رائحة الطفولة
أحرق القاص السعودي عبدالرحمن الدرعان مجموعته القصصية الأولى «نصوص الطين» عام 1990، في لحظة ميلودر امية قلما يفعلها كاتب ناشئ تنتابه على الأغلب نشوة الغرور وتأكيد الذات، لكن الكاتب الذي أحبطه الواقع المرير، تقبل ارتداد السهام عليه، وواجهها بترس النار الذي رمى إليه نصوصه الأولى على غرار ما فعله أبو سليمان الداراني الذي أحرق كتبه في تنور، وطرح داود الطائي كل ما كتبه في البحر، ودفن أبو علاء عمرو أحد القراء السبعة كتبه تحت التراب، وأحرق أبوحيان التوحيدي كتبه، أما عبدالرحمن الدرعان فعاد بعد عقد من الزمن، متدرعا بمناعة الجرأة، وتصدى لما واجهه بتحد في يمناه التجربة، وفي يسراه الإرادة، وأصدر مجموعة قصصية ثانية، بعنوان «رائحة الطفولة» تضمنت هذه المجموعة أربع عشرة قصة، منها قصة تحمل العنوان نفسه، إضافة إلى عناوين أخرى: العرس، ليلة الحشر، ذاكرة مثخنة بالدم، الأبواب، ليلة في فندق، ربابة مشعان، العقرب، متحف أسرار.. وغيرها.
وشى العنوان بالكثير عن هذه المجموعة وكأنه يكتنز مضمونها، الرائحة عرفها بالمضاف إليه الطفولة، تدخلنا القصة الأولى إلى فضاء حسي من خلال الذاكرة التسجيلية وشاشة رادارية تمكنت من التقاط الأحداث، وإدخالها إلى فضاء متخيل لعالم طازج متحرك وفاعل، أتقن فتح النوافذ بين عوالم عدة، فكل عنوان هو نافذة مفتوحة: تارة إلى الريف، وأخرى إلى الحنين، وثالثة إلى المدينة، وهكذا دواليك.. من عرس، إلى رحلة سفر، إلى طالب في الجامعة، إلى الرمزية العالية للزمن في قصة «الأبواب»، فقد جعل من الزمن قيمة ملموسة - حسية، لا من خلال حاسة الشم أي الرائحة، بل والحواس الأخرى التي دخلت تلقائيا ضمن اهتزازات الرؤى إلى ما ورائية المعني.
مشت بنا القصة المختمرة «رائحة الطفولة» على حافة الزمن إلى نهاية أقل ما يمكن تسميتها «أمل» بعد اندمال الذاكرة على رائحة أبدية تتصل مع البطل وتتجاوز سني عمره، بل وتأخذ أفراد أسرته: الأم المسنة، الأب المريض، الأخ، الأخت إلى طفولتهم، وتعيد إليهم البهجة الحية من وراء دموع أبجديتها: الفرح والوجد.. وفضاء هذه القصة، وإن بناه من كلمات، فهو محسوس، أسه طقس عائلي ومشاعر، بيت أسري أليف «في الممر كنا وحدنا، أمي وأنا وأخي، ولم يكن في الممر ثمة أحد غيرنا، أجلت عيني في خارطة العائلة.. شعرت في تلك اللحظة أنه أنا ذلك الطفل الصغير الذي يتعين عليه أن يبحث في ملامح أخيه عن ملامح أبيه، وابتلعت السؤال: ما الذي سوف يبقى؟!» ص 15، هنا الذاكرة تحمل شحنة إيجابية في ترجمة أحداث نافرة من واقع حياة رغم خصوصيتها فتجعلها عامة، وتمثل الكثيرين ممن ذاقوا تجربة الانتقال من الريف إلى المدينة - البطل في رائحة الطفولة - سافر من أجل الدراسة، وفي قصة: «ليلة في فندق» الفندق يختصر المدينة ليصبح غربة، والريف ذاكرة مسخنة بالجراح وكأنه طفل ضائع يبحث عن والديه، وقصة «ليلة الحشر» تبوح بغربة رمزية، من حيث المكان - الحدود- والعامل المشرك فيها ربما القارئ - المرتحل، والمرحل عنه - الوطن، وفي قصص أخرى يجد المتلقي نفسه وجها لوجه أمام نفسه، وتارة أخرى أمام جملة من ثنائيات، هي ثنائيات مضمرة في داخله، وتتوحد معه، لتصبح ثالوثا، دون الانقياد لتحد أو ردة فعل أو مواجهة: أنا والصديق وباقي الأسرة، أنا والحنين والوطن، أنا والريف والمدينة، هذا الثالوث العفوي شكل مدماكا أساسيا لبناء النصوص، وجعل التباين فيه كعدسة مجهر يرينا اللامرئي من المتناهيات في عالمي الطفولة والذاكرة، التباين بدا مثل أشعة الضوء التي تمر من الشقوق لتكشف عن فسحة موجودة لدى واحد منا، وكأنه أزاح الستار عن نوافذ العمر كي نطل على الطفولة كما هي بشقاوتها، بحلوها ومرها دون أن يسمح لنفسه بلمسها أو ممارسة طغيان تجربة العمر عليها.
