المقامات، الفن العربي الأصيل
التمهيد
شهد النثر العربي منذ أقدم العصور إلي يومنا هذا تقلبات کثيرة تجلت في مختلف الأساليب والفنون وخلف نتاجات أدبية قيمة، إلا أن من يتتبع نتاجات الأقدمين ومؤلفاتهم نظما ونثرا يري أنهم عنوا بالفنون الشعرية المختلفة عناية خاصة في نتاجاتهم التي تتناول التراث الشعري بين الشرح تارة والنقد تارة أخري. وخير دليل علي هذا الرأي هوالکتب المصنفة في مجال الشعر تحت العناوين المختلفة کـ"نقد الشعر" و"طبقات الشعراء" بالإضافة إلي اعتماد النحويين علي الشواهد الشعرية ما استطاعوا إليه سبيلا في شرح قواعدهم النحوية.
تعد المقامات إحدي الفنون النثرية التي يبالغ فيها الاهتمام باللفظ والأناقة اللغوية وجمال الأسلوب بحيث تتعدي الشعر في احتوائها علي المحسنات اللفظية إلا أنها لم تحظ اهتمام الأدباء والنقاد وهذا لايعني أنهم أهملوا هذا الفن کليا بل المقصود هوأن النثر بشکل عام والمقامات علي وجه الخصوص نالا أقل اهتمام بالمقارنة إلي ما ناله الشعر العربي من علوالشأن
يهدف هذا المقال إلي دراسة المعنيين اللغوي والأدبي للمقامة مبينا عناصرها الفنية وکيفية نشأتها وتطورها والغور في خصائصها ودراسة ما يميزها عن القصة وأخيرا التعريف بأهم أصحابها
إن أول من قام بصياغة هذا النوع الأدبي هوبديع الزمان الهمذاني (357هـ - 398هـ) الذي يعد مبدع المقامات ( البستاني، أدباء العرب، ج 2، ص 389) غير أن هناک تباين في الآراء بين النقاد والباحثين في اعتبار الهمذاني مبدعا لهذا الفن الأصيل بحيث يعتقد جرجي زيدان أن بديع الزمان الهمذاني اقتبس أسلوب مقاماته من رسائل إمام اللغويين، أبي الحسين أحمد بن فارس (390هـ). ( المصدر نفسه، الصفحة نفسها. ) بينما يعتبر الدکتور زکي مبارک مقامات الهمذاني مشتقة من أحاديث بن دريد (321هـ) ويري بين مقامات الهمذاني وأحاديث بن دريد مشابهات قوية من حيث الحبکة القصصية واستخدام السجع. (مبارک، النثر الفني، ج 1، ص 197
المقامات
المقامات في اللغة جمع المقامة؛ والمقامة هي المجلس. والمقصود بالمقامة في الأدب «قصة تدورحوادثها في مجلس واحد. » (البستاني، أدباء العرب، ج 2، ص 389).
المقامة قصة وجيزة أوحکاية قصيرة مبنيةعلي الکدية (الاستعطاء) وعناصرها ثلاثة =
. راوية ينقلها عن مجلس تحدث فيه
مکدٍ (بطل) تدور القصةحوله وتنتهي بانتصاره في کل مرة.
ملحة (نکتة)، (عقدة) تُحاک حولها المقامة؛ وقد تکون هذه الملحة بعيدة عن الاخلاق الکريمة وأحياناً تکون غثّة أوسَمحة وتبني المقامة علي الإغراق في الصناعة الفظية خاصة والصناعة المعنويةعامة.
تحدر فن المقامات
ليس فيما أثر عن العرب مقامات سابقة علي مقامات بديع الزمان الهمذاني (358ـ398 هـ)، فهومن أجل ذلک يعتبر مبدع هذا الفن. علي أن نفراً من الأدباء کابن عبد ربه وابن قتيبة والحصري، يفضلون أن يقولوا إن بديع الزمان اشتق فن المقامات من فن قصصي سابق. (المصدر نفسه، الصفحة نفسها، بتصرف. ) ويريد الدکتور زکي مبارک أن يثبت أن مقامات بديع الزمان مشتقّة من "أحاديث ابن دريد"؛ وابن دريد (321 هـ) هذا کان راوية وعالماً ولغويّاً وقد عني برواية أحاديث عن الأعراب وأهل الحضر. ( مبارک، النثر الفني، ج 1، ص 197) ولاريب في أن بين أحاديث ابن دريد وبين المقامات شبهاً قوياً من حيث القصص واستخدام السجع، ولکن هناک أيضا فروقا کبيرة في الصناعة وفي العقدة وفي وجود بطل المقامات وهوالمکدي، وفي انبناء المقامة علي الکدية وعلي الهزء من عقول الجماعات مع إظهار المقدرة في فنون العلم والأدب، إلي ماهنالک من خصائص يعتريها فن المقامات.
بالإضافة إلي أن هذا لايعني أنّ بديع الزمان لم يطلع علي أحاديث ابن دريد أوعلي مارُوي عن العرب من قصص وأحاديثَ وأسمار، ولکن الفرق بين ما روي عن العرب من الأحاديث وبين المقامات من حيث الغاية والأسلوب کبير جداً. وعلي کل فإن بديع الزمان إن لم يکن مبدع فن المقامات، فإن مقاماته أقدم ماوصل إلينا من هذا الفن الأدبي الرائع.
روّاد المقامات
کان بديع الزمان الهمذاني (357 هـ 398 هـ) والحريري (446هـ 516هـ) من أبزر کتاب المقامات في العصر العباسي وتتناول السطور القادمة أهم السمات الأدبية لدي الأديبين بإيجاز بالغ=
1- بديع الزمان الهمذاني (357هـ 398هـ ) ومقاماته: إن مقامات بديع الزمان قصار في الأغلب وفيها فصاحة وسهولة ووضوح إلي جانب الدعابة والمرح والتهکم وبديع الزمان حسن الابتکار قل أن تجد له مقامتين في معني واحد، وهويجيد في مقاماته السرد والوصف الحسّي والتحليل ويحسن دراسة الطبائع وتصوير المعائب وعرض مساويء المجتمع، غير أنّه لايقصد إلي إصلاح هذه المساويء بنصح أوبردع، وإنمّا غايته التهکّم بأصحابها وإطراف الآخرين بتصويرها واستعراضها، وهوکثير الاحتقار للناس.
وأسلوب بديع الزمان في مقاماته خاصة، حلوالألفاظ سائغ الترکيب جميل الوصف کثير الصناعة المعنوية (في الاستعارات والکنايات والتوريات خاصة) من غير تکلّف ولا إغراق في السجع
وللمقامات الخمسين التي بدأ بديع الزمان کتابتها منذ عام 375 هـ راوية واحد هوعيسي بن هشام ومکد (بطل) واحد هوأبوالفتح الإسکندري (نسبة إلي الإسکندرية التي هي قرب الکوفة علي الفرات) وهما شخصيتان تاريخيتان
ومن أشهر مقاماته مقامتين؛هما المقامة المضيرية والمقامة البشرية. أما المقامة المضيرية فتظهر فيها براعة البديع في الوصف ودقة التصوير، علي شيء کثير من السخر وخفة الروح. أما الأخري البشرية، فهي التي وفق بها بديع الزمان لاختراع شاعر جاهلي تبنّاه التاريخ من بعده، ألاوهوبشر بن عوانة العبدي. (البستاني، أدباء العرب، ج 2، صص 390ـ394 بتصرف.)