صدر مؤخرا في القاهرة كتاب بعنوان "ذكرياتي الأدبية" للكاتب عباس خضر وهو كاتب وناقد أدبي، يروى في هذا الكتاب ذكرياته الأدبية بعد أن قدم للمكتبة المصرية والعربية العديد من المؤلفات منها غرام الأدباء، كتاب معاصرون، دراسات، ومجموعة من القصص القصيرة مثل الست علية في سلسلة الكتاب الذهبي، والعجوز والحب، وقدم أيضـًا مجموعة من الروايات منها: حمزة العرب، والفارس الأسود، وهؤلاء عرفتهم، وغيرها من المؤلفات.
في مقدمة الكتاب يقول المؤلف: إن كتاباتي النقدية فيما مضى لم تخل من هوى شخص يجنح مرة إلى التحامل وأخرى إلى المجاملة، وأزعم أن الأمر كذلك في جميع الكتابات النقدية، وأزعم كذلك أن الكذب ليس قاصرًا على الكتابة والنقد، بل هو متفش أكثر في حياتنا وأحاديثنا، ولو وجد الصادق لما استطاع أن يعيش بين الناس يومـًا واحدًا.
ويذكر المؤلف في الفصل الأول من الكتاب أنه بدأ العمل في صحيفة "كوكب الشرق" محررا، ويقول: كنت أصوغ الأخبار التي يأتي بها المندوبون، وكنت أسرق للجريدة - وهى صباحية - أخبارًا من جرائد المساء كالمقطم والبصير، ويظهر أنى عوقبت على تلك السرقة، برسوبي في امتحان النقل من السنة الثانية إلى الثالثة الثانوية، ولم أجد للتمرين نهاية فتركت الجريدة ورجعت إلى إعادة الدراسة، وعرفت من زملائي بكوكب الشرق، الذين يشتغلون بالصحافة منذ زمن، أن الصحافة كده، وأنهم لا يتسلمون مرتباتهم كاملة ولا بانتظام، ومع ذلك فإنني كسبت في تلك الفترة صداقة زملاء أفاضل، هم محمد بيومي الجنيد، الذي صار بعدها مدير تحرير البلاغ، وأفسح لي مجال النشر في الصفحة الأدبية - أما الحادث الذي كان الفضل في دفعي إلى الأمام - عند محاولتي النشر في الرسالة أول مرة - فهو أنى كتبت مقالاً عن التجديد، وذهبت به إلى إدارة الرسالة، ووجدت هناك أحمد أمين، وكان الرجل الثاني في المجلة بعد أحمد حسن الزيات، دخلت وحييت ودفعت إليه المقال واقفـًا وانصرفت، وانتظرت أسابيع، ثم لمحت في المجلة وأنا أتصفحها وقلبي يدق سريعـًا .. لمحت عنوانا يشبه عنوان مقالي، وليس إياه: التجديد والمجددون، لعله غيره، لا بأس، ولكن سرعان ما لمحت تحت العنوان "للأستاذ أحمد أمين" وتكرر ذلك في أربعة أعداد متتالية، عالجت فيها هذا الموضوع علاجـًا حسنـًا، وكان محوره أن التجديد في ذاته مطلوب، وأنه علاقة الحياة الراقية، وذهبت إليه بعد أن انتهت مقالاته أسأله عن مقالي .. فقال في شبه غضب: ماذا تعني؟! وأنكرني قائلاً إنه لم يأخذ منى أي شيء ولا يذكر أنه رآني قبل ذلك.
ويقول المؤلف: إن روايته لهذا الحادث ليس للغض في شأن الأستاذ أحمد أمين، و إنما لأثره في نفسي ، على أنه مما ينبغي ذكره أن أولئك الأعلام لم يخرجوا عن كونهم بشرًا يخطئون وليسوا منزهين عن الهفوات وهفواتهم لا تتعارض من تقديرهم والاعتراف بفضلهم، ويذكر المؤلف بالرغم من اهتمامي بالسياسة وانفعالي بالحوادث الوطنية لم أنتم إلى لجنة أو تشكيل، وإن كان ميلي على وجه عام متجهـًا إلى الوفد من بعيد، وكانت مشاركتي في الكتابة السياسية في هذا الاتجاه .
كما أن العلاقة بين طه حسين والزيات قد ساءت في وقت من الأوقات، واشتبكا في معركة أدبية قال فيها الزيات عن طه حسين: إن هذا الرجل يستغل حيائي وسكوتي عنه! وطبعـًا كان يمنع الزيات أن يمن عليه بما كان يسد به إليه أيام كان زميلين وصديقين في الأزهر، وكان الزيات قد لحق بمدرسة الحقوق الفرنسية الليلية ليتعلم فيها اللغة الفرنسية، وأشار على طه حسين أن يفعل مثله، فقال له: إنه لا يملك المصاريف فدفع له المصاريف قرضـًا ولم يرد.