وتمثل الطفولة، الذاكرة، الحواس، ثالوثا آخر، جعل النصوص تتحرك وفق إيقاع مواز لواقع افتراضي له كيانه الخاص في فضاء الخيال، وحاضر على بياض الورق، وشاخص إلى الواقع بسحر تكاد تلمسه، بمعنى آخر ارتكز على الرؤيا البصرية - الحسية في تسجيل المواقف الطفولية، ونقلها إلى فضاء الخيال، دون محاولة منه للتدخل في هيئة ونفسية الشخوص، كما في قصتي: «العرس»، و«ذاكرة مثخنة بالدم» ووجه إلى هذه الرؤيا مسبار رمزيته كما في قصة «الأبواب» لتكبر مساحة الزمن وتصبح أكثر حسية وقربا من حيثيات البطل وعلاقته بواقعه، دون أن يتحرش بالقارئ، بل تركه ينساق معه خطوة إثر خطوة ليصل إلى النهاية، حيث يتركه مع نفسه وكأن الحكي يخصه من خلال تقديم مزاج حي له طعم العمومية الاجتماعية.
قدمت المجموعة العديد من الأسئلة، دون أن تجد نفسك مضطرا للإجابة، لأن الجواب كان عبر السرد التلقائي، واللغة العذبة العفوية، والنهايات المفتوحة للتأويل، بمعنى آخر هي سؤال واحد وهام، يختصر مجموعة من الأسئلة المباشرة: «هل كانوا حقا أصدقاءك؟.. ص 104.
«لكن يا صديقي ألاتجزم معي بأن المستقبل هو الماضي الذي جاء قبل أوانه يا محمود» ص 90
«هل أنا في المطار؟» ص 81.
«عبود! هل يمكنني أن ألد كالنساء بسبب الدم؟ ص 77.
«هل يعقل أن تكون هناك مدرسة أكبر من مدرسة ولدي؟» ص14.
تتصل هذه الأسئلة مع متن النصوص، وتمثل قوة جذب لوعي القارئ، دون ممارسة أي طغيان، أو افتعال، أو إبراز مهنية فنية، جاءت مطواعة، هادئة، ومعبرة تؤكد ان الكاتب بلغ مراده دون اشهار أي من الهفوات كالتلصص على ضمائرنا، او دعوته للمس نصله الحاد في أي من المواقف، بل جعل القارئ يتلمس طريقه لوحده، ليبلغ نهاية وكأنها البداية، ويستمتع بمجل ما قدم له على انه رحلة أرته علاقة الذاكرة بالطفولة، وهل الطفولة هي ذاكرة ام كائن حي مختبئ في ردهات العمر الذي يأبى العبور هكذا دون نقش على جدار الخلود والمعرفة، وكأن المجموعة تحمل دلالة مباشرة لتعرفنا أكثر بالفضاء المتخيل للكاتب، هذا المتخيل رغم استناده على نتوءات الواقع وإبرازها كفعل كتابي، يجيب عن حراك خفي انجز مهمة التحليل والتركيب والإشارة عن سيمياء لعالم فاعل في الطبقة العليا للعقل «في هذه اللحظة احتلت أمه بيداء ذاكرته، ونفذت رائحة الديرم من ختم شفتيها على خده الى أقصى الشعيرات الدموية.. وبعد ان تخفق في هدهدته تحذره ان يكشف أطرافه من تحت الأغطية لئلا تزدرها الحية السوداء التي تستيقظ في أخريات الليل عندما يهجع الجميع.. وتأكل النجوم الأقمار تاركة بعد ان تأزر الى بيتها مع زرقة الفجر سماء صلعاء..» ص55.
حفل متن المجموعة بأفكار قد تبدو واضحة ومباشرة، لكن تتحشر وبشكل غير مباشر بتشكيلات الخيال، وتجد لها نظائر متحركة في فضاء المتخيل، وتصب فيه ماء الطفولة عبر قنوات عناصرها. الشقاوة، اللعب، المشاكسة، الأسئلة، التمني، الأحلام.. وكذلك الحواس التي قدمها بعدسة المتخيل، والتي تحرك الخلايا اللاقطة لهوامش تصبح فاعلة مثل الأحاسيس والمتعة والدهشة، وتقديمها (كنكاتيف) كلمات على الورق بهدف اجبار الزمن على الوقوف على رجليه من أجل ان يمشي الى الوراء وإلى الأمام كيفما أراد القلم دون تقعير « ها أنت الآن قبالة التليفزيون في دوامك المسائي، تنقل عبر المحطات الفضائية لكنك فجأة تفيض حنينا تتوقف وربابة «مشعان بن مجول» ترميك في واد مليء بالذئاب..» ص 104.
الطفولة رائحة، أم زمن، المكان قرية أم كون، والفكرة معنى أم رمز؟ هذه الأسئلة هي قواسم مشتركة تطرحها المجموعة، عبر تناول متعدد الوجوه لا تحتمل التناقض او الصراع، بل تدفع الشخوص نحو مصائر بينة، وكل مفردة تلتقط شحناتها من موقعها في السياق، لذا تجعل المتلقي يتحسس أفقا موازيا لأفق يتلمسه بذائقته، من خلال لغة ومفردة تفيض بحرارة المكان، المكان الذي يفيق على وقع نصوص مفعمة بالحرارة والإحساس والقيمة الفنية الجمالية، هذا ليس مديحا للكاتب بقدر ما تقدم أجوبة عن تجربة وإن كانت قصيرة لكنها هامة.
أثارت المجموعة الكثير من الأسئلة وقدمت الكاتب على انه واحد من اهم الكتاب الجدد في السعودية خصوصا، والجزيرة العربية عموما، وننتظر منه أعمالا جديدة.
د.أسد محمد