أدب السيرة الذاتية الإسلامية الحديثة وموضوعة الأحلام والرؤى المنامية
إذا كان النوم يستغرق حوالي ثلث حياة الإنسان، فإن الأحلام والرؤى المنامية لها حيز تشغله في هذا الثلث، بحيث أن ذهن الإنسان النائم لا يكون في حالة سكون تام، فقد تثير المنبهات الخارجية أو العضوية الداخلية ألوانا من الصور الذهنية يراها النائم، وقد تنطوي على معان ذات دلالات، وإذا كان من الأحلام المنامية ما له صلة بمجريات النهار، وبما يرد على الذهن من الخواطر والأفكار في حال اليقظة، فإن منها ما له علاقة بما عاشه الإنسان من أحداث وخاصة من تجارب في حياته الماضية، وخاصة ما يكتسي منها سمة الانفعال والصدمة.
إننا لا نستثني من المكونات الكبرى لأدب السيرة الذاتية الإسلامية الحديثة (الأحلام والرؤى المنامية)، ذلك لأننا نعتبرها بحق مكونا مثيرا ونشيطا، سواء بشكل صريح أم ضمني، ليس فقط في هذا اللون من الأدب الإسلامي أو في أدب السيرة الذاتية عموما؛ بل حتى في باقي الأجناس الأدبية وفي مختلف ألوان التعبير النثرية والشعرية، ولو أنه نادرا ما يحتفل به الكتاب المبدعون، وقل ما يلتفت إليه نقاد الأدب، حتى أن أي كاتب ـ حسب علمي ـ من المتقدمين أو المحدثين في حدود العالم العربي الإسلامي، وربما حتى في البلاد الغربية، لم يبادر إلى تأليف كتاب يسرد فيه أحلامه ورؤاه المنامية مجردة أو مصوغة بأسلوب أدبي معين.
ثم إن هذا الباب من الكتابة جدير بأن يلجه المبدعون، ويهتم به الباحثون والنقاد، خاصة وأن الأحلام والرؤى المنامية ما هي إلا امتداد لنشاط ذهن الإنسان، فهي مادة بإمكانها ـ إن تم توظيفها الجيد ـ أن تكون فتحا جديدا في الخطاب الأدبي، ومن شأنها أن تكون سببا في ميلاد شكل أدبي حديث ونحن نرى بأن (الأحلام والرؤى المنامية) بعض من واقع الحياة الإنسانية ومكون من مكوناتها، الذي لا زال غريقا في بحر الإهمال والجهل به، مع أنه مكون حياتي يجب اعتباره والاهتمام به.
ويكفي أن للأحلام والرؤى المنامية من التأثير على مسار الحياة اليومية للفرد ما لا يستطيع أن ينكره أحد، ثم إنه يمثل أحد ضروب المعرفة البشرية، الذي بإمكانه أن يساعد كثيرا على فهم الذات الإنسانية، ويسهم في إضاءة جملة من الزوايا المعتمة، واستكشاف كثير من مجاهل وخفايا الإنسان، هذا فضلا عن كون الأحلام والرؤى هي مواد تستقى منها الأفكار، والصور، والمشاهد وغيرها من العناصر.
ولا شك أن كل حلم منامي وكل رؤيا منامية عالم قائم بذاته، لهما تركيب، ومنطق، وسرد خاص، وفيهما يتراءى للنائم كثير من الأشخاص والمخلوقات ما يعرفه منها وما ينكره، وكذا الأزمنة، والأمكنة، والمشاهد، والأحداث، التي قد يكون طرفا مشاركا وفاعلا فيها، أو متابعا لها فقط، ثم إن من الأحلام والرؤى المنامية ما لا يخلو من الرمز، والوصف، والحوار، والخطاب الأحادي.
ثم إن أحلام المنام تختلف عن أحلام اليقظة، إذ يجد الإنسان نفسه في حلم أو رؤيا المنام يصدق ما يراه ويعتبره من الواقع، وإذا كانت أحلام اليقظة تتسم ببعض التماسك المنطقي والواقعي، فإن أحلام ورؤى المنام تتداعى تداعيا حرا، فحوادث الحلم والرؤيا تجري بسرعة غير مهتمة بحدود الزمان والمكان، بحيث أن الحالم أو الرأي يرى في نومه القصير أحداثا يستغرق وقوعها في اليقظة شهورا وسنوات.
