بينا فيما سبق كيف أن الموالاة بين يهود والنصارى لم تحدث إلا في هذا القرن عداوة لله ولرسوله وللمسلمين ، وكيف أنهم تعاونوا على إقامة دولة يهود مع أنهم كان يضطهدون بعضهم بعضا ، أو بالأحرى كان النصارى يضطهدون يهود . وبينا أن فئة أصلها من جماعة المؤمنين تعاونت مع يهود والنصارى في ضر الأمة وتمزيقها والمعاونة لإقامة دولة يهود . وبينا كيف سارعت هذه الفئة بعد أن تحولت إلى منافقة في قلبها مرض إلى إرضاء يهود والنصارى ، وأن الفئة الباغية استمرت في بغيها وضلالها مما جعل الفئة القليلة من المؤمنين في حيرة من أمرها ، حيث الفئة الحاكمة المتسلطة على بلاد المسلمين إرتدت حينما والت يهود والنصارى (ومن يتولهم منكم فإنه منهم) [المائدة : 51] فأخذت الفئة القليلة المؤمنة تتطلع نحو السماء وتسجد متضرعة إلى الله . ومن هذا الوضع اليائس تأتي الآيات التي نحن بصددها فتعطي أملا للحائرين ، وتبشر المؤمنين بأن الله سبحانه وتعالى سيغير الأمر بحكمته حيث يقول (فعسى الله أن يأتي بالفتح أو أمر من عنده فيصبحوا على ما أسروا في أنفسهم نادمين) [المائدة : 52] ، و "عسى" للترجي ، ولكنها في حق الله لليقين ، والفتح هنا الفصل والحكم ، كما قال الله تعالى (ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق وأنت خير الفاتحين) [الأعراف : 89 ] ، أي : افصل واحكم . إذ أن الآية تتحدث عن الموالاة بين يهود والنصارى ، هذه الآية قد نزلت بعد فتح مكة ، لأن سورة المائدة من أواخر سور القرآن نزولا ، فقد روت عائشة رضي الله عنها قالت :" آخر ما نزل من كتاب الله سورة كاملة ، سورة المائدة فأحلوا حلالها وحرموا حرامها " ، وليس المراد ( بالفتح ) فتح بلاد المشركين ، كما قال بعض المفسرين ايضا ، إذ أن عملية الفتح الإسلامي بدأت في بلاد الوثنيين والصابئة كبلاد فارس والهند ، وفي بلاد النصارى كبلاد الشام ومصر . ولم يكن هناك تعاون في أثناء الفتح الإسلامي بين يهود والنصارى ، ولذلك تعين المعنى أن الفتح هو الفصل والحكم ، وأن الله سيفصل في الأمر بين الفئة المؤمنة وبين المتسلطين من الحكام على بلاد المسلمين الذين تعاونوا مع يهود والنصارى .
وفي الآية إشارة إلى أن أرضا من أرض الإسلام ستسترد من يهود والنصارى بعد أن إستولوا عليها حيث سيفتحها الله على أيدي المؤمنين ( فعسى الله أن يأتي بالفتح أو أمر من عنده ) و " أو " هنا ليست لتخيير ، لأن " أو " معانيها ثلاثة : فهي تأتي للتخيير ، أو لمجرد العطف ، أو للإباحة . و " أو " هنا لمجرد العطف حيث للتخيير في حق الله لا يجوز ، لأن الله يعلم ما يريد . ولذلك يتحدث الله في الآية عن فتح وأمر من عنده يغير واقع المسلمين المرير ، ويفسد به على الفئة التي والت يهود والنصارى أمرها .
والفتح الذي أشارت إليه هذه الآية سيأتي قريبا بإذن الله ، وأمر الله بدأ يمهد الدرب للنصر المرتقب ، وعلامته هذه الظاهرة العجيبة التي بدأت في كل بلاد المسلمين بعود الشباب المثقف إلى الإسلام فجأة بعد أن يئس من الأيدولوجيات المستوردة ، والتي ما رأت الأمة في ظلها إلا الهزائم المتلاحقة والتجزئة والفرقة ، ففكر تفكيرا جيدا ، فأهتدى إلى الله ، وأصبحت هذه الظاهرة موضع بحث في العالم الكافر كله ، وفي العالم الإسلامي أيضا . ولقد أصدر الرئيس الأمريكي السابق كارتر إلى رجال مخابراته أمرا بدراسة هذه الظاهرة ، وألفت كثير من الجامعات لجانا لدراسة هذه الظاهرة ، وهم يعلمون أن الأمر يتعلق بمرحلة أخبرت عنها الآيات والأحاديث ، وصدق رسول الله الذي قال :" قلوب العباد بين اصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء " .
وهذا التغيير من ظواهره أيضا فشل الكمالية والكماليين بعد خمسين عاما من الجاهلية التي أراد بها ( مصطفى كمال أتاتورك ) بوصفه اليهودي مجهول الأب أن ينزع الإسلام من تركيا أو ينزع تركيا من الإسلام نهائيا وإلى الأبد . ولكن الشعب التركي المسلم الذي انخدع قسم كبير منه في أول الأمر بالكمالية والكماليين - نسبه إلى مصطفى كمال - ، حيث عمل يهود والنصارى على إضفاء صفة البطولة على مصطفى كمال ، وأنه ينقذ تركيا من الإستعمار ، رغم أن مصطفى كمال لم يكن بطلا ولا شبه بطل ، ولكن بعد أن سلم سوريا في الحرب العالميـة الأولى إلى الحلفاء في عملية إنسحاب خسيسة ، وكان قبلها قد شارك في تسليم طرابلس الغرب سنة 1911م إلى إيطاليا ، واستطاع أن يصل بدهائه وغدره وخيانته وبمعاونة الغرب إلى قيادة الجيش العثماني الذي حارب الحلفاء بعد دخوله تركيا ، وفي هذه الأثناء تمت الصفقة ، إذ أظهر آخر الخلفاء العثمانيين (عبد المجيد خان) بمظهر الخليفة المستسلم الضعيف المتعـاون مع الأعداء في إسـطنبول ، وأظهر مصطفى كمـال كبطل التحرير الوطني ، فكان أن إنسحب الحلفاء من تركيا مقابل ما أعلنه ( أتاتورك ) فيما بعد وهو أن يلغي ( الخلافة ) إلى غير رجعة ، ويعلن تركيا دولة علمانية ، ويلغي الأحرف العربية ، وأن يجعل الآذان باللغة التركية ، وأن يمحو كل مظهر إسلامي في الحياة التركية . وهكذا سارت الأمور ، وأصبح أتاتورك معبود الجماهير المضللة في تركيا وخارج تركيا بإعتباره بطلا وطنيا . ولكن عقيدة الشعب التركي المسلم كانت أقوى من المؤامرة وأصلب من الخداع ، فسرعان ما بدأ يستيقظ على الحقيقـة المخيفة ، فأدرك أن أتاتورك لم يكن بطلا وطنيا ولا زعميا ملهما ولا قائـدا حكيما ، وإنما كان محطم أمة مشوه تاريخ ، وعدوا لله ولرسوله وللمؤمنين ، وأنه كان ألعوبة في أيدي يهود والنصارى ، وأنه كان من يهود الدونمة ، الذين هاجروا من إسبانيا بعد خروج المسلمين من الأندلس واستقروا في سالونيك وتظاهروا بالإسلام وأخفوا الكفر وأسسوا المحافل الماسونية ، وعملوا بدهاء وصبر - بعد أن وصلوا إلى أعلى المراكز بأسمائهم الإسلامية - على تحطيم الدولة وذهاب الخلافة ، وظن الناس ، وظن يهـود والنصارى أن تركيـا قد إنتهى الإسلام بها أو إنتهت من الإسلام ، ولكن الأمر كان على غير ما يتوقعون . فعقيدة الشعب المسلم ممتدة في جذور عميقة في نفسه ، والإسلام هو حياته ، وهو عاداته ، وهو مجده ، وهو إنتصاراته ، وهو إستشهاده ، ولذلك فإن بقايا الأحزاب التي أقامها أتاتورك حينما تريد أن تخدع الشعب وتنافق الشعب يحمل زعماؤها المصاحف ، ويقبلونها أمام الجماهير المسلمة ليستمروا في خداعها . ولكن كل ذلك إلى حين ، فسينكشف أمرهم كما إنكشف أمر أتاتورك ، ولقد أحس المرحوم عدنان مندريس بالشعور الحقيقي للشعب التركي المسلم ، وأنه لم يستطع الدستور العلماني الذي وضعه أتاتورك ، ولا الكبت ، ولا الإرهاب ، ولا تغيير الحروف العربية للغة التركية إلى الحروف اللاتينية والتي أراد بها أتاتورك وأعوانه والمخططون من ورائهم يهود والنصارى أن يقطعوا صلة الشعب التركي بتراثه وتاريخه ، وبعقيدته وبإسلامه ، وبأدبه وحضارته ، وشعره ونثره ( إذ منذ أن قامت دولة السلاجقة الأتراك ، ثم الدولة العثمانية التركية كتبت حضارتها بالحروف العربية ، بالإضـافة إلى شروح القرآن والأحاديث النبوية ، وكذلك كتب القصة والأدب ) . فأرادوا أن يقطعوه عن كل ذلك ، ولكن لم ينقطع إذ بقي القرآن كتاب الله وحده ويتحدى الظلم والدساتير والبطش والإرهاب ، فكان المسلم التركي - وكل الأتراك مسلمون - يضطر إلى أن يقرأ القرآن بلغته العربية حتى يستطيع أن يصلي . وأخيرا أعاد مندريس ، بعد أن شعر بحقيقة الشعور الإسلامي ، أعاد الآذان باللغة العربية ، وفتح المعاهد والكليات في مختلف الولايات التركية لتدريس الشريعة الإسلامية باللغة العربية ، وبنى المساجد ، فخاف الغرب أن يعود الإسلام مرة أخرى مؤثرا في حيـاة تركيـا . . هذا الإسـلام الذي جعل الشعب الـتركي يأخذ ( القسطنطينية ) من أيدي الصليبيين لتصبح مدينة المآذن والمساجد ، بعد أن كانت مدينة النواقيس والكنائس ، فأسرع الغرب لعمل إنقلاب ضد عدنان مندريس ، فقتله وأعدمه ، ولكنه لم يستطع أن يعيد الآذان إلى اللغة التركية ، بل بقي باللغة العربية ، ولم يستطع أن يلغي المعاهد التي أنشأها لتعليم الشريعة الإسلامية بل زادت وأتسعت حتى كادت تبلغ الثلاثمائة بالإضافة إلى ستة معاهد عليا ، وكليتين جامعتين . وبدأ الشعور الإسلامي ينفض الغبار ، وينفك من الإسار ، ويفتح عينيه على الحقيقة ، فإذا حزب إسلامي ( حزب الرفاه ) يدخل الحياة النيابية على أساس الحكم بالإسلام والعودة بالإسلام ، ويقيم هذا الحزب مؤتمرا للسيرة النبوية في إستطنبول يدعو إليه عددا من العلماء والمفكرين من أنحاء العالم الإسلامي . ولم يكـن عقـد هذا المؤتـمر بالسهـولة الميسورة ، إذ أن الكماليين واليساريين حاولوا جهدهم أن يمنعوه ، ولكنه انعقد في عاصمة الخلافة ، ولم يمض على مـوت أتاتـورك أربعــون عاما ، وصدق الله العظـيم حـين قال (إن الذين كـفـروا ينفقــون أموالهـم ليصـدوا عن سبيــل الله فسينفقونهــا ثم تكـون عليهـم حسرة ثم يغلبــون) [الأنفال : 36] . ولقد رأينا في إستطنبول صبية في عمر الورود في الثالثة عشرة والرابعة عشرة من عمرهم يحفظون القرآن غيبا ويتلونه وهم يستشعرون العزة الروحانية والخشوع لله .
