* هيلا ليصة *
.......................
أنزل من الأوتوبيس فى محطة ستانى بالورديان . الصباح ضبابى ، خريفى ، ينذر ببرودة ، وأنفاس البحر : رائحة اليود والملح والطحالب والأعشاب ، تترامى من وراء الشون والمخازن . تساقطت أوراق الشجر المصفرة ، الجافة ، على الأرض . وإلى جانب الرصيف حصان مد خطمه فى مخلاة التبن الملقاة أمامه ، تناثرت بقاياها فى دائرة واسعة حولها ..
أميل إلى الشارع المسفلت ، فى نهايته سور حجرى يطل على الميناء ، ويصل بين شون الغلال على جانبى الشارع . العصافير تشكل غيمة صوتية وهى تتسلل ـ لالتقاط القمح ـ من الأسقف المفتوحة ..
تطول وقفتى أمام كشك الشاى المستند على السور الحجرى . تتزايد أعداد العمال فيشكلون ما يشبه نصف الدائرة حول الكشك ، وفى أيديهم أكواب الشاى ..
فى السابعة تماماً ، يبدو خليل أفندى قادماً من أول الشارع . يولج المفتاح فى القفل الضخم ، ويتشارك العمال فى دفع الجرار الحديدى ، ويسبقنا خليل أفندى فى الدخول ..
أدركت منذ أول أيام عملى فى الشونة أن القصد مجاملة ابن عم أبى محمد على جبريل رئيس قلم القضايا فى بنك التسليف . لم أكن أمارس عملاً ما ، ولم تصدر لى توجيهات لأنفذها . طلب خليل أفندى أن أراقب العمال وهم ينقلون أجولة الغلال من السيارات إلى داخل الشونة ، يرصونها فى بلوطات أشبه بالمربعات الهائلة ..
بعد عشرة أيام ، صحبنى خليل أفندى إلى تقاطع ، وقال :
ـ أنت معنا فى إجازة الصيف ..
أومأت برأسى دلالة الموافقة ..
قال :
ـ أخشى أنك لا تراقب العمال كما يجب !
وأنا أغالب الحيرة : كيف أراقبهم ؟
وهو يهز إصبعه :
ـ أبلغنى بكل ما تراه من تقصير ..
عدت إلى وقفتى وسط العمال . أراقب حركتهم بين السيارات والشونة ، وأستمع إلى أغنياتهم التى تبدأ بالهتاف : هيلا ليصة ، ويغيب عنى الكثير من مفرداتها ، وإن اتسمت بأنغام محملة بالحزن والحنين . تجتذبنى اللحظة بكل شجوها . أنسى ملاحظة خليل أفندى ، فلا يشغلنى من يلتمس الراحة داخل أزقة البلوطات المتقاطعة ، أو يفرد طعامه ، أو تتلكأ خطواته ..
شاركت العمال أداء أغنياتهم .