وقد ذهب البعض إلى أن الأحلام في المنام حياة ثانية ذات تأثير على الحياة الأولى في عالم اليقظة، ثم إنها تمكننا من التعرف على ذواتنا والعالم من حولنا، ثم إن الأحلام هي وسيلة يتم عن طريقها استعادة الذات لتوازنها النفسي، فضلا عما لها من وظيفة تعبيرية.
ونحن نذكر من بين الكتاب العرب المسلمين في العصر الحديث الذين لم يتجاهلوا هذا المكون الخطابي (الأحلام والرؤى المناميـة) في ما تحجثوا به عن أنفسهم: أحمد أمين، وعائشـة عبد الرحمان، ونجيب الكيلاني، وعبد الكريم غلاب، ومحمد أسد، ومالكولم إكس، وكاترين دولورم، وماري ولدز وغيرهم.
وقد وضع محمد المختار السوسي عنوانا فرعيا في إلغياته اختزله في عبارة (متع الأحلام)، وذكر محمد المختار السوسي من جملة لقاءاته المنامية، ذلك اللقاء الذي جمعه في رؤيا منامية بطه حسين، والمثير هو أن الكاتب استغل خلاصته لبناء مقالة أدبية نقدية تخييلية، اعتمد فيها الحوار الثنائي الذي دار بينه وبين طه حسين في المنام.
وتكفي هذه المبادرة من الكاتب حجة على نبوغه الإبداعي، ولا أظن أن أحدا من أدباء الثلاثينات ـ على سبيل المثال ـ قد وفق إلى فكرة محمد المختار في إبراز شكل تعبيري جديد من الأدب وإخراجه إلى الوجود، والذي تلتقي فيه أحلام المنام بمجريات اليقظة، فتصير مادة واحدة ونسيجا متفردا من التخيل والحقيقة.
ولا شك أن محمد المختار استطاع أن يضفي طابع الرؤيا المنامية على مقاله الطويل من بدايته إلى منتهاه، إذ تمكن من توظيف كل ما تذكره واستحضره من رؤياه المنامية في حال اليقظة، والمثير للإنتباه، هي الكيفية التي استغل بها هذه الرؤيا، بحيث وفق إلى تحويلها إلى قاعدة ومنوال صالحين لبناء وصياغة مقال حواري متميز، تفضي بعض أفكاره إلى بعض.
إن الذي يضفي سمة مميزة على جميع المكونات الخطابية للسيرة الذاتية الإسلامية في العصر الحديث ـ بوجه خاص ـ هو ارتباط الذات المسلمة المنتجة لها بأحداث وأطوار تاريخية متميزة، شهد العالم العربي الإسلامي بعضا منها، وعرفت البلاد الغربية والأجنبية عموما بعضها الآخر، مما أكسب خطاب السيرة الذاتية ذات الطابع الإسلامي الحديث قيمة مضافة، وذلك بفضل الكتابات التي تفسح فيها السمات و المعالم الذاتية / الشخصية البحتة المجال للمعالم الموضوعية المرتبطة بالعصر.
ولا شك أن هذا الإنجاز الثمين الذي حققه كتاب هذا اللون من الأدب الإسلامي الحديث، سيضع
بين أيدي الأجيال اللاحقة مرجعا قويا في غزارة مادته الأدبية، والتاريخية، والفكرية، والنفسية،
والاجتماعية، والسياسية وغيرها من المواد التي لا سبيل إلى الاستغناء عنها من قبل أي جيل منشغل
بماضيه، وحاضره، ومستقبله، ومهتم باكتساب ثقافة شاملة ذات جذور ثابتة، في ظل الطموح
إلى تجاوز أخطاء وعثرات الأجيال السابقة.
إن خطاب السيرة الذاتية الإسلامية الحديثة يعكس ـ في ضوء مكوناته الكبرى ـ مدى تحول الذات المسلمة إلى موضوع إبداعي، وفي آن واحد يكشف عن العديد من نقط التماس في الحياة، التي يلتقي عندها الحس الذاتي بالحس الموضوعي، والوعي الفردي بالوعي الجماعي، فينشأ من هذا اللقاء ما يصح أن نصفه بسحر الخطاب السير الذاتي المتميز عن باقي الخطابات الأدبية.