وهكذا بدأ مارد الإسلام يتململ وينفض غبار التاريخ تمهيدا لعودته إلى قيادة المسلمين وتوحيدهم ولم شملهم ، ثم ينطلق لينقذ البشرية من جحيم حياتها ، ومن إنهيار القيم فيها ، وليعيد الهدوء إلى نفوس الناس والإستقرار والطمأنينة .
هؤلاء الناس المساكين الذين يبحثون عن المخلص ، فلم يجدوه في الكنيسة وطقوسها الوثنية ، فكثرت الأديان ، وكثرت الآلهة ، وكثر الكذابون والدجالون ، وما قصة معبد الشعب في غيانا الأمريكية حيث أمرهم نبيهم المزعوم أن يسمموا أطفالهم ثم يقتلوا أنفسهم إلا عملية تمثل إنهيــار الحضارة الغربية والنصرانيـة الغربيـة ، وبشاعة الرأسمالية أبشع تصوير .
والواقع أن المسؤولية في هذا كله تقع علينا معشر المسلمين ، فنحن أصحاب الكتاب الحق ، وأتباع النبي الخاتم ، التي جعلها الله خير أمة أخرجت للناس مكلفة بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر (كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله) [آل عمران : 110] .
ولكن كيف يتم ذلك ؟ وكيف نقوم بذلك و "المنكر" في بلاد المسلمين أصبحت له قوانينه وتحميه الأنظمة ، وتدافع عنه الجيوش ؟ و"المعروف" في بلاد المسلمين مضطهد أهله ، محارب أصحابه ، يستهزأ به في مجالس الذين صنعوا الهزيمة ، وما رأينا على أيديهم إلا الذل والسخيمة . ولكن هذا المنكر والأنظمة التي تحميه ، والقوى التي تدافع عنه هو مرض عارض في تاريخ أمتنا ، عوقبنا به ولن يستمر طويلا ! إن الأمة بدأت تتعافى من المرض ، وتصحو من الغيبوبة ، وتستيقظ على الحقيقة . ولا أعني بالأمة ، كما قلت سابقا ، هذه الجماهير التي تشغلها لقمة العيش عن التفكير ، وليس لديها المقدرة على التحليل ، وهي تأخذ الأمور بظواهرها ، ويسوقها حكامها إلى حتفها وهي تضحك ، وإلى المجزرة وهي تصفق ، وإلى الهزيمة تلو الهزيمة وهي تهتف للزعيم أو للملك أو تقدس الحزب ، وإنما أعني بالأمة : القلة الواعية ، والفئة المؤمنة التي بدأت تعود إلى القرآن ، تستفيق فيضيء لها جنبات دربها . هذه القلة التي عناها الله بقوله ( ثلة من الأولين * وقليل من الآخرين ) [الواقعة : 13-14] ، وقوله تعالى (ثلة من الأولين * وثلة من الآخرين) [الواقعة : 39-40] .
فإذا عرفت هذه الفئة أو الثلة كيف تأخذ الزمام ، وتمسك بالخطام ، أعادت لأمتنـا سيرتهـا الأولى ، تصعد المجد من جديد ، تحت راية واحدة ، وقيـادة واحدة ، وتدخل مع الكفر في المعركة المحتومة (هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون) [التوبة : 33] ، (والله متم نوره ولو كره الكافرون) [الصف : 8] .
وحين يتكشف الأمر وتنكشف الحقيقة سيعرف الناس أن هذه الأحزاب ، وهؤلاء القادة والحكام والعائلات المالكة صنعوا بليل التآمر وفي دهاليز السفارات ، وعلى أيدي المخابرات الأجنبية ، وذلك الحاكم أو الملك الذي يريد من الإسلام أن يقف في وجه الشيوعية والإشتراكية - أيام الشيوعية - بحجة أن الشيوعية إلحاد ، وأن الإشتراكية كفر - وهي كذلك - فإذا طولب بأن يمنع الربا في قوانين بلاده وهو حرام في الإسلام ، أو أن يحرم الخمر والميسر ، أو أن يمنع الإحتكار ، أو أن يمنع الظلم والتبذير والسفه ، قامت أجهزته التي يبطش بها تقول : هذا تدخل من الدين في السياسة !! وإذا طولب بحرب يهود ومعادات من يواليهم ( وهو أشد عداوة لله من الشيوعية ) تمسك بالعقلانيـة والإعتـدال ، وهو بهذا يغالـط نفسه ويهـرب من الحقيقـة ، وهو أن هذا الدين أنزله رب العالمين ليسوس الناس به أنفسهم ، فالدولة في نظر الإسلام خليفة يطبق الشرع .
أقول : حينما تتكشف الحقائق سيندم كثير من الناس من الفئة المؤمنة على الأصوات التي كانوا يرفعونها لتحية هذا الزعيم أو ذاك الملك ، لأنها حينما تنكشف الحقائق فستنكشف فيها صفات من التآمر والخداع والخيانة والتدنيس ، فيصبح هؤلاء الحكام والملوك الذين خانوا ودنسوا نادمين على ما فعلوا ، ولكن ولات ساعة مندم .
ثم تمضي الآيات ( يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه ) [ المائدة : 54 ] ، فيوالي يهود والنصارى وينصرهم على أمته ، فيعتقد بعقيدتهم بأن الإسلام يجب أن يبعد عن الحياة ، وأنه لا مكانة له في الدنيا إلا في مسجد أو زاوية أو طريقة صوفية منحرفة أو إحتفالات في مناسبات دينية ليس لها سند من شرع أو دين أو إحتفالات في موالد وثنية تقام حول بعض القبور تنقر بها الدفوف وتضرب فيها الطبول . فإذا سارت بهؤلاء القوم الذين إرتادوا الغواية إلى نهايتها فيهدد الله سبحانه وتعالى بأنه ( فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين ) [ المائدة : 54 ] ، وللمفسرين هنا ثلاث أقوال ، فبعضهم قال : ( فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه ) : المراد أبي بكر الصديق - رضي الله عنه - في قتاله للمرتدين ، وقال بعضهم : المراد الأنصار ، وقال آخرون : المراد اليمن من جماعة أبي موسى الأشعري ( الأشعريين ) .
والأقـوال الثـلاثة مـردودة للأسباب الآتيــة :
أولا : الآيات تتحدث عن الموالاة بين يهود والنصارى ، وعن الذين سيوالونهم من المؤمنين ، وأبو بكر - رضي الله عنه - قاتل المرتدين من المشركين . ونزلت الآيات وأبو بكر موجود ، والآية تتحدث عن مستقبل بعيد . " فسوف " للمستقبل البعيد .
ثانيا : نرد على من قال بأن المراد بهم الأنصار : أن سورة المائدة هي آخر سور القرآن نزولا في المدينة ، وكان أهل المدينة قد نالوا شرف النصر . حملوا هذا اللقب العظيم قبل نزول سورة المائدة ، والآيات هنا تتحدث عن مستقبل بعيد .
ثالثا : أما من قال أن المراد هنا اليمنيون من جماعة أبي موسى الأشعري ، فهؤلاء كانوا فئة قليلة إندمجت مع المهاجرين والأنصار ، وينطبق عليها ما انطبق على الأنصار ، ولذلك فإن الإمام المفسر القرطبي يورد قولا بأن الآية (فسوف يأتي بقوم يحبهم ويحبونه) لم تنزل للمؤمنين في عهد نزولها ، وإنما هي آية مستقبلية .
وهنا تأخذ الآيات في وضع صور متقابلة بين الفئة التي ارتدت ووالت يهود والنصارى ، والفئة التي يأتي بها الله لمحاربة يهود والنصارى :
أولا : أحباب الله من المؤمنين الذين سيأتي الله بهم ، صفاتهم أنهم (أذلة على المؤمنين ) [ المائدة : 54 ] ، يرعون المؤمنين حق الرعاية كالأم لإبنها والولد لولده فهم أذلة على المؤمنين ، بخلاف الفئة التي والت يهود والنصارى فهم أذلاء بين يدي يهود والنصارى يتملقونهم ويتوددون إليهم ويخافون منهم ( نخشى أن تصيبنا دائرة ) [ المائدة : 52 ] ، والذلة هنا ليست الهوان ، وإنما الإنقياد كالجمل الذلول .
ثانيا : وأحباب الله الذين سيأتي بهم الله لإنقاذ الإسلام والمسلمين أعزة على الكافرين لا يخافونهم ولا يخشونهم ولا يسعون إلى مراضاتهم لأنهم ربطوا أنفسهم بالله ، وطلبوا العون من الله ، وساروا على درب نبيهم ( صلى الله عليه وسلم ) حينما كان لا يفتر عن ذكر الله وكلما إشتدت عليه الأزمات استغاث بالله . قال تعالى ( إذ تستغيثون ربكم فأستجاب لكم أني ممدكم بألف من الملائكة مردفين * وما جعله الله إلا بشرى ولتطمئن به قلوبكم وما النصر إلا من عند الله إن الله عزيز حكيم ) [الأنفال : 9-10] ، فمن كان الله معه كان النصر في ركابه .
