Reply to Thread
Page 3 of 6 FirstFirst 1 2 3 4 5 6 LastLast
Results 25 to 36 of 71

Thread: النص الكامل لكتاب «أغنيــــــــــــات / نصوص سردية قصيرة »، للروائي محمد جبريل

  1. #25 رد: النص الكامل لكتاب «أغنيــــــــــــات / نصوص سردية قصيرة »، للروائي محمد جبريل 
    كاتب مسجل
    Join Date
    Jun 2006
    Posts
    1,123
    Rep Power
    20
    * ليه يا بنفسج *

    .............



    كان أبى يحب الغناء القديم ، ويحب الأصوات التى تحرص على التطريب : أم كلثوم وعبد الوهاب وليلى مراد وهدى سلطان وشهرزاد وعباس البليدى ومحمد فوزى وغيرهم ..
    كانت أحب الأغنيات إلى نفسه أغنية صالح عبد الحى : " ليه يا بنفسج بتبهج .. وانت زهر حزين " . يحدثنا عن دلالة الكلمات ، وجمال اللحن ، وعذوبة الأداء ، والتطريب . التطريب ـ فى رأيه ـ هو ما يميز الأغنية العربية ..
    ظل أبى ينام على كرسى أعواماً طويلة . يجلس عليه ، ويسند ذراعيه على كرسى آخر . المرة الوحيدة التى تصور فيها أنه يمكن أن ينام على السرير لحقته أزمة الربو ، وأيقنت أمى أنه مات .
    مثلما كانت طريقة نوم أبى غير عادية ، فقد كان نومه كذلك غير عادى . لحظات إغفاء متقطعة ، يصحو منها على ألم فى الكوعين ، أو الساعدين . يحركهما فى الهواء ، ويضع فنجان القهوