قطرة في واد
المدينة واسعة و كبيرة ، تعج بأخلاط عديدة من البشر، و المئات يروحون و يجيئون . و الحافلات تغص بالراكبين و الراكبات . على اختلاف أهدافهم .. و الأصوات تعلو .. و المتسولون على جانبي الطريق ... و هو لاه عن كل ذلك ...
كان ذو الجسد النحيل ، يجلس في المقهى التي اعتاد ارتيادها..جسم بالكاد يملأ نصف الكرسي البلاستيكي . عينان تائهتان في الهواء . شارب فضي ستا ليني يشكو الإهمال . معطف يكاد يفقد لونه الأصلي .. ورثه عن أخيه ... كان دخان السجائر يتصاعد من بين يديه و من خلفه كالبراكين الصغيرة ... أخد نفسا طويلا من سيجارته الشقراء ثم نفث نفثة طويلة . خيل إليه أنه أودعها كل أحزانه ... كم من تعيس يعيش في هدا العالم الواسع ؟؟ ... أمسك فنجال القهوة الواقف قبالته بيد متشنجة ، و بجرعة واحدة ، رمى ثمالته في فيه ... هب واقفا . التفت ذات اليمين و ذات الشمال ، ثم انصرف ، تاركا الحساب على الطاولة ...
البرد قارس ، رغم المعطف الذي يدفئ جسمه ... الجو ينبأ بالمطر لا محالة .. و الضباب بدأ يغلف كل المعالم ، يخفي الشحوب الذي صبغ وجهه ... ترك خطواته تخيط الدروب و الأزقة الملتوية... أكان لا بد أن يولد فقيرا ؟؟ تحسس جيبه .. دراهم معدودة ، تلك التي لا زالت تسكنه ... لقد ودع راتب هذا الشهر بين جذران المستشفى ، فقد تبخر بين مصاريف علاج أمه ، المصابة بسرطان الثدي ، و زوجته الحامل، التي تشكو هي الأخرى من بعض الآلام .. ناهيك عن الديون التي تطارده كالكلاب المسعورة... أما البقال ، فقد اعتاد إرسال ميساجاته اللاذعة إليه ، كلما سنحت له فرصة ذلك .. تلك الكلمات التي لا يحس بوقعها إلا هو ... تذكر ابنه الوحيد الذي ينتظره الآن في المنزل ، أو بالأحرى ، ينتظر ما يسد به رمقه .. أما هو ، فلا يهم ..حتى أنه لم يعد يأبه بمظهره ، الذي أصبح يوحي بالبؤس ، و يثير الشفقة .. و فيم يفيد مظهره " المحترم " في هذه الظروف الخانقة ؟؟ و أمه المسكينة ، تكابد ويلات المرض و الإهمال داخل المستشفى ، بل المستنقع ... آه!تلك المرأة الأصيلة ، التي عاشت لا تعرف كللا و لا مللا ، طوال حياتها البسيطة .. ها هي الآن تنهشها المنايا ، كالذئاب الضارية ، و ليس هذا فحسب ، بل الأبشع من ذلك ، أن يجد نفسه عاجزا حيال هذا الوضع .. رغم حبه الشديد لها ... كادت عبرة أن تطفر من عينيه الغائرتين حين تذكر:" إلى متى ستظل تنفق نصف راتبك علي ، و أنا موقنة بقرب أجلي ؟؟ إن النهاية آتية لا ريب فيها .. و زوجتك ، كيف حالها ؟ لشد ما أنا مشتاقة لرؤيا ها ! لكن قواي لا تطاوعني ... " قالتها المسكينة بصوت واهن ، يبعث على اليأس و الشجن ، بل ينذر بدنو لحظة الفراق ... حاولت تغيير نبرة صوتها ، حين حركت أصبعها قائلة : " حذار أن تغضبها ، فأنا أعرفك جيدا ، إنها طريحة الفراش .. وابنك عادل ؟ هل اشتريت له بذلة جديدة ، بدل تلك الممزقة ، التي أصبح يخجل من الظهور بها أمام زملائه ؟؟ أخشى أن أموت دون أن أراه ... " غلبه البكاء .. كان يريد أن يقول لها : "لا ، ستعيشين يا أماه عمرا مديدا .. و ستعود لك صحتك ... " لكنه كان موقنا ، في قرار نفسه ، أن مثل هذا الكلام ، لا يخضع لمنطق الواقع ، بل فقط تقتضيه المشاعر .. كما أن الموقف ، كان رهيبا .. ولحظات الحسرة أخرست لسانه ...عندئذ ، لم يملك إلا أن طبع قبلة مبللة بدموعه ، على جبينها ، الذي رسمت السنون على صفحته ، خطوطا كالأخاديد ... اختلطت دموعهما .. أجل ، أقسمت الأيام أن تبكيك و أنت كبير ... حتى مدير المعمل أصبح يهدده كل صباح بطرده ، لكثرة تأخرا ته هذه الأيام ... انه لا يدري أنه يقضي الليل جله ، متنقلا بين سريري أمه و زوجته ، تاركا ابنه أحيانا عند الجيران ... عشرات الخواطر السوداء ، تكاد تفجر أسلاك ذهنه.. أصحيح أن التفاؤل ، في ظل هذه الظروف ، استحال ضربا من العبث ؟؟ قهقه شيطانه ساخرا : " وهل في جعبتك أشياء تبعث على الأمل ، حتى تفكر فيها ؟؟ "
اقترب من ترمينيس الحافلات .. رائحة أدخنتها تدمع الأعين ، و تزكم الأنوف .. أطفال يطوفون بين الحافلات ، وهم يحملون علب السجائر و بعض الحلوى الرخيصة .. و إن شاءت الصدفة – لا قدر الله – وتقاطعت نظراتك بنظرات أحدهم ، ستجده آنئذ يقصدك – و المقصود الله– جريا ، و قد انتقى علبة من العلب التي يحملها ، و هو يقول :
- " كلينيكس ؟ شوف أخويا آش خاصك ... "
أجابه في نقسه :
- " خاتم أ مولاي ! ! "
ما كاد يتجه نحو باب الحافلة ، الذي شارف على الإغلاق ، حتى دهمه صوت مألوف من الخلف :
- " سي عبد الحميد ! "
التفت جهة الصوت .. من ؟ صديقه الحميم و زميله في العمل ، خالد ! ! .. لم يره منذ يومين ، غابها عن المعمل ، هذه فرصته ليعرف كيف تسير الأمور هناك ... فتح ذراعيه فتعانق الرجلان بشوق حتى تطلعت إليهما أنظار القريبين و حاكى عناقهما غلامان عابثان . لكن خالد لم تظهر عليه آثار الانبساط كما عهد فيه . و بعد أن تبودلت التحايا ، سأله عبد الحميد بلهفة :
- " ما لي أراك متجهما ؟؟ هل حصل مكروه ؟؟ "
و بملامح يعلوها الأسف أجابه خالد :
- " لقد كلفني المدير الملعون .. أن أنقل إليك .. خبر إقالتك من المعمل . "
دارت الأرض بعبد الحميد .. ماذا ؟؟ لعل مخاطبه يخرف أو يمزح .. لكن ، هذا ليس وقت العبث .. مستحيل ! ! إن معنى ذلك أنه سيخرج للتسول بين الطرقات .. كيف سيؤوي أسرته ؟؟ .. لا ، غير معقول ! ! .. لا بد أنه يحلم !...
لم يفق من شروده إلا برنين هاتفه . و دون وعي ، ضغط على زره الأخضر ، و قد ألصقه بإحدى أذنيه :
- " ألو ، من ؟؟ "
- " عبد الحميد الراشدي ؟ "
- " أجل ، من المخاطب ؟؟ "
- " البقية في حياتك .. أمك في ذمة الله .. تعال إلى المستشفى حالا ل... "
سقط الهاتف من يده دون وعي ...
لم تصله كلمات صديقه و هو يشده متسائلا في دهشة :
- " عبد الحميد ! أخبرني ، ماذا هناك ؟؟ "
صوت سائق الحافلة يعلو و هو ينهره صائحا :
- " أفسح الطريق يا حيوان !