ثالثا : صناع الهزيمة ممن والوا يهود والنصارى ، فأعلنوا أنهم لا يريدون الجهاد حرصا على حياتهم الدنيا ، وتمسكا بمناصبهم الفانية ، وإمعانا في إذلال أمتهم وتحديا لله ولرسوله وللمؤمنين . وأما أحباب الله فسيأتون ليعلنوا الجهاد وليقاتلوا الكفار من يهود وغير يهود ، يطرقون أبواب الجنة برؤوس أعدائهم ، ويهود والنصارى يخشون هذه الفئة من أحباب الله ، لأنها ما قاتلتهم في التاريخ إلا وإنتصرت عليهم ، وكأنهم يحسون بقرب قدومها . ولذلك يقول وزير دفاع يهود (وايزمان) :" نريد أن ننتهي من الإسلام الذي يقول للمسلم : إن قتلت يهوديا دخلت الجنة ، إن قتلك يهود دخلت الجنة " . وهذا فهم صحيح للجهــاد من عدو الله . قال تعالى (إن الله إشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون وعدا عليه حقا في التوراة والإنجيل والقرآن ومن أوفى بعهده من الله فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به وذلك هو الفوز العظيم) [التوبة : 111] .
والأمة الإسلامية ، الجهاد حياتها ، والجهاد تاريخها ، والجهاد ذروة سنام دينها ، وقدرها أن تستمر في المعارك ، تحمل الإسلام ، وتنشر الدين ، فإن تركت الجهاد لم يتركها عدوها تستريح وإنما داهمها في ديارها ، وهي كلما تقربت من الله بتطبيق الإسلام في حياتها كان الله معها ، وكلما بعدت عن الله تركها لنفسها ، فلا تنتصر إلا إذا عادت إليه .
والجهاد لا يجوز إبطاله ، لا يقول بإبطاله إلا كافر أو منافق ، ولذلك يقول الرسول (صلى الله عليه وسلم) :"الجهاد ماض إلى يوم القيامة لا يبطله عدل عادل ولا جور جائر وإذا أستنفرتم فأنفروا" .
إن أحباب الله يجاهدون في سبيل الله ، أما المرتدون ممن والوا يهود والنصارى والحالمون بالحلول السلمية ، النائمون على الوعود الدولية ، الواثقون من ( الرأي العام العالمي ) ، فهم يخافون من الجهاد ، ولذلك عمد الرئيس المرتد أنور السادات في إتفاقيته الخاسرة إلى يهود فأعطاهم كل شيء مقابل إلغاء الجهاد .
فلمـا قطعـت جمهورية إيران البترول الذي كان يورده الشـاه إلى دولة يهود، بادر هذا المرتـد (السادات) في إعطـاء البـترول ليهـود ما يمكنهم من ذبح المسلمين به ، وردوا إليـه سينـاء بدون سـلطة له عليهـا ، محرم على جيش مصر أن يدخلهـا ، أما يهود فسيبقون على الحدود تنشىء لهم أمريكا النصرانية الحاقدة مطارات لينتقلوا منها إلى مصر متى يشاءون لا يقف أمامهم جيش ، وأعطى الرئيس ( المؤمن جدا ) السادات والذي سار على دربه الملك حسين وفعل كما فعل السادات فأعطى القدس ليهود ، والمسجد الأقصى ليهود ، ويافا وحيفا والجليل والنقب والسهل والجبل ، بل أعطى الأرض المباركة كلها بما فيه من تاريخ ، ويعلن بلا حياء ولا خجل حين وصوله إلى واشنطن عاصمة الكفر في الأرض : " أن يوم توقيع معاهدة الردة هو يوم تاريخي " . . وقول الملك حسين بعده بستة عشر سنة في واشنطن :"اليـوم أسعد لحظة في حياتي ، ومن أجل هذه اللحظة مات جدي الملك عبدالله" ؟ .
ومن العجيب الغريب أن التاريخ يعيد نفسه في هذه المعاهدة . ففي الحروب الصليبية قام حاكم مصر (شاور) بالإستعانة بالصليبيين وعقد معهم معاهدة كمعاهدة خلفه (أنور السادات) ، وجعل جيش مصر يقاتل مع الصليبيين قوات المسلمين الزاحفة من ديار الشام بقيادة شيركوه وابن أخيه صلاح الدين ، وكان هذا عند قرب نهاية الدولة الصليبية إيذانا بذهاب دولة الفاطميين .
إن الإرهاصات التي بدأت تظهر في ديار المسلمين مقدمة لمجيء أحباب الله من القياديين حتى يقودوا الأمة في معركة الجهاد واستئصال دولة الكفر . هؤلاء القيـاديـون حينمـا يأتون سيكونون موضع استغراب النـاس ، فيجيب الله المتسـائلين عن هـؤلاء الأحبـاب ( ذلك فضـل الله يؤتيـه من يشاء والله واسع علـيم ) [المائدة :54] . وأحباب الله الذين أحبوا الله ورسوله هم الذين يقول فيهم الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) :"لا يؤمن أحدكم حتى يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما" . الله أحب إليهم من أنفسهم ومن أموالهم ومن أولادهم ومن مناصبهم (قل إن كان آبــاؤكـم وأبنــاؤكـم وإخوانكـم وأزواجكم وعشيرتكـم وأمــوال إقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله فتربصوا حتى يأتي الله بأمره والله لا يهدي القوم الفاسقين) [التوبة : 24] .
ومن المؤلم للنفس المؤمنة أن بعض علماء مصر ممن تولوا ويتولون مناصب رئيسة في الأزهر والأوقاف قد سايروا حاكم مصر المرتد ، وزينوا له عمله . فإن كانوا مرغمين في ذلك فقد أثموا وقاربوا الردة وأصبحوا سبه عار في تاريخ العلمــاء ، من باعــوا آخرتهم بدنيــا غــيرهم فأصبحـوا من سـفلة السـفلة . فقد سـأل عبـدالله بن مبـارك - رحمه الله - وهو من تابعي التابعـين وهو من العلماء المجــاهدين المرابطــين في ديار الشــام ، :" من السفلة ؟ " . قال :" من بـاع دينــه بدنيــاه ! " ، فقالــوا :" من سـفلة السـفلة ؟ " ، قال :" من باع دينـه بدنيـا غــيره " !! وإن كانوا مختــارين في ذلك غـير مرغمـين فقـد والـوا يهود والنصارى وأصبحوا منهم وقد خرجوا من الملة هم وأمثالهم ( فالله أحق أن تخشوه إن كنتم مؤمنين ) [ التوبة : 13 ] .
ثم الولاء بعد الله يكون لرسوله . والولاء لرسوله يقتضي الحب الكامل لشخصه الشريف كما ورد في الحديث :"لا يؤمن أحدكم حتى يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما " . والرسول جاء بالوحي المتلو وهو (القرآن) ، وبالوحي غير المتلو وهو (السنة) ، فإذا قام حاكم من هؤلاء الحكام الذين جاءوا بليل فقال :" إني لا إعترف بالسنة وأعترف بالقرآن فقط " . فهو بعمله هذا قد كذب ما جاء به القرآن -حسب زعمه- والله يقول (وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فأنتهوا) [الحشر : 7] . إذن السنة وحي (قل أنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي) [الكهف : 110] ، ولكنه وحي لم ينزل بلفظه ، وهي جاءت موضحة وشارحة لقواعد القرآن الكلية بالتفصيل سواء بقول الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) أو فعله أو تقريره أو نهي منه أو سكوته فهذا من الوحي ( وما ينطق عن الهوى * إن هو إلا وحي يوحى ) [ النجم : 3 - 4 ] . فالرسول (صلى الله عليه وسلم) هو الذي حدد عـدد الصـلوات وركوعهـا وسـجودهـا ، ثم صلاها أمـام المسلمين وأمهم بها وقـال :"صلوا كما رأيتموني أصلي" .
فمن أنكر ركعتي صلاة الفجر الفرض ، فقد أنكر ما علم من الدين بالضرورة ، وبالتالي يكون قد كفر ولو زعم الإسلام . وكذلك بين الرسول في مقادير الزكاة على الأموال ، كذلك تفصيلات الحج ، وكان يقول :" خذوا عني مناسككم " .
ثم يكون بعد ذلك الولاء للمؤمنين ، والولاء للذين آمنوا يقتضي أن لا تناصر غير المؤمنين عليهم كما فعل الرئيس المرتد ( وكذلك بقية الحكام والملوك ومشايخ حارات الخليج الذين والوا الكفار ) . فهو بوثيقة الردة التي وقعها خان المؤمنين ، خان نساءهم وأطفالهم ورجالهم ، خان الذين كانوا يتأملون الخلاص على يديه ، فإذا هو يكتفهم ويرميهم إلى عدوهم يفعل بهم ما يريد (لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله) [المجادلة : 22] . والسادات إتخذ من يهود والنصارى أصدقاء وأحبابا ، وتخلى عن المؤمنين .
إن أحباب الله الذين والوا الله ورسوله والمؤمنين بطبيعتهم يعبدون ربهم فيقيمون الصلاة في أوقاتها ويؤدون الزكاة في أوقاتها ، فلا يقضون ليلتهم يتبادلون النساء في الرقص كما فعل زعماء الهزيمة ، ويفعل صاحب وثيقة الردة . وهؤلاء حينما يلتزمون جانب الله يصبحون من " حزب الله " ، ويقابلهم " حزب الشيطان " ، فكل من آمن بالله ورسوله وشهد الشهادتين وكفر بأعداء الإسلام ولم يوال يهود والنصارى هو من " حزب الله " ، وأما حزب الشيطان فهم حزب واحد سواء أكانوا عربا لا يؤمنون بالإسلام ، ( وماسونيين ، وقوميين علمانيين ، واشتراكيين علمانيين ، وشيوعيين ملحدين ، ورأسماليين ماديين ، يؤمنون بفصل الدين عن الحياة ) ، فالماسوني الغربي هو شقيق للماسوني العربي ، والشيوعي العربي هو رفيق للشيوعي اليهودي ، واليساري العربي الذي يؤمن بالصراع الطبقي في محاربة يهود ولا يحاربهم كغزاة وككفار هو شقيق لليساري اليهودي ، حتى إذا وصل اليساري اليهودي إلى الحكم في دولة يهود تخلى اليساري العربي عن قتال يهود . يجب أن ينظر إلى حزب الشيطان بنظرة واحدة بلا تمييز ، فالله تعالى يقول ( والذين كفروا بعضهم أولياء بعض إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير ) [ الأنفال : 73 ] .
ولكن يجب أن نميز بين الكفار ، فكافر قاتلنا وأخرجنا من ديارنا وظاهر على إخراجنا ، فهذا يجب أن نعاديه وألا نواليه ولا نحسن إليه ، كاليهودي في فلسطين وكبريطانيا وأمريكا وروسيا وغيرهم من الكفار ، أما الذين لم يسيئوا إلينا ولم يخرجونا من ديارنا ، ولم يظاهروا على إخراجنا ، فهؤلاء نحن مأمورون بأن نحسن إليهم ، وندفع عنهم الأذى ، ونقاتل في سبيل حمايتهم كالنصارى في بلاد المسلمين ما لم ينقضوا العهد كما فعل الموارنة في لبنان . يقول الله تعالى ( لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين * إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين وأخرجوكم من دياركم وظاهروا على إخراجكم أن تولوهم ومن يتولهم فأولئك هم الظالمون ) [ الممتحنة : 8-9] . وتقتضينا هذه الآية ألا نحترم مصالح الدول التي عاونت على إخراجنا من ديارنا وألا ندعم إقتصادها ، فيهود ليسوا بأكفاء لنا في المعركة - على ضعفنا - ولكن دول الغرب وعلى رأسها أمريكا وروسيا وبريطانيا وفرنسا وألمانيا ، غذتهم بالسلاح والمال ليقتلوننا وليثبتوا في أرضنا ، ولولا هذا المدد لما بقيت دولة يهود في أرضنا هذه المدة .
وبذلك فإن على دول البترول وأثرياء المسلمين الذين يدعمون اقتصاد الغرب ويودعون أموالهم في بنوكه ( وهي بنوك يسيطر عليها يهود ) أن يسحبوها ، وإلا كانوا من الذين خالفوا القرآن ووالوا يهود والنصارى ، وإلا كانوا شركاء في إذلال أمتهم وظالمين لها ولأنفسهم ، وشركاء في دعم دولة يهود ، وشركاء في قتل الأطفال والنساء وإرهابهم وهدم البيوت . وهم شركاء في ضم مساجد يافا وحيفا وبقية الأرض المباركة التي حول يهود كثيرا منها إلى مراقص وحانات للخمور لليهود .
القلة والكثرة
إن الكثرة الكاثرة من الجماهير لا يعول عليها في التغيير ، لأنها لا تعرف ما يضرها وما لا ينفعها ، ولذلك هي حينما تهتف بعقلية القطيع الذي لا يعي ، وحينما ترقص ترقص بنفسية المذبوح الذي لا يدري ، وحينما تؤيد تساق إلى التأييد سوقا . ومن هنا خرجت علينا قضية التأييد المطلق للحاكم ، أو للرأي الذي يريده بنسبة 99 وتسعات مكررة أخرى . أما الذي يقبل بوعي ويؤمن بتبصر فهم أهل الحل والعقد : الفئة القيادية ، الواعية القليلة . هذه الفئة هي التي تتغير فتؤمن بالإسـلام فيغير الله ما بها من جاهليـة . عند ذلك يتغير المجتمـع على أيديها فيتبعهــا الناس .. هذه الفئـة القليلة هي التي تعنيها الآيات الكريمة (وكم من فئـة قليلـة غلبـت فئـة كثـيرة بإذن الله) [البقرة : 249] ، (وقليل من عبادي الشكور) [سبأ : 13] ، (ثلة من الأولين * وقليل من الآخرين) [الواقعة : 13-14] .
ولما كان مجتمع الرسول (صلى الله عليه وسلم) المجتمع الأمثل والأكمل ، فإنا نراه قد ربى أصحابه من المهاجرين والأنصار تربية ربانية ، فطهرهم من أدران الشرك ، وخلص نفوسهم من أوساخ الجاهلية ، وجعلهم نماذج تحتذى فكان هؤلاء هم القادة ، وهم المعلمون وهم النماذج الحية للإسلام الحي ، طبقوه على أنفسهم وعملوا فيما بعد على تطبيقه في أرجاء الأرض ، والناس بعد ذلك كانت تبعـا لهم ، ولكن الناس لم يكونوا على مستوى إيمانهم ولا فقههم ولا بصيرتهم . قال الله تعالى ( قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولما يدخل الإيمان في قلوبكم وإن تطيعوا الله ورسوله لا يلتكم من أعمالكم شيئا إن الله غفور رحيم ) [ الحجرات : 14 ] . ولذلك حين توفي الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) اهتز المسلمون هزة عنيفة ، حتى أن عمر بن الخطاب أصابه الذهول ، فلم يصدق الخبر وقال :" إن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) لم يمت ولكن ذهب يناجي ربه كما ذهب موسى يناجي ربه " . ولكن جاء كبير المؤمنين وشيخ المصدقين أبو بكرالصديق - رضي الله عنه وأرضاه - ودخل المسجد ، فلم تذهله الفاجعة عن الحقيقة باعتباره التلميذ الأول لخاتم النبيين ( صلى الله عليه وسلم ) ، ووقف بجانب المنبر ، وقال :" من كان يعبد محمدا فإن محمدا قد مات ، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت " ، ثم تلا قوله تعالى ( وما محمد إلا رسول قد خلــت من قبله الرسل أفإن مات أو قتـل إنقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئـا وسيجزي الله الشاكرين ) [ آل عمران : 144 ] .
وحين سمع أصحــاب رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) الآية سلموا الأمر لربهم ، وبدأوا يتحملون المسؤولية كاملة ، وتركوا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) مسجى على فراش الموت ، وذهبوا لينتخبوا الخليفة الأول ، حيث لا يجوز أن يبقى المسلمون بدون إمام يرعى شؤونهم ويتولى نشر الدعـوة ، ويرسل الجيوش ، ويطبق أحكام الله في الأرض .
وأما الكثرة الكاثرة من الذين ( أسلموا ) ولم ( يؤمنوا ) فقد إرتدوا على أعقابهم كافرين ، ولم يبق على الإسلام إلا ثلاثة مساجد : مكة المكرمة والمدينة المنورة والبحرين . وظنت هذه الجماهير الجاهلة وقياداتها الجاهلة أن الإسلام قد إنتهى بوفـاة رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ، فمنهـم من عاد إلى جاهليتـه كلهـا ، ومنهم من أنكر فرض الزكاة وقال شاعرهم :
أطعنا رسول الله ما دام فينا فيا لعبـــــاد الله ما لأبي بكر
أيورثهـا بكرا إذا مات بعــده فتلك لعمر الله قاصمة الظهر
وبدأت الفئة القلية المؤمنة من المهاجرين والأنصار بقيادة أبي بكر الخليفة الأول تخوض المعارك الضارية حتى تعود بالجماهير الضالة إلى رشدها ، وتحملها على خير أمرها ، وتمنع عنها نجاسة الشرك من جديد . وهكذا خاض المسلمون المؤمنون الواعون من ( الفئة القليلة ) حربا ضروسا مع الجماهير الكافرة الكثيرة حتى أرجعوها إلى الصواب . ولذلك فإن الذين يقولون إن الإسلام " ديمقراطي " هم لا يفقهون الحقيقة . فالإسلام ليس " ديمقراطيا " ، وليس " إشتراكيا " وليس " رأسماليا " ، والإسلام ليس علما على شيء من هذه الأسماء التي إخترعها البشر . ولكنه دين رب العالمين . ولذلك لو إختارت " الأكثرية " نظاما غير الإسلام ، ودينا غير دين الإسلام ، فإن ذلك لا يقبل منها . ويجب أن تحاربها " الأقلية " - الفئة القليلة المؤمنة - لترجعها إلى دينها وإلى إسلامها . ولذلك تخطىء كثير من الحركات الإسلامية حينما تنتظر أن يتحول الشعب كله أو جله إلى حمل الدعوة ، وأن يحمل الإسلام كل فرد فيه بوعي وبصيرة ، وفهم وتعمق ، لأن إنتظار ذلك يخالف سنة من سنن الله في المجتمعات ، إذ يكفي أن توجد الفئة المؤمنة القليلة لتتحرك بتنظيم ووعي وتخطيط ، فتأخذ زمام المبادرة وتقود الأكثرية الساحقة . وقد توصـل بعض علمـاء الاجتمـاع الغربيين بعد دراسـة أحـوال المجتمعـات البشرية ، إلى أن الذين يفكرون في تغيير أحوال المجتمع هم 16 في المائة من أفراد المجتمع ، والذين ينهضون بالفعل لتغيير مجتمعهم لا تتعدى نسبتهم عن (3.5%) . أما بقية أفراد المجتمع فهي تتبع لا غير . ولقد وري عن الإمام علي بن أبي طالب -كرم الله وجهه- أنه قال :"الناس ثلاثـة : عالم رباني ، ومتعلم على وجه الحقيقـة ، وهمج رعاع يتبعون كل ناعق" . وهذه حقيقــة لا تحتمل التغيير والتأويل ، وهي سنة من سنن الله في خلقه . فحينما أخذ الشيوعيون الحكم في روسيا لم يكن الشعب في روسيا يدري ما الشيوعية ، ولكن الفئة القليلة المنظمة استطاعت أن تتسلم الحكم . وليس الأمر أمر (تطور حتمي) للمجتمعات كما زعم (ماركس) و (لينين) و(أنجلز) ، لأن إستلام الفئة القليلة للحكم نقض لنظرية التطور الحتمي ، والأدوار التي تمر بها تلك المجتمعات -كما يزعمون- إذ لو كان الأمر كما قالوا لأصبحت إنجلترا وألمانيا وأمريكا ودول الغرب دولا شيوعية قبل الإتحاد السوفياتي والصين ، لأنها مجتمعات متقدمة صناعيا ، فهي أولى بالتطور نحو الإشتراكية - حسب نظريتهم - من الإتحاد السوفياتي والصين لأن الأخيرة بلاد زراعية . وعلى كل حال فقد بطلت النظرية الشيوعية كلها وإلى الأبد بتفسخ الإتحاد السوفياتي إلى دويلات .
