موضوع البلاغة في العربيّة
زاهر جميل قط
لا شكَّ أنّ كلَّ لغة من اللغات لها خصوصيتها التي تميّزها بدءاً من قواعدها النحوية إلى الصّرفية ،وانتهاءً بشروط بلاغتها الخاصة بها،لأنّ اختلاف كلّ لغة عن الأخرى يعني أن تختلفَ ـ ولو بشكل ٍ بسيط أحيانا ًـ المعاييرُ الجمالية التي تحكمُ الأدبَ المكتوبَ بهذه اللغة عن تلك .
أحبّ أن أتوقفَ هنا عند البلاغة مصطلحا ً،ثمّ موضوعا ً.
أوّلا ًـ البلاغة مصطلحا ً:
اهتمّ العربُ كثيرا ً بهذا العلم ،وأولوه الاهتمام والرّعاية حتى وصل إلينا اليومَ على صورته الناضجة.ولو تتبعْنا تحليلَ هذا المصطلح عند بعض علماء العربيّة لوجدنا الآتي:
1ـ أبو هلال العسكري في الصّناعتين: البلاغة من قولهم:بلغتُ الغاية إذا انتهيتُ إليها،وبلّغتها غيري.ومبلغُ الشيء منتهاه.والمبالغة في الشيء:الانتهاءُ إلى غايته.فسمّيت البلاغة بلاغة ً لأنّها تُنهي المعنى إلى قلب السّامع فيفهم
2ـ الرّمّاني : يقول في تقسيم الكلام على ثلاثة مستويات:(eفأمّا البلاغة فهي على ثلاث طبقات:منها ما هو في أعلى طبقة،ومنها ما هو في أدنى طبقة،ومنها ما هو في الوسائط بين أعلى طبقة وأدنى طبقة،فما كان في أعلاها طبقة ً فهو مُعجزٌ وهو بلاغة القرآن،وما كان منها دون ذلك فهو ممكنٌ،كبلاغة البلغاء من الناس ،وليست البلاغة ُ إفهامَ المعنى،لأنّه قد يفهمُ المعنى متكلمان أحدهما بليغٌ والآخرُ عييّ،ولا البلاغة أيضاً بتحقيق اللفظ على المعنى؛لأنّه قد يتحقق اللفظ ُ على المعنى وهو غثٌّ مستكره ونافر مُتكلّف،وإنّما البلاغة إيصالُ المعنى إلى القلب في أحسن صورة من اللفظ.) (2)
3ـ عبد القاهر الجرجاني:ينطلق من نظريته في النظم التي حاول من خلالها القول إن القرآن معجز بنظمه،والبلاغة عنده هي النظمُ،والنظمُ هو أن تضعَ كلامَك الوضع الذي يقتضيه علمُ النحو،وأن تُعلّقَ الكلمُ بعضُها ببعض،يقول:( واعلم أنك إذا رجعت إلى نفسك علمتَ علما ًلا يعترضه الشكُّ أنْ لا نظمَ في الكلم ولا ترتيب حتّى يُعلقَ بعضُها ببعض،ويبني بعضُها على بعض،وتجعلَ هذه بسببٍ من تلك.) (3)
هذا عرضٌ سريعٌ موجزٌ لمفهوم البلاغة عند ثلاثة أعلام من البلاغيين،ويمكننا أن نفهمَ البلاغة من خلال أقوالهم على أنّها الكلامُ القليل الذي يؤدّي معنى كثيرا ً محتكماً إلى أداءٍ جماليّ متميّز.
ثانياً:البلاغة موضوعا ً:
أطرح هنا السّؤالَ الآتي:هل المتكلّمُ هو البليغُ،أم كلامُه هو ما يمكن أن يكتسبَ هذه الصّفة؟بعبارةٍ أخرى :من البليغُ المُرسل أم الرّسالة؟
للإجابة عن هذا السّؤال نستأنسُ برأي أبي هلال العسكريّ الذي يقول:يقال:أبلغتُ في الكلام إذا أتيتُ بالبلاغة فيه.كما تقول:أبرحتُ إذا أتيتُ بالبُرَحَاء وهو الأمرُ الجسيم.والبلاغة ُ من صفة الكلام لا من صفة المتكلّم.فلهذا لا يجوز أن يُسمّى اللهُ جلّ وعزّ بأنّه بليغ؛إذ لا يجوز أن يُوصفَ بصفةٍ كان موضوعُها الكلام.وتسميتنا المتكلّم بأنه بليغ توسُّعٌ.وحقيقته أنّ كلامَه بليغ،كما تقول :فلانٌ رجلٌ مُحكـَم،وتعني أنّ أفعاله محكـَمة.قال تعالى:(حكمة ٌ بالغة) القمر : .فجعل البلاغة من صفة الحكمة،ولم يجعلها من صفة الحكيم،إلا أنّ كثرة الاستعمال جعلت تسمية المتكلم بأنّه بليغ كالحقيقة،كما أنها جعلت تسمية المَزَادَة رَاوِية كالحقيقة،وكان الرّاوية حاملَ المَزَادَة وهو البعيرُ وما يجري مجراه.)(4)
إذاً البلاغة ُتكون للكلام ولا تكون لمُنشئه إلا توسُّعا ً،ولعلّ ما ساقه أبو هلال من أمثلةٍ تجعلنا نذهبُ معه في هذا الاتجاه،خصوصا ً أنّ وجودَ البلاغة مصطلحا ً
ما كان ليوجدَ لولا وجودُ اللغة،والكلام هو الاستعمال الانتقائي للغة ـ حسبَ اللسانيين ـ وعليه فإنّ علاقة البلاغة في الأصل هي مع الكلام وليس مع منشئ الكلام.
الحواشي:
(1):كتاب الصّناعتين الكتابة والشعر:
ـ تصنيف أبي هلال العسكري ـ تحقيق علي محمّد البجاوي ومحمّد أبو الفضل إبراهيم ـ
المكتبة العصريةبيروتط12006 ص13
(2):النكت في إعجاز القرآن(ضمن ثلاث رسائل في إعجاز القرآن للرمّاني والخطابي و الجرجاني)
تحقيق محمّد خلف الله و محمّد زغلول سلام دار المعارف القاهرة ط21968 ص7
(3):دلائل الإعجاز في علم المعاني:
ـ الإمام عبد القاهر الجرجاني ـ تحقيق د.ياسين الأيّوبي.المكتبة العصرية ـ بيروت2003ص106
(4):كتاب الصّناعتين: ص 13ـ14