من نزار قباني إلى القراء الأعزاء
أحمل قلبي كعصفور بحري طار خمسين عاماً ، ولا يزال يبحث عن جزيرة يلتجىء إليها .
قلبي عصفور مرهق ، والإرهاق نهاية طبيعية لكل من يستهلكون قلوبهم أكثر من اللازم 0 0
ويشغلونها أكثر من اللازم 0 0 ويحرقونها أكثر من اللازم 0
أعترف لكم أنني شغلت قلبي ليلاً و نهاراً كالصيدليات المناوبة ، و أرغمته على العمل
" 24 " ساعة في ال " 24 " دون أن أعطيه إجازة أو أسمح له بشرب فنجان شاي
أو تدخين سيجارة فاحترق !! لم أحترم قوانين العمل وحقوق العمال ، ولم أفكر أن القلب
كالحصان لايستطيع أن يركض على مدار أيام السنة دون أن يأخذ قسطاً من الراحة يوم الجمعة أو
يوم الأحد 00 أما أنا فلم يكن عندي سبت ولا أحد 00 ولا خميس 00 ولا أربعاء
وإنما تفرغ كامل للعيون الجميلة 00 والكلمات الجميلة !
وربما كان خطئى الكبير أنني تعاملت مع قلبي كأته حصان معدني 00
فلم أحسب حساب حساسيته ولا راعيت مشاعره ولا استشرته في شؤون الحب أو الشعر !!
وهكذا ظل قلبي يركض ويركض ويركض . ويقفز من نجمة إاى نجمة ومن غمامة إلى غمامة
ومن امرأة جميلة إلى امرأة أجمل ، ويحصد المجد والورد 00 والميداليات 00
إلى أن وقع من شدة الإرهاق 00 ووقعت أنا معه !!
منذ سنوات بدأت أشعر أن ضربات قلبي لم تعد موزونة ولا مقفاة ، وأن صهيله لم يعد يلامس الأفق ،
كما بدأت ألاحظ أن سرعته في سباقات الحب بدأت تتراجع ،
فبعد أن كان يعشق بسرعة عشرة آلاف امرأة في الثانية أصبح يعشق بسرعة امرأة واحدة كل عام
وهذه نهاية فاجعة ، ومؤشر خطير يدل على أن العد العكسي قد بدأ ،
وبدأت أشعر بالرعب وبالأسى على امبراطوريتي التي كانت
كالامبراطورية البريطانية لاتغيب عنها النساء ولا الشمس !!
إن قلبي هو رأس مالي في هذه الدنيا وهو محرضي على الذهاب إلى آخر العالم من أجل قصيدة لاأعرف شكلها ،
وامرأة لاأعرف اسمها ، وشفتين لاأعرف كيف سأخرج من بينهما حياً !! ونهدين لاأعرف على وجه التحديد
مقدار ارتفاعهما عن سطح الأرض !!
بغير قلبي لاأستطيع أن أفتح فتحاً عظيماً أوأنجز إنجازاً عظيماً أوأكتب شعراً عظيماً أوأعشق عشقاً عظيماً ،
ربما سأكون بغير قلبي معام مدرسة أو خفيراًجمركياً أوموظفاً في وزارة الأوقاف أوشرطي سير
أو شيالاً أو بقالاً أو محتالاً أو وزير ثقافة 0
ولكنني بكل تأكيد لن أكون سارق النار ولن أستطيع أن أمد يدي إلى السماء فتسقط النجوم كالأسماك
في سلتي ولن تملأ دموعي بحار العالم،
القلب كان دائماً سيدي وشفيعي ومليكي !!
والحمد لله الذي شرفني بوجود ثلاثة شرايين مسدودة في قلبي !!
الشريان الأول : مسدود بسبب تعاطي الشعر !!
الشريان الثاني : مسدود بسبب تعاطي النساء !!
الشريان الثلث : مسدود بسبب تعاطي العروبة !!
وهكذا برهنت على كفاءتي الشعرية في الشعر والحب والقومية 00
ولن يستطيع أحد بعد اليوم أن يعييرني بأنني لم أكن شاعراً جيداً أوعاشقاً جيداً
وأنني لم أدفع ضريبة انتمائي للأمة العربية 0
بدأت علاقة عاطفية تقوم بيني وبين ذبحة القلب !!
بدأت أحبها و أتعلق بها ، كما يتعلق بامرأة مزاجية الأطوار وفوضوية المواعيد !
عندي إحساس أن ذبحة القلب هي امرأة 00 من النوع الزئبقي والمتقلب الذي لاتعرف
متى تكرهك ومتى تشتهيك 00 امرأة شهوانية 00 ومجنونة 00
تطارد من تختارهم من الرجال ، وتغتصبهم اغتصاباً علنياً حيث تجدهم 00 في المقهى ،في المكتب ، في المصعد ،في السيارة ، أوحتى على سريرهم الزوجي دون أن يكون لديهم الوقت للصراخ أو لطلب شرطة النجدة !
أصبحت متأكداً أن ذبحة القلب هي امرأة 00 فهي لاتقرب النساء ولا تتعلطى معهن فعل الحب ولا تعاني من أي انحراف
جنسي 0
إن الرجال فقط هم محط اهتمامها ، وموضوع عشقها!!
الموت صديقي ، تعرفت عليه في صيف عام 1973 في لندن عندما يركني توفيق إبني وذهب معه
ثم زارني مرة أخرى في الخامس عشر من ديسمبر عام 1981 حين أقنع بلقيس أن تذهب معه فذهبت ،
وطرق الباب علىّ في مشفى ( جورج تاون ) في واشنطن في صيف عام 1982
عندما كنت أجري جراحة في قلبي ،
ولكنني لم أفتح له الباب فترك بطاقة وذهب !
إن الموت يدخل في لحمنا كل يوم عشر بوصات ، ولكننا لانعترف به ،
ويحتل من جسدنا مساحات هائلة ،
لا يهزم الموت إلا الفن ، والفنانون هم الوحيدون الذين يخافهم الموت ويحسب حسابهم ،
والمتنبي هاجمه الموت منذ أكثر من ألف سنة ولكنه هرب أمام شجاعة المتنبي وصموده وكبرياء نفسه 0
إنني عندما أكتب شعراً أشعر بالقوة والمناعة 0
فالشعر هو شهادة تأمين ضد الموت ! 0