ولذلك فإن الفئة المؤمنة التي صبرت على دينها وأنار الله بصيرتها فلم تلحق بسراب المبادىء المستوردة ، ولم تصفق للطغاة ، ولم تهتف للمتجبرين ، وصبرت على طهرها ، فلم تنغمس في رجس الجاهلية ، فعبدت الله وحده لم تشرك به شيئا ، وصبرت مع أحكام الإسلام وسط مجتمعات جاهلية . هذه الفئة عليها أن تتقرب إلى الله باستمرار وأن توحد نفسها ، وأن تكثر من البكاء والتضرع والسجود وتلاوة القرآن الكريم وهي تعمل لعل الله يفتح على أيديها .
اليقظة الإسلامية وتنبه الغرب لها
إن إرهاصات عودة الإسلام إلى الحياة أصبحت محل دراسة الباحثين في الغرب وفي الشرق . ففي خلال العقود الثلاثة الأخيرة ضربت الحركة الإسلامية - خصوصا في مصر - وسحقت سحقا ، وظن الظانون أن الأمر قد إنتهى ، وأن الحركة الإسلامية ذهبت إلى غير رجعة ، ولكن سرعان ما خاب فألهم ، وتبين مقدار جهلهم بالعقيدة الإسلامية ، وكيف أنها دائما وعبر التاريخ تصقلها الهزات ، ولا يثني حملتها الإضطهاد ، ويسرع شبابها إلى الجنة والإستشهاد .
ولذلك ، فإن النصارى ويهـود ومن سار في ركابهم من المسلمين ، أصبحوا يدرســون هذه الظـاهـرة ، ويخططـون من أجـل التغلـب عليهـا ، فقد نشرت مجلة ( الدعــوة ) المصريـة في عـددها الصـادر بتـاريخ 31 / ديسمـبر / 1978م تقريرا ( سريا للغاية ) لأحد مستشاري المخابرات الأمريكيــة لضرب الحركــات الإسلاميــة وقتلهـا وتفريغها من مضمونها ( ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكـرين ) [ الأنفال : 30 ] .
وقـد جـاء في الـتقرير :
((من ريتشارد متشل إلى رئيس هيئة الخدمة العامة في المخابرات الأمريكية المركزية :
بناء على ما أشرتم إليه من تجمع المعلومات لديكم من عملائنا ، ومن تقارير المخابرات الإسرائيلية والمصرية التي تفيد أن القوى الحقيقية التي يمكن أن تقف في وجه ( إتفاقية السلام ) المزمع عقدها بين مصر وإسرائيل ، هي التجمعات الإسلامية ، وفي مقدمتها ( جماعة الإخوان المسلمين ) ، وبناء على نصح مخابرات إسرائيل من ضرورة توجيه ضربة قوية لهذه الجماعة في مصر قبل توقيع الإتفاق .
وفي ضوء التنفيذ الجزئي لهذه النصيحة من قبل حكومة السيد ( ممدوح سالم ) باكتفائها بضرب ( حزب جماعة التكفير والهجرة ) ، فإننا نقترح المسائل التالية كحلول بديلة :
أولا : الإكتفاء بالقمع الجزئي دون القمع الشامل والإقتصار فيه على الشخصيات القيادية التي لا تصلح معها الوسائل الأخرى المبينة فيما بعد ، ونفضل التخلص من هذه الشخصيات بطرق تبدوا طبيعية .
ثانيا : بالنسبـة للشخصيـات القيـادية التي نقـرر التخلـص منهـا ننصـح باتبـاع ما يلي :
أ - تعيين من يمكن إغراؤهم بالوظائف العليا ، حيث يتم شغلهم بالمشروعات الإسلاميـة الفارغـة المضمـون وغيرها من الأعمال التي تستنفذ نشاطهم ، وبذلك يتم إستهلاكهم محليا وفصلهم عن قواعدهم الجماهيرية .
ب - العمل على جذب ذوي الميول التجارية والإقتصادية للمساهمة في المشروعات المصرية - الإسرائيلية المشتركة ، المزمع إقامتها بعد الصلح .
ثالثا : بالنسبة للعناصر الإسلامية الفعالة في أوروبا وأمريكا نقترح :
أ - إستنفاذ جهدهم في طبع وإصدار الكتب الإسلامية مع إحباط نتائجها .
ب - بث بذور الشك والشقـاق بين قياداتهم لينشغلوا بها عن النشاط المثمر.)) .
وهكذا ، فإن الغرب أو العالم الكافر كله ، بوجهيه الرأسمالي والإشتراكي سابقا يخطط لضرب الصحوة الإسلامية ، ويعمل من أجل انحرافها بعد أن فوجىء بها ، بعد أن ظن أن الإسلام في بلاد المسلمين قد انتهى وإلى الأبد ، وأن المسلمين لن يعودوا إلى إسلامهم أبدا بعد أن أغراهم خلال قرنين من الزمن بالعلمانية والقومية ، وبعد أن ضرب من نفسه مثلا لهم ، حيث فصل الدين عن الحيــاة ، وكان هذا جهلا منه لطبيعة الإسلام ، إذ إن الإسلام ليس فيه طبقة كهنوت ولا رجال دين مختصة بفهمه ، وإنما كل مسلم مكلف بفهم الإسلام ، وكل مسلم يستطيع أن يفهم الإسلام ، وكل مسلم فرض عليه أن يحمل الإسلام .
هناك طبقة من علماء الإسلام تتعمق فيه ، وتستنبط من أحكامه ، وتستخرج الحلول لكل مشكلة تجد في الحياة من نصوصه وأحكامه . ولكن هؤلاء العلماء ليس لهم طقوس خاصة ولا ملابس خاصة ولا امتيازات خاصة ، إنما امتيازهم في فهمهم وبمقدار علمهم . والله أكرمهم في عدة آيات وأحاديث (قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون) [الزمر : 9] . (إنما يخشى الله من عباده العلمـاء) [فاطر : 28] ولذلك هؤلاء منارات الهدى يجب أن يعاملوا بالتكريم والتبجيل .
والنصرانية ليس عندها جواب لأي سؤال يتعلق بمشكلة الإنسان أو تنظيم الحياة ، أو العلاقة بين البشر ، وإنما هي طقوس أفرغت من معانيها تصادم العقل ولا تقبلها الفطرة ـ ولذلك إنحصرت الكنيسة في زوايا النسيان ، لا تعمل إلا في التبشير في بلاد المسلمين حتى ترجع الناس كفارا إن إستطاعت ، وتغذي أتباعها بالحقد على الإسلام نبي الإسلام ، حتى لا تقبل هذه الشعوب الذكية على دراسة الإسلام بنزاهة ، لأنها إن درسته وهي خالية من صور الحقد والتشويش والتحريف أقبلت عليه وأعتنقته ، ولكن رجال الكنيسة لا يريدون لأتباعهم الخير حتى يستمروا في أكل أموال الناس بالباطل ، وفي الضلال المبين .
الإسلام .. وهل يمكن فصله عن الحياة ؟
حــين إنخـدع بعــض مفكـري الأمـة بـبريـق الفلسـفـات الغربيـة المختلفــة من ( شيوعية ) و ( إشتراكية ) ورأسمالية ووجودية وماسونية وحين رأوا بعض القوميات تتوحد في أوروبا كألمانيا وإيطاليا في القرن الثامن عشر ، فانخدعوا بالقومية وظنوا أن أوروبا نهضت النهضة العلمية حينما أبعدت الدين عن الحياة ، كانوا لا يقرأون دينهم ، ولا يعرفون إسلامهم ، وإنما تربوا على مناهج في مدارس صنعها لهم أعداؤهم ، وفي الجامعات تتلمذوا على أيدي المستشرقين ، وكانوا يقرأون عن الثورة الإصلاحية في أوروبا التي ثارت حينما وقف رجال الدين والكهنوت في وجه التقدم العلمي ، وأعلنوها معركة بين العلم والدين ، وظن بعض شبابنا أن الدين الإسلامي هو نسخة أخرى من الدين النصراني المحرف ، مع أنهم لو قرأوا كيف أن الدين الإسلامي هو الذي أوجد أمتهم ، وقد خرجت به إلى الناس تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر وتؤمن بالله ، وأن كل مجد يفتخرون به هو من نتاج هذا الدين ، وأن كل قائد يعتزون به هو قائد لجند المسلمين ، وأن كل مفكر يشيرون إليه في تاريخ أمتهم هو مفكر إسلامي ، وأن هذا الدين إستطاع أن يزاوج بين الأجناس والألوان لأنه من الإله الخالق ، لا يتعارض مع العلم ولا يرفـض العلمــاء ، لأن العـالم الذي يكتشـف إنما يكتشـف سنة من سنن الله في كـونـه ، وكلما ازدادت معلومات الإنسان إكتشف الجديد من سنن الله ( سنريهم آياتنــا في الآفـاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهـم أنه الحـق ) [ فصلت : 53 ] ، وقوله ( وفي أنفسكم أفلا تبصرون ) [ الذاريات : 21 ] ، دعــوة للبحــث في تركيـب الجسم الإنساني الذي لا يزال القسم الأكـبر منه مجهــولا بالرغــم من التقــدم العلمي الذي وصل إليه الإنسان ( إن في خلق السمـوات والأرض واختلاف الليل والنهـار لآيات لأولي الألبــاب * الذين يذكرون الله قيـامـا وقعـودا وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السموات والأرض ربنا ما خلقت هذا باطلا سبحانك فقنـا عذاب النـار ) [ آل عمران : 190 -191 ] .
ولذلك لم تحدث معركة بين علماء المسلمين والعلماء التقنيين في أية مرحلة من مراحل مسيرة هذه الأمة ، ورغم أن القرآن الكريم ليس كتاب طب ولا فلك ولا غيرها من العلوم إلا أنه أشار إليها إشارة ليلفت نظر الإنسان إلى بعض مظاهر الكـون ، فإذا إكتشفها الإنسان وجدها كما أشارت إليها الآية .
فلقد توصل العلم الحديث مثلا إلى أن القمر كان مشتعلا كالشمس ، فأنطفأ ، وكانت الآية في سورة الإسراء قد أشارت إلى هذا يوم أن نزل القرآن على رسول الله (صلى الله عليه وسلم) (وجعلنا الليل والنهار آيتين فمحونا آية الليل وجعلنا آية النهار مبصرة لتبتغوا فضلا من ربكم ولتعلموا عدد السنين والحساب وكل شيء فصلناه تفصيلا) [الإسراء : 12] . قال إبن عباس - رضي الله عنهما - في تفسير هذه الآية : " كان القمر مشتعلا كالشمس فأنطفأ " .
