إذاعة القرآن الكريم .. يبدو أن زوجتك نسيته مفتوحاً حينما خرجت بعدك تحملُ البنت إلى شقةِ أمها ثم تذهب لمدرسة التجارة الثانوية للبنات التي تعملُ مدرسة لمادة المُحاسبة بها ..
يا كم تعبتَ يا حسني من الساقية التي تدورُ فيها كالثور!
تخرج كل صباح في السابعة إلا ربعاً من ديرب نجم لتذهب إلى مدرستك في الزقازيق التي تبعد عشرين كيلاً عن ديرب نجم .. وتدريسك في الزقازيق حرمك من الدروس الخصوصية في مادة الرياضيات .. فلم تشعر بوفرة أبداً رغم أنك مدرس من أربعة أعوام .. الثلاجة عطلانة من أسبوعين، والبنت مريضة، لا شك أنك ستستدين خمسة عشر جنيها لتكون معك وأنت ذاهب للطبيب غداً .. رحماك يا رب!
أجلستَ الأصفر في الصالون، وأحضرتَ له كوب ماء من الصنبور.
خلع حذاءه، وتنحنح:
ـ ليتك تعمل خيراً .. وتبيع نصيبك لسميرة يا أستاذ حسني!
تفلت يساراً على الأرض في قرف حتى يحس بجرمه في حقك. لماذا يريد هذا الرجل أن يخلعك من القرية؟ .. ابتسمت له ابتسامة صفراء كلقبه الذي يحمله على كتفيه:
ـ أنت يا حاج محروس تريد أن تقتلع جذوري من السلام .. ما مصلحتك في ذلك؟
قال في وقاحة:
ـ سميرة ابنتي وابنتك!
ـ هي ليست ابنتي .. هي أكبر مني بعاميْن .. وحينما طلبتُ خروجها من البيت في آخر زيارة ردَّتْ بوقاحة، وقالت:
ـ الدار بوضع اليد، ولن أخرج منها.
قال متراجعاً:
ـ فهيمة شقيقتكما الكبرى باعت نصيبها لسميرة .. بع لها أنت الآخر .. أنت ابن حلال!
وكأنك ستكون ابن حرام إذا لم تبع لسميرة!
نطقتَ في استسلام، وكأنك ترفع الراية البيضاء:
ـ هذه أول مرة في قرية السلام يخرج الرجل من دار أبيه لتقيم فيها البنت!
لم يعلق على ذلك، بل قال وكأنه يلقي حجراً:
ـ هل قلتُ لك السعر؟!
ـ لا .. للأسف.
ـ أنت ستأخذ مائة وستين جنيها، فقد قدرنا السدس بثمانين جنيهاً، وأنت لك السدسان.
قلتَ وأنت تتثاءب وتخلع رجليك، وتمدهما على المنضدة أمامك، ولا تأبه بنظراته الغامضة التي لا تكشف عن معنى!:
ـ موافق يا حاج محروس .. لكن لتتذكر دائماً أنك أنت الذي خلعتني من القرية!
قال في برودة يُحسد عليها:
ـ أنت تقيم في البندر .. وتعمل في الزقازيق .. وإقامة سميرة في البيت أفضل من إغلاقه! .. حينما تجيء للقرية في عيد أو عزاء ستجد الدار مفتوحة!
أضاف وهو ينظر إلى النافذة:
ـ هل تجيء إليْنا غداً بعد أن تعود بالبنت ـ شفاها الله ـ من القاهرة لنكتب العقد؟!
قلتَ في ضعفٍ وانكسارِ من يفقد بيته للأبد:
ـ على بركة الله .. سأجيء يوم الجمعة في العاشرة صباحاً لأوقع لك العقد، بعد أن آخذ النقود على داير المليم الواحد.
ابتسم، وهو يحس بنشوة انتصار:
ـ كنتُ أقول دائماً إن الأستاذ حسني ابنُ حلال .. وسيبيع نصيبه في البيت لشقيقته سميرة!
لم تعقب، فأضاف:
ـ نصلي الجمعة معاً، ثم نتناول الغداء في بيتنا.
وقال كأنه يذكرك بصديق عزيز:
ـ بدران يسلم عليك .. هو في إجازة الآن!
قلتَ بصوتٍ لا أثر للمجاملة فيه:
ـ بل أُصلي في ديرب نجم، لأن زميلاً لي من القناطر سيزورني، ويُصلي معي الجمعة.
وكأنك نسيت شيئاً عظيماً، ذكرك به:
ـ بدران يهديك السلام.
ـ بلغه تحياتي واعتذاري عن الصلاة والغداء عندكم.
لم يُبدِ تصميماً على دعوته للغداء!!
واستأذن محروسُ الأصفر منصرفاً، وهو يحس أنه قام بدور بطولي من أجل سميرة بنت عمته خديجة وزوجها صبري الذي يعمل في ليبيا ويُرسل لها النقود لتشتري نصيب كل أخوتها في دار أبيها لابنهما هيثم، وبنتهما الرضيعة شريهان .. وكأنك يا حسني لستَ ابنَ عمته!
أغلقتَ المذياع .. ووضعت مخدة تحت رأسك .. على كنبة الصالون.
وحاولتَ أن تنام!!
الرياض 30/3/2005م