ويرى المؤلف أن توفيق الحكيم ليس بخيلاً بالمعنى المرذول لهذه الكلمة إنما هو مبرأ من تفاهات الكرم، من هذه التفاهات والتظاهر الفارغ والإنفاق على السخافات. ويقول في ذكرياته فلم أر أحدًا ممتعـًا في مجلسه وحديثه مثل توفيق الحكيم، حديثه من السهل الممتع وعفو كلامه في مستوى ما تجده الأقلام القادرة، يتكلم في النقد والقضايا الأدبية كأستاذ بل كرائد، وهو لا يزاول النقد كتابة، هو خير من يفسر عمله الأدبي، أقصد بواعثه وملابساته.. ففي الفترة التي كنت أكتب فيها باب الأدب والفن في الرسالة كان هو يكتب في أخبار اليوم، ويتناول أحيانا بعض القضايا الأدبية بصفة نظرية، وأذكر قضية كتب فيها كثيرًا، وهى القضية المتجددة دائمـًا بين الشيوخ والشباب ومن حيث ما يسمونه "صراع الأجيال" وكثيرًا ما عارضته فيما يكتب، وكان يتبع في هذا النقاش طريقة يتجنب فيها ما يخشاه بطبعه من الدخول في معارك تعكر عليه صفو البرج العاجي وذلك بأن يقول ما يقول في سباق نظري، كأنه لا يرد على أحد أو يناقش أحد وهو في الحقيقة يرد ويناقش .
ويقول المؤلف عملت مع يوسف السباعي في الرسالة الجديدة، وفى مجلة الحياة وهى مجلة كان يصدرها المجلس الأعلى للشباب، وقد أسند إلى فيها الأشراف على القسم الأدبي والكتابة فيه. ووقع صدام خفيف بيني وبين يوسف السباعي عندما تم تخفيض المقابل المادي لي، وجاء يوسف السباعي عقب رفضي المكافأة المنقوصة، يسمونها مكافأة وهى في الحقيقة أجر لأنه استحقاق لا تفضل.. وعلا صوته، فعلا صوتي، ولكننا صرنا إلى الرقة وحسن التفاهم لما شرح لي الموقف المالي للمجلة، رضيت بصفة خاصة لما قال إن النقص شمل جميع الكتاب .
يذكر المؤلف أن من فعل الحروب أن غمرت الأسواق مصنوعات رديئة، واستغل الفرصة كثير من صغار الصناع والدخلاء في الصناعات، وكان من النتائج ذات المقدمات أن نرى قومـًا قد استشرى بهم السعار، فراحوا يؤلفون، ويؤلفون .. أي ينتشون من الكتب ويجمعون، ويكونون من الأشتات والمنتوشات كتبا يطوفون بها على إدارات الصحف ومكاتب الصحفيين، مرة للإعلان بالثمن ومرارًا لرجاء التقريظ والتفويه.
ويذكر المؤلف مناقشة طريفة جرت بين فضيلتي المفتى السابق والمفتى الحالي فيما يتبع في الاحتفالات بالجمل الذي يحمل كسوة الكعبة من طوافه سبع مرات بمكان الاحتفال وتقبيل مقوده عند تسليمه لأمير الحج وتجمع الناس وتسابقهم إلى التبرك بالجمل وما يحمل، فكتب المفتى السابق في جريدة الأساس أنها بدعة سيئة لا يقرها الدين ورد عليه المفتى الحالي في المصري كلامـًا عجيبـًا دافع به عن المحمل وما يلابسه من الأعمال التي أنكرها المفتى السابق، الذي رد بأن مشاعر الناس يمكن أن تتعلق بكل شيء ولا أحسب من ذلك هذه المهازل المحملية ومواكبها المزرية التي تصفها بأنها تجديد في الدين. وهى أدنى إلى العبادات البدائية الخرافية.
وفى نهاية الكتاب خلص المؤلف إلى أن ما جاء في هذا الكتاب هي ذكريات وليست مذكرات، أي أنها تكتب الآن فتستمد من الذاكرة. والحديث في هذه الذكريات صريح غاية في الصراحة لأن للذكريات ميزتين تخلو منهما المذكرات، الأولى أن مادة الذكريات هي التي احتفظت بها الذاكرة على مدى السنين الطويلة، والذاكرة تحتفظ باللباب وترمى القشور في الطريق، والميزة الثانية هي إشعاع النمو من الماضي إلى الحاضر، وإشعاع النظر إلى الماضي في ضوء ما جاء به.
وهذه الذكريات الأدبية لا تعد من قبيل السيرة الذاتية بمقدار ما هي حديث عن شخصيات وقضايا فكرية، عاصرتها واحتككت بها من قريب ومن البعد على مدى نحو أربعين عامـًا ولا تزال بعض تلك القضايا قائمة حتى اليوم، ولهذا امتد الحديث إلى الحاضر مقرونـًا بالماضي.