ومثال آخر ( أو لم ير الذين كفروا أن السماوات والأرض كانتا رتقا ففتقناهما ) [ الأنبياء : 30 ] ، وقد توصل العلم الحديث إلى الحقيقة التي جاءت بها هذه الآية ، وهو أن الكون كان كتلة غازية فانفجرت فتكونت الأفلاك والسماوات والأرض بشكل منظم دقيـق . قال إبن عباس -رضي الله عنهما- :" كانتـا رتقـا ": كانتا متصلتين فأنفصلتا" .
فليس في العلم اليقيني ما يعارض الإسلام أو يمنعه الإسلام ، لأن العلم من خلق الله ، والكون من خلق الله ، فلما أفاق شباب الأمة على الحقيقة وأنهم تأخروا عن ركب الإنسانية يوم أن تركوا الإسلام ، وأن أمتهم إنحدرت من القمة إلى القاع يوم أن تركت الإسلام ، وأن الإسلام غير النصرانية وأن الإسلام وهو الذي يوجد فيهم روح التحدي ، بدأوا يعودون إليه زرافات ووحدانا ، وبدأوا يدرسونه ويتدارسونه ، مما أذهل عدوهم ، فبدأ يضع المخططات لتحويلهم عنه .
وهاهم يهــود الذين إغتصبوا الأرض المباركـة فأقاموا لهم فيها سلطة يزعمون أنها " دولة " وما هي بالدولة ، إذ أن مقومات الدولة ليست عندهم . فهم يعتمــدون في كل شيء على أمريكــا وأوروبا ، فحيـاتهم في يد غــيرهم ، وسلامهـم من عند غـيرهم ، والأمــوال والأسلحة تتـدفـق عليهم من عند غيرهم . . كل هذا يجعـل مقدراتهــم بأيــدي الناس الآخرين ( إلا بحبل من الله وحبل من الناس ) [ آل عمران : 112 ] . والحبل ممتد إلى واشنطن وإلى لندن وغيرها من دول الكفر ، ولا بد أن ينقطع الحبل عاجلا أم آجلا وتعود العداوة بين يهود والنصارى إلى سابق عهدها .
الإسلام يعود
وأخذ يهود يشعرون أن شباب الأمة قد بدأ ينظر إليهم نظرة حقيقية ، وأنهم ليسوا اداة في أيدي الإستعمار فقط ، وإنما هم - كذلك - كفار يقاتلوننا بكفرهم ويريدون استئصال إسلامنا وهدم مقدساتنا وتفريغ أمتنا من وجودها الحضاري لتصبح ألعوبة في أيديهم . وفجأة كانت هذه النظرة ، التي بدأت ترتعد لها فرائص أبطال ( كامب ديفيد ) من يهـود والنصارى ومن الذين والـوهم !! . فكيف حدث ذلك ؟ مع أنهم أنفقوا آلاف الملايين عبر العقود والسنين ، ليطمئنوا على كفر هذه الأمة وعدم عودتها إلى دينهـا !!! والجواب : قوله تعالى ( إن الذين كفروا ينفقـون أموالهم ليصدوا عن سبيل الله فسينفقونها ثم تكون عليهم حسرة ثم يغلبـون ) [الأنفال : 36] .
إن صفحة جديدة قد فتحت في تاريخ الإنسانية ، بدأت تكتب على أيدي هذا الشباب المتعلم المسلم الذي بدأ يرتاد المساجد ، ويلفظ أماكن اللهو ، يتدارس الـقرآن ، ويرفـض قصص اللـهو والجنس ، ويصوم في النهـار القائـظ تقربا إلى ربه ، ويعمل ليكون جنديا من جنود الإسلام ، بعد أن رأى الناس تتكالب على متع النصارى ويهود فهلكت الأمة على أيديهم والكفار وأعوانهم ينتزعون البقعة المباركة من أيديهم وتخرج المؤمنين من ديارهم ومن بيوتهم ومن مساجدهم بغير ذنب إلا أن يقولوا ربنا الله .
وكان كل ذلك في غيبة الإسلام عن الساحة وإبعاده عن المعركة ، حتى يتمكنوا من إقامة دولة يهود على الأرض التي سار في دروبها الأنبياء وسجد عليها الشهداء ، وارتفع من فوقها الآذان ، وصلى على ترابها المصلون ، وبكى في مساجدها المتضرعون . وما علم يهود أنهم جاءوا إلى هذه الأرض بقدرهم ، وأن الله ساقهم إليها لمصيرهم ( فإذا جاء وعد الآخرة ليسوءوا وجوهكم وليدخلوا المسجد كما دخلوه أول مرة وليتبروا ما علوا تتبيرا ) [ الإسراء : 7 ] . ويقول الرسول (صلى الله عليه وسلم) :"لا تقوم الساعة حتى يقاتل المسلمون يهود فيقتلهم المسلمون فيقول الحجر والشجر : يا مسلم يا عبدالله هذا يهودي ورائي تعال فاقتله إلا الغرقد فإنه من شجر يهود" .
وهذه الدلائل التي أشرنا إلينا ، تتمثل في ناحية إيجابية وأخرى سلبية ، أما الإيجابة فمظهرها في يقظة الشباب المسلم وعودته إلى المساجد وإلى الإسلام وإلى الكتب التي ألفها علماء المسلمين عبر التاريخ ، والتي تشرح علاج الإسلام لمختلف مشاكل الحياة ، وفي هذا التحرك الجماهيري الذي بدأ هنا وهناك في بلاد المسلمين ؛ في تركيا وفي مصر وفي بقية أنحاء العالم الإسلامي من الجزائر إلى أندونيسيا ، الذي سيستمر حتى يكون سيلا جارفا بإذن الله ، يذهب بالكيانات المصطنعة ، وبالأفكار المستوردة وبعادات الكفر التي قلدناها . . يذهب ذلك كله إلى مزبلة التاريخ لتعود أمتنا أمة واحدة ، الله ربها ومحمد نبيها والقرآن كتابها والكعبة قبلتها وشريعة الإسلام نظامها ودستورها .
أما الناحية السلبية - والتي تدل على الخير أيضا - فهي تتمثل في فشل الحركات القومية في بلاد المسلمين ، وفي فشل الأحزاب والدساتير والأفكار والمواثيق التي أرادوا لها أن تحل محل الإسلام ، ولكن هذا كله كان ينافي الفطرة الإسلامية ، والفطرة الإنسانية التي فطر الله الناس عليها . وحينما يأتي الله بالفتح أو ( أمر من عنده ) وتتكشف الحقائق فيذهل المؤمنون الذين كانوا يظنون في بعض القيادات خيرا ، ويرون في بعض الحكام أبطالا ، فيقول هؤلاء للمؤمنين وهم في ذهول (أهؤلاء الذين أقسموا بالله جهد أيمانهم إنهم لمعكم حبطت أعمالهم فأصبحوا خاسرين) [المائدة : 53] .
إن " الفئة القيادية " التي تريد أن تتصدى لتغيير المجتمع ، يجب أن يكون مثلها في ذلك رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وخلفاؤه الراشدون الذين استمروا على تقشفهم بعد أن فتح الله الدنيا عليهم ، فالترف يقتل في النفس حوافز التحدي ، لأن النفس بطبيعتها والجسم بطبيعته يخلد للـترف وينام في النعيم ولا يقبـل التحـدي ، لأن في قبـوله للتحدي ما قد يؤدي به إلى خسران الترف والنعيم ، وبما أن نفسه قد إعتـادت الـترف ، وجسمه قد إستكان إلى النعيم ، يصعب عليه أن يتخلى عنهما ، أما إذا بقي على تقشف وعاش في الحد الأدنى من المأكل والملبس ، فهو يقبل التحدي بسهولة لأنه في تحديه لا يخسر شيئا ، ولا تتغير عليه وسائل العيش وهو لم يقبل الترف ، وكما ورد عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فيما روته عائشة - رضي الله عنها - أنه كان يمر الشهر والشهران فلا يوقد في بيـوت أزواج النبي صـلى الله عليـه وسـلم النـار ، وإنمـا يعيشـون على الأسـودين ( الماء والتمر ) . فالنبي ( صلى الله عليه وسلم ) وخلفاؤه الراشدون عاشوا في الدنيا لا لينعمـوا بها ولكن ليصلحوها ويقوموا الناس على درب الحق وعلى الصراط المستقـيم .
وهذه الفئة القيادية من أحباب الله لا تغتر بقوتها ، ولا بقدرتها العقلية والفكرية ، وإنما هي تعيش مع القرآن تتلوه ، متعبدة به ، وهي تقوم في جوف الليل تبكي متضرعة إلى ربها أن يمدها بقوة من عنده ، وفيما بين الليل والنهار لا تفتر عن الذكر ( يا أيها المزمل * قم الليل إلا قليلا * نصفه أو انقص منه قليلا * أو زد عليه ورتل القرآن ترتيلا * إنا سنلقي عليك قولا ثقيلا * إن ناشئة الليل هي أشد وطئا وأقوم قيلا * إن لك في النهار سبحا طويلا * وأذكر اسم ربك وتبتل إليه تبتيلا ) [المزمل : 1-8] .
وكان قيام الليل فرضا على النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وعلى أصحابه ، ولكن أصحابه لا يطيقون ما يطيق ، ولا يقدرون على ما يقدر ، فخفف الله عليهم قيام الليل ، فلم يعد قيام الليل فرضا ، وإنما استعيض عن ذلك بتلاوة القرآن ( إن ربك يعلم أنك تقــوم أدنى من ثلثي الليل ونصفه وثلثه وطائفــة من الذين معك والله يقدر الليل والنهار علم أن لن تحصوه فتاب عليكم فأقرأوا ما تيسر من الـقرآن ) [ المزمل : 20 ] .
وهكذا النفس المؤمنة تكون قريبة من الله . إن النفس التي تتحمل عبء التغيير ومقارعة الأحداث ومصادمة الظلم ومطاردة الظلام ، لا بد لها من غذاء مادي وروحي .. غذاء مادي :"حسب ابن آدم لقيمات يقمن صلبه" كما ورد في الحديث ، وغـذاء روحـي بدوام الصـلة مع الله كمـا رود في حديـث رسول الله (صلى الله عليه وسلم) :"أنا مع عبدي ما ذكرني وتحركت بي شفتاه " . وهكذا يعين الله أحبابه فلا يكلهم إلى نفوسهم ، ولا يتخلى عنهم ما داموا معه صادقين ، وعلى الحق قائمين .
