إهداء إلى كل زيتونة شامخة و نخلة باسقة بأرضي...
قبل السقوط
"...أَذكرْ...كلُّ الذكريات تتلاحق في سيلٍ عرمرمٍ...أذكرُ كيف كانت البدايةُ. بدأْتُ حياتي معهم، كنت صبية غضةً و طرية العودِ. و كان النسيمُ يتلاعب بِشَمائِلي و أنا أتمايلُ مع حركة العربةِ العتيقةِ...ذلك الزمن الجميل. أذكر أني وُضِعْتُ و أخواتي،كنا نستنشق العطر الفواح للأرضِ النديةِ. وذاك المساء، حين انتهوا من وضعِنا في أماكِننا، جاء الأطفال ليلعبوا في ربوع الحقل..و ضحكاتهم موسيقى شجيَّة تزيد سِحرَ الأصيل سحراً.
و بدأتِ الفصول تمرُ، و بدأت و أخواتي ننمو و نكبر معها. و صار أطفال الأمس صبياناً و فتيات، و بدأ اللعب البريء يصير..لعباً حقيقياً. أذكر ..في أيامِ الخريفِ، يأتيان. هو أسمر و طويلٌ، و هي عفراءُ ذاتُ جدائلَ جميلة. لحظات هاربة بعيداً عن الأعيُنِ. و تحت ظِلِّ، يُسِرَّانِ لبعضهما بالحنين. و على بدني، خَطَّ وشماً يحمل طياتِ قصتهما في حرفين.
أذكر، لما بدأتِ الغيوم تتجمعُ، و الجو الصافي يتكدّرُ. حين بدأنا نرى النار و الدخان، و الناس تُقَتَّلُ و تُهَجَّر. حين جاء الأغراب. رأيت كيف أن الناس لم تسكت..بل تُواجِه و تُدافِع. أذكر حين كانوا يأخذوننا مخبأً، و كيف أُحْرِقَتْ نصف عائلتي أمام عيني. أذكر، أنه كما كان دوماً.. وتحت ظِلي، جاء الأسمر الطويل يحمِل "بارودته" و يترصَد. لمح الوشم القديم على بدني، تأمله برهة ثم مسح عليه...وانطلق الرصاص. حاولت أن أحميه، أن أفديه...لكنه..سقط تحت ظلي..كما كان يستلقي قبلَ سنين. و أنا مُكَلَمَةً بالجراح لا أقدر أن أبكيه. و أهل القرية، لم يبقَ منهم إلا القليل؛ و رغم هذا حاولنا أن نعود للحياة من جديد، رغم الشتاء و الظلام.
أذر، لما ذهب الغريب..وبدأ المرضُ يغزونا، يطرد من دِيارِهِ كلَّ حيٍ. حاولنا البقاء، رغم المرض و القهر، ذهب الجميع، إلا شيخٌ كبيرٌ بقي معنا...أراد الموت على أن يرانا سبايا... و خَلَتِ الديار.
... أذكر كيف كانت الحجارةُ تجابه القنابل، و أجساد الأطفالِ تبني جِدار الصمود...فقط كي نبقى. و رحنا نشقُّ غبار السنين. ثم، في يوم لا شمسَ فيه و لا مطر... و ذاك الوحش يقترب مني بِبُطْءْ، الشيخ المسكين يحاول الذَّود عني و لكن ما حيلته و قد كََلَّ ساعده. يقترب الوحش مني، و يرفع سِتْرَ الأرضِ عني. تتلاحق الذكريات أمامي و أنا الآن أهوي...أهوي...آخر ما ألمح، الشيخ يذرفُ دموع موتي...و أنا أهوي..."
في نشرة الأخبار، تظهرُ صورة آليةٍ إسرائيلية تجرف حقلَ زيتون. و يُعلن الصحفي بصوتٍ لا لون له أن قرار الجرفِ جاء بناءاً على عدم الترخيص...ثم تنقلب الصورة إلى بلد آخر، و في خبر آخر، نفسَ الآلةِ تَجْرِفُ...بستان نخيل.
تمتزهر الليلك