تعلم رشيد في أحسن المدارس الخاصة ، كان من أنبه وأذكى زملائه في القسم ، حصل على شهادة عليا في الفيزياء النووية ، قدم طلبات متعددة مرفقة بسيرة الطالب العلمية للحصول على وظيفة تناسب مؤهله العلمي . امتنع عن مغادرة البلد و الهجرة إلى أوربا أو أمريكا وكندا إنه يعشق هذا البلد يريد خدمته ، يحب رائحته العطرة لكنه أحس بأن البلد لا يحب رائحته الملطخة بمداد كتب العلم و المعرفة .
انخرط في جمعيات طلابية توجه إلى النضال السلمي حفظ شعارات براقة مغرية تشعره بأن الوظيفة قادمة لا محالة وترسخت في ذهنه هذه الأفكار النضالية ، إن الحق في الوظيفة من حقي كما أن الحق يؤخذ ولا يعطى . تلك شعارات سمعها رشيد ممن سبقوه في مهنة البطالة و العطالة ، ستقول هذه ليست مهنة أنت سمها ما تريد المهم هو أنه أصبح يشعر بثقله على أبيه ولم يعد يقدر على تقديم يده له لأخذ مصروفه اليومي .
كان آخر مصروف أخذه من أبيه هو ثمن التذكرة للتوجه إلى العاصمة ، استقل الحافلة وطالت الطريق و عقارب ساعته متثاقلة بالكاد تتحرك وعند وصوله انبهر بهذا المشهد الرهيب إنها فلول من المعطلين ، وقف عند باب البرلمان مستنكرا ، بحث لنفسه عن مكان مع أقرانه كانت الساحة مزدحمة ، افترش الأرض وتغطى بالسماء و في غفلة منه شعر بضربة قوية على ظهره ورافقتها كلمة نابية لم يتعود سماعها روح لبيتكم ألحمار أولد....... ، إنه استقبال حار يقاس بدرجة حرارة هذه الضربة وهذه الشتيمة .
ومع مرور الأيام تعود جسمه النحيل هراوات وركلات ولكمات ........ رجال الأمن المدججين بالأسلحة و الكلاب المدربة ،إنهم أصحاب الحال الكل يعرف بأن الحال منصوب لكن هذه الفئة من الناس دائما يكون الحال عندهم مجرورا ، إنهم يجرون المعطلين إلى حال سبيلهم يفرقون اعتصاماتهم ، يجرونهم من أقمصتهم البالية المهترئة ، يجرونهم من قفاهم التي تعودت الصفع و القمع ، هذه القفا تتحمل من ومن ، تتحمل صفعات الأيادي أو صفعات أشعة الشمس الحارقة أم صفعات لسعات البرد القارصة .
أصبح رشيد معروفا بين دروب المدينة ومركزها ، اكترى بيتا في الضاحية المجاورة ، يعيش على صدقات المحسنين ونفقاتهم ، يمد يده لأخذ بضع نقود من هذا ومن ذاك ينظرون إليه نظرة إشفاق و إحسان ، يشتري بهذه النقود خبزه الحافي وجريدته اليومية إنه لازال يحن إلى المعرفة و الثقافة رغم الأسى و الحزن و القلق المستمر و الدائم .
اشتط غيظا ، ازداد حنقا ، سدت في وجهه كل الآفاق ، شعر بعبثية الحياة وعدم جدواها ، تساءل مرات ومرات طرح على نفسه أسئلة متعددة وكانت هذه الأسئلة تصدها صخرة الواقع المرير تصدها قسوة الحياة ومتاعبها ما فائدة هذه الحياة ؟هل سأبقى طوال ما عشت وما أعيش هكذا ؟ تساؤلات تملأها الكآبة و الحزن .
في صبيحة يوم عاد ، يوم كباقي الأيام ، تلمس جيوبه المثقوبة عد بتمعن الدريهمات المتبقية ، قصد محطة البنزين المجاورة اشترى لترا من البنزين ، أفرغه على رأسه ، ضغط على زر الولاعة اشتعلت النار في جثته تبخرت العلوم و الأفكار وطمرت معها الأخبار مات منتحرا غريبا عن الأهل و الدار ، استغرب الحاضرون وهم في حالة من الدهشة و الاستغراب وقال أحدهم : لقد ضيع البلد في لتر من البنزين ألم يعلم بأن سعر البنزين قد ارتفع .
محمد يوب
صبيحة هذا اليوم 11-04-10