وهذه الفئة التي إختارها الله أو سيختارها من أحبابه ينتقيها هو فتبرز فجأة قد صفت نفوسها ، وتعلق قلبها بربها ، حينما يراها الناس يتعجبون من أمرها : كيف إختارها الله ؟ ولم وقع عليها الإختيار ؟ فيجيب الله المتسائلين (ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله واسع عليم) [المائدة : 54] ، فالله حر الإختيار ، محيط بنفوس خلقه ، عليم بخفاياهم (ولقد خلقنا الإنسان ونعلم ما توسوس به نفسه ونحن أقرب إليه من حبل الوريد) [ق : 16] ، فهو يختارها وهو يعلم خبايا نفوسها وحديث قلوبها ومقدرتها على تحمل العبء واستعدادها للقيادة .
ثم تمضي الآيات لتبين للمؤمن من يوالي في الدنيا ، فيكون ارتباطه به لا ينفك عنه بعد أن بينت الآيات أنه لا تجوز موالاة يهود والنصارى ، لأنهم يتآمرون على هذا الدين ، ولا يؤمنون بالله رب العالمين إيمانا صحيحا ، ولا يؤمنون برسوله محمد (صلى الله عليه وسلم) الأمين وهو خاتم النبيين وآخر المرسلين ، فتقول الآيات : يجب أن يكون ولاؤنا معشر المؤمنين لله (إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون) [المائدة : 55] . والولاء لله يقتضي الطاعة المطلقة ، والعبودية الحقة ، وأن توحد فيه الألوهية ، وأن توحيد الربوبية ، وتوحيد الألوهية ألا يشرك مع الله أحدا في العبادة ، فلا يعبد إلا الله ، ولا يسجد إلا لله ، ولا يستعين إلا بالله ، ولا يستغيث إلا بالله ، فإذا صفت في نفسه العقيدة ، فتعلق قلبه بالله ، اتبع أوامره واجتنب نواهيه في كل شؤونه . وتوحد الربوبية هو الإعتقاد بأن الله هو النافع وهو الضار وهو الرازق وهو المحيي وهو المميت ..
فلذلك فالولاء لله يقتضي نبذ الشرك ، فلا يشرك مع الله إله آخر من بشر أو شجر أو أفلاك أو زعيم أو فكر أو علم أو حزب من هذه الآلهة المتعددة التي عبدها الناس من دون الله ، وكذلك لا يعبد المال كما قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) :"تعس عبد الدينار ، تعس عبد الدرهم ، تعس عبد القطيفة" .
وبعد أن نوالي الله جلت قدرته نوالي رسوله ، فنتبع ما أمر به ونبتعد عما نهى عنه ، ونقتدي به في حياته وسلوكه ، وولاء الرسول هو من الولاء لله . يقول الله تعالى (قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله) [آل عمران : 31] ، ولذلك فإن الدعوة الكافرة المشبوهة التي قال بها بعض ممن يزعمون الإسلام ونادوا باعتبار القرآن فقط ، و عدم الإعتراف بالسنة النبوية ، وهم يظنون أنهم قد أتوا بجديد ، وهم لا يعلمون أنهم يسيرون على درب قوم سبقوهم بالضلال فنادوا بالقرآن فقط ، وأنهم لا يعترفون بالسنة .. هي دعوى يراد بها هدم الإسلام من أساسه بإنكار السنة أولا تمهيدا لإنكار القرآن فيما بعد .. والسنة هي وحي (وما ينطق عن الهوى * إن هو إلا وحي يوحى) [النجم : 3-4] . ولذلك فيما يتعلق بالتشريع كان النبي ( صلى الله عليه وسلم ) لا يقره ربه على خطئه ، وإن كان هو سيد البشر ، فقد كان يصيبه ما يصيب البشر من الغضب أو الحزن أو الهم ، فيتخذ قرارا لا يقره ربه عليه . فهو ( صلى الله عليه وسلم ) حينما رأى عمه حمزة وقد مثل به المشركون وبقروا بطنه ولاكوا كبده ، غضب لمنظر عمه ، وحـزن على عمـه وهـو الفـارس المقـدام (أسـد الله) وأسد رسوله ، دافـع عن النبي (صلى الله عليه وسلم ) وعن الإسلام ، فكان طبيعيـا أن يغضب لمنظـر عمـه ، وأن يغضب للتمثيل به وهو سيد الشهداء ، فقال :"والله لئن أظهرني الله عليهـم -يعني المشركـين أو قريـش- لأمثلـن بهـم مثلـة لم تعرفهـا العرب قـط " ، فنزل عليه قول ربه مؤدبا له (وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به ولئن صـبرتم لـهو خـير للصابرين * وأصـبر وما صـبرك إلا بالله ولا تحـزن عليهم ولا تك في ضـيق مما يمكـرون * إن الله مع الذين إتقوا والذين هم محسنون) [النحل : 126-128] . فيصعد النبي ( صلى الله عليه وسلم ) المنبر ويقول :"كنت قلت لكم كذا وكذا ، وقد أنزل الله علي هذه الآية" .. ثم تلاها وأعلن للناس أنه سيصبر .
وليس هنــاك علم من العلوم في تاريخ الإنسانيـة كلها تعب عليه أهله في جمعه وتمحيصه وبيان صحيحه من المكذوب على رسول الله ، والقوي من الضعيـف كعلم الحديـث عند المسلمـين حتى تفرع "علم الحديث" إلى عدة علـوم : "علم الحديث" في حد ذاته ، و"علم الرجال" ، و "علم الجرح والتعديل" ، ووضعت شروط قاسية لأخــذ الحديـث ، وألفــت كتـب كثـيرة في جمعـه ، أشـهرها الكتب الستـة المعروفـة ، والله سبحانه وتعالى يقول آمرا المؤمنين (وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فأنتهوا) [الحشر : 7] . ويقول (لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة) [الأحزاب : 21] . إذن أحباب الله هم الذين يؤمنـون بالله وما أنـزل من كتب ، وما أرسل من رسـل (قولــوا آمنــا باللـه وما أنزل إلينـا وما أنزل إلى إبراهـيم وإسماعيل وإسـحق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى وما أوتي النبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمـون) [البقرة : 136] .
ولذلك أي إنسان يكفر بالله ورسوله وبالإسلام فيعتنق مبدأ غير الإسلام أو لا يؤمن بصلاحية الإسلام لتنظيم الحياة ، أو يعتقد أن الإسلام يجب أن يحصر في العبادات وليس له دخل في السياسة ولا في القيادة ولا تنظيم علاقات الناس المختلفة فقد كفر . ويجب أن نقطع العلاقة معه إلا أننا يجب أن ندعوه بالحسنى إن كان من أهل الكتاب ، وإن كان أصله مسلما فقد ارتد ، والمرتد معروف حكمه في الإسلام وهو القتل بعد مناقشته واستتابته ثلاثة أيام .
ولقد خرج علينا المضبوعون بالثقافة الغربية من الحكام عملاء الغرب الدعوة إلى "توحيد المؤمنين بالله" من أصحاب الأديان المختلفة حتى يكونوا جبهة واحدة أمام الإتحاد السوفياتي الشيوعي السابق ، وهؤلاء لا يتورعون أن يقولوا عن يهود أنهم مؤمنون ، وعن النصارى أنهم مؤمنون ، مع أن الإيمان في الإسلام هو الإيمـان بالله وبملائكته وكتبـه ورسله واليـوم الآخر والقضـاء والقـدر خيره وشره من الله تعالى . ويهـود والنصارى غـير "مؤمنين" إيمانا صحيحـا في نظر الإسـلام لأنهم لا يؤمنـون بنبوة محمد (صلى الله عليه وسلم) ، ولا يؤمنون بالوحدانية ، فالنصـارى تقول إن المسيح إبن الله ، وهم في نظر الإسلام يجب أن يعتنقوا الإسـلام إن أرادوا أن يكونـوا في عـداد المؤمنين الناجـين .. نعم نحن لا نكرههـم على تـرك دينهـم (لا إكـراه في الدين قـد تبين الرشـد من الـغي فمـن يكـفر بالطاغـوت ويؤمـن باللـه فـقد استمسـك بالعـروة الوثـقى لا إنفصـام لهـا والله سميع عليم) [البقرة : 256] . (إن الذين يكفـرون بالله ورسـله ويريدون أن يفرقوا بـين الله ورسله ويقولـون نؤمـن ببعض ونكفر ببعض ويريدون أن يتخذوا بـين ذلـك سبيلا * أولئـك هم الكافـرون حقا وأعتـدنا للكافرين عـذابا مهينا) [النساء :150-151] . لذا لا يجب أن لا نداهن أحدا من غير المسلمين أو نكذب عليه وعلى الله وعلى أنفسنا فنقول عنه إنه "مؤمن" مجاملة من أجل دنيا أو مصلحة أو رزق (أفبهذا الحديث أنتم مدهنون * وتجعلون رزقكم أنكم تكذبون) [الواقعة : 81-82] .. والنتيجة الحتمية لمن يتولى الله ورسوله والذين آمنوا أنه يصبح من حزب الله ، ويترك حزب الشيطان لأن المؤمنين بعضهم أولياء بعض ، يسعى بذمتهم أدناهم ، وهم يد على من سواهم كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى . والكفار بعضهم أولياء بعض ، مهما تنوعت أسماؤهم ، ومهما كان جنسهم ، ومهما كانت لغتهم ، ومهما كان موطنهم .
هل انتصر اليهود في حروبهم مع المسلمين
في هذا العصر ؟
منذ أن قامت دولة يهود بحبل من النصارى ، وبعون من الحكام العرب الموالين لهم . لم تدخل الأمة معهم في معركة حقيقة ، وإنما كانت المعارك في مجموعها أقرب إلى التمثيل وتنفيذ المخططات . . ففي عام 1948م - عام النكبة الأولى - لم يكن يهود يملكون جيشا بمعنى الجيش في فلسطين ، ولا سلاحا فتاكا ، ولا دبابات ، ولا طائرات ، وإنما كانوا يملكون بعض المصفحات والمدافع الصغيرة والرشاشات ، ولذلك لم يستطيعوا أن يهزموا أهل البلاد . وكان أهل البلاد منتصرين عليهم حتى دخلت الجيوش العربية ـ وكان عددها في ذلك الحين سبعة جيوش - لا أكثر الله من عددهم لأنهم علامة الفرقة - فتغير الموقف ، وبدأت المعارك ، فلما كاد أن يقضى على دولة يهود ، وهي وليدة ، أعلنت الهدنة الأولى ، فقبلها حكام الهزيمة ، هزيمة عام 1948م .
وتواردت الأسلحة على يهود خصوصا من الدول الإشتراكية وعلى رأسها من تشيكوسلوفاكيا السابقة ، التي عاقبها الله الآن فمزقها إلى دولتين ( دولة تشيكا ودولة سلوفاكيا ) . وبدأت الجيوش تتقهقر ، فلما وقعت حكومة مصر في ذلك الحين الهدنة كان قد ذهب ثلثا فلسطين - الأرض المباركة - وبقي الثلث .
وفي عام 1967م خطط لمؤامرة ضخمة وهزيمة بشعة ، فأستولى يهود على باقي فلسطين ، وعلى سيناء وعلى الجولان في مهزلة تاريخية تعرف باسم " حرب الأيام الستة " حيث سلمت الأرض بلا قتال إلا ما كان من بعض الضباط والجند حيث قاتلوا بعقيدتهم وأستشهدوا صارخين إلى ربهم تخاذل وخيانة حكامهم . وكان من ضمن التمثيلية أن يبرز موشي ديان كقائد أسطوري - وكان وزير دفاع يهود - حيث تصورت الدنيا المضللة أن ديان بعبقريته العسكرية وجيشه الذي لا ( يقهر ) ، قد هزم الجيوش العربيــة مجتمعـة ، جيوش الثوريين الحاقدين على الله ، وجيوش الرجعيين الكاذبين على الله .
والواقع أن ديان لم ينتصر في ا لحرب ، والجيوش العربية لم تهزم في الحرب ، وإنما هي تمثيلية مثلت أسند فيها إلى ديان دور البطل ، وذهب ديان في الدنيا التي لا تعرف الحقيقة مثلا للقائد الذي لا يهزم ، وضاعت الحقيقة وسط الوحل السياسي ونفــاق الكتــاب وكذب الصحفيين الذين أخذوا يبحثــون عن أسباب (هزيمة أمتنا) -وهي غير مهزومة- وكانوا ينافقون صناع الهزيمة من الحكام حتى يثبتوهم على كراسيهم . والواقـع أن ديان لا يمكن أن يصبح قائدا تاريخيـا يمـد أجيـال يهـود بالمـدد المعنـوي ، لأن هذا يتنـافى مع الذلة التي فرضهـا الله على يهـود إلى قيــام الساعـة (ضربت عليهم الذلة والمسكنـة وباءوا بغضب من الله) [البقرة : 61] . (وإذ تأذن ربك ليبعثن عليهم إلى يوم القيامة من يسومهم سوء العذاب) [الأعراف : 167] .
فنحن - المسلمون - لا نزال نأخذ مددا معنويا من قادتنا التاريخيين . . نعتز ببطولة محمد رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ، وأبي بكر الصديق ، وعمر بن الخطاب ، وحمزة بن عبد المطلب ، وعلي بن أبي طالب ، وخالد بن الوليد ، وسعد بن أبي وقاص ، وأبي عبيدة ، ومحمد الفاتح ، وصلاح الدين ، وقطز ، ونفتخر بالأبطال الذين اقتحموا ساحل فلسطين فقتلوا عدوهم على أرضهم ، والذين إحتلوا فندق ( سافوي ) في تل أبيب ، وبكل بطل يسير على درب البطولة يقتل عدوه ويدمر كيانه .
وديان نفسه كان يعرف الحقيقة أنه ليس بطلا ، والخاصة من حوله من قادة يهود يعرفون الحقيقة أيضا أنه لم ينتصر ، وأهل البلاد المحتلة يعرفون الحقيقة أيضا ، كيف رأوا الجيوش العربية تولي الأدبار في عملية تسليم وتسلم ؟! وإلا فأي عاقل يعقل أو أي إنسان يصدق أن مليونين من البشر ( الأذلاء ) يهزمون مئة وخمسين مليون أو أكثر في ساعة من الزمن !!! .
ولو قدر لديان أن يموت أو يقتل عقب سنة 1967م لبقي أسطورة تمد يهود بالمدد المعنوي ، ولكن الله جلت قدرته أبى عليه الموت أو القتل حتى لا يستمر أسـطورة في تاريخ يهـود ، فيبقى إلى عام 1973م ، فخـاض جند المسلمين معركة ( وهي وإن كانت مخطط لها أن تصل إلى ما وصلت إليه ) ، ولكنها كانت معركة لم يكن يعرف الجند فيها أنها مؤامرة ، أذاقت يهود الأمرين لأن شعار المسلمين الخالد ( الله أكبر ) دخل فيها وبدأت أجهزة الإعلام تتكلم عن الشهادة والإستشهاد والجنة وما أعد فيها من نعيم ، وبدأ الذعر يدب في يهود ، وانهارت أعصاب ديان ( البطل الأسطوري ) ، واتصل ديان في اليوم الرابع من المعركة برئيسة وزراء العدو ( غولدا مائير ) يخبرها أن البيت الثالث ( يعني الهيكل الثالث ) بدأ ينهدم . وانكشف القناع عن وجه ديان ، وأنه لم يكن قائدا عبقريا حتى ولا في مستوى القادة العاديين ، وسقطت أسطورة ( البطولة ) عنه ، عند قومه أولا وهذا هو المهم ، حتى لا يبقى أسطورة عندهم ، وأتهموه بالخيانة ، وأتهموه بالتقصير ، وطرد من منصبه ، ولولا أنه من الفئة الحاكمة في دولة يهود لقدم إلى المحكمة بتهمة التخاذل والتقصير .
ويهود ممنوعون من النصر على المسلمين وعـلى غــير المسلمين بنـص القرآن لأن الله يقول (ضـربت عليهم الذلة والمسكنة وباءوا بغضب من الله) [البقرة : 61] ، والذليل والمسكين لا ينتصر ، لأنه مكسور القلب ، فاقد الهمة ، والله يقول (وإذ تأذن ربك ليبعثن عليهم إلى يوم القيامة من يسومهم سوء العذاب) [الأعراف : 167] .. والمفروض عليه العذاب إلى يوم القيامة من الله لا ينتصر . وأما الآية القطعية في عدم نصر يهود ففي سورة آل عمران (لن يضروكم إلا أذى وإن يقاتلوكم يولوكم الأدبار ثم لا ينصرون) [آل عمران : 111] ، فهم يدمرون ويرهبون ، ولكنهم لا ينصرون ، ولقد جاءت معركة بيروت الأخيرة عام 1982م لتكشف حكمة قرآنية مذهلة ، فبالرغم من أن يهود حشدوا كل جيشهم في المعركة مع أسلحة أمريكا والغرب ، إلا أنهم لم يستطيعوا أن يدخلوا بيروت خلال ثمانين يوما من القصف والحصار . وبذلك عرف الناس أن الجيوش العربية لم تحارب منذ عام 1948م ، وأن فلسطين وسيناء والجولان سلمت تسليما .
ولو أن الحكام الذين والوا يهود والنصارى لم يوقفوا تقدم الجيوش ولم يمنعوها أن تقتحم أرض سيناء وأرض فلسطين لأنتهت دولة يهود ، وبان أن المقصود من المعركة هي خطة لتحريك القضية بدأت بالزيارة الملعونة المشؤومة التي قام بها حاكم مصر (السادات) إلى القدس ، وإنتهت في ليلة مشؤومة أخرى بتوقيعه على وثيقة الإستسلام بتاريخ (26/مارس/1979م) .
والسادات بمعاهدته هذه ظن أن يهود سيعطونه سيادة كامله على سيناء بعد أن قدم لهم الأرض المباركة كلها والقدس والأقصى رشوة ، ولكنه كان مخدوعا فالله أصدق منه حين يقول (أم لهم نصيب من الملك فإذا لا يؤتون الناس نقيرا) [النساء : 53] .. فسينقض عهده معهم أو عهدهم معه فريق آخر يأتي للحكم ، وإن نقض يهود للعهود هو من أسباب لعنة الله عليهم (فبما نقضهم ميثاقهم لعناهم وجعلنا قلوبهم قاسية) [المائدة : 13] ، ولذلك فلن يتورعوا في احتلال سيناء مرة اخرى وبسهولة لأنها منزوعة السلاح حسب الاتفاق أو المعاهدة .
ولذلك ليس هناك مجال لمعاهدة أو صلح أو تعايش مع يهود إلا أن يعيشوا في ظل دولتنا ، فالأمر أعمق وأخطر وأكبر مما يتصوره الجهلة من الحكام والساسة وأصحاب النظريات المنهارة من الماسونيين يمينا إلى (الشيوعيين) يسارا ، وما بينهما من دعاة القومية ومهازيل السياسة العالمية الذين يظنون أنهم يخدمون أمتهم وما رأت أمتهم على أيديهم إلا البوار والهلاك . وستمضي أمتنا في طريقها إلى النصر رغم كل الخيانات لأنها بدأت تعود إلى اسلامها ، وبدأ اسلامها يعود إليها، وبدأ التكبير (الله أكبر) يتجاوب صداه على إمتداد العالم الإسلامي كله ، وبدأت أمتنا تشعر برياح العز ونفحات الإيمان وانبثاق فجر النصر بعد ظلام الهزيمة الدامس ، وفرقة القومية المظلمة ، وسيطر الكفر الذي ظن أنه قتل فينا كل روح للمقـاومـة . وفجأة ، فإذا العمـلاق يتململ ، وإذا النـور يشع ، وإذا كل شيء يتغير ، وتبدأ من فلسطين في إنتفاضتها الإسلامية ، وفي الجزائر بتيارها الإسلامي الجارف بقيادة (جبهة الإنقاذ الإسلامية) والتي تسعى بكل قوة وثبات لإعادة خلافة الإسلام الراشدة .. وهكذا في بقية العالم العربي والإسلامي بدأ ينتشر الضياء ويولي الظلام في معركة شرسة حيث يدافع الشيطان عن مواقعه وحكام التجزئة عن مغانمهم ومكاسبهم .