النقد الأدبي العربي القديم
**********
(الحلقة الثانية)
(...ولا بد أن ينقضي العصر الجاهلي وشطر كبير من العصر الإسلامي حتى نجد في النقد الروح العلمية النزيهة، التي خلصت من العصبية ومن الأهواء، والتي لا تعمد في النقد إلا إلى الفن.
هذه الروح نجدها عند كثير من متقدمي النحويين واللغويين، فأما قبل ذلك، فقد يخلص النقد من الهوى، ولكن روحه تظل متأثرة بالنزاعات العربية في التمدح، والثناء، والذم...
كذلك نلحظ في هذا النقد أنه قائم على الإحساس بأثر الشعر في النفس، وعلى مقدار وقع الكلام عند الناقد، فالحكم مرتبط بهذا الإحساس قوة وضعفا، والعربي يحس أثر الشعر إحساسا فطريا لا تعقيد فيه، ويتذوقه جبلة وطبعا، وعماده في الحكم على ذوقه وعلى سليقته، فهما اللذان يهديانه إلى الجيد من فنونه القول، وإلى المبرز من الشعراء، ليس لديه غير طبعه وذوقه.
على أي أساس كانت تقبل قريش ما تقبل، وترد ما ترد؟
...أحكام لا تقوم على تفسير أو تعليل، ولا تستند على قواعد مقررة، وليس لها من دعامة إلا الذوق العربي المحض، فالنابغة كان يعتمد في أحكامه على ذوقه الأدبي دون أن يذكر الأسباب...
ملكة النقد عند الجاهليين هو الذوق الفني المحض، فأما الفكر وما ينبعث عنه من التحليل والإستنباط، فذلك شيء غير موجود عندهم، وبعيد كل البعد عن الروح الجاهلي، وعن طبيعة العصر الجاهلي...
وجد النقد الأدبي في الجاهلية، ولكنه وجد هينا يسيرا، ملائما لروح العصر، ملائما للشعر العربي نفسه، فالشعر الجاهلي إحساس محض أو يكاد، والنقد كذلك، كلاهما قائم على الانفعال والتأثر، فالشاعر مهتاج بما حوله من الأشياء والحوادث، والناقد مهتاج بوقع الكلام في نفسه، وكل نقد في نشأته لا بد أن يكون قائما على الانفعال بأثر الكلام المنقود، والنقد العربي لا يشذ عن تلك القاعدة، بل هو من أصدق الأمثلة لها، فالعربي حساس رقيق الحس، تنال الكلم من نفسه، ويهتاج لها اهتياجا، فإذا حكم على الأدب، حكم عليه تبعا لتأثره به، وبمقدار ذلك التأثر...
فما كان النقد الجاهلي أكثر من مآخذ يفطن إليها الشعراء في الشعر، وما كان أكثر من ملحوظات يلحظها بعضهم على بعض، وما كان له من أصل إلا سليقتهم وما طبعوا عليه.
كذلك كان النقد قريبا من بعض الأغراض الشعرية في الروح، فهو كالهجاء حين يعيب، وكالمديح حين يثني، ثم هو بعد ذلك كله عربي النشأة كالشعر لم يتأثر بمؤثرات أجنبية، ولم يقم إلا على الذوق العربي السليم.
المصدر:(تاريخ النقد الأدبي عند العرب..من العصر الجاهلي إلى القرن الرابع الهجري)/ طه أحمد إبراهيم- دار الحكمة، بيروت-لبنان، الصفحات: 17-18-24-25.
د. أبو شامة المغربي
kalimates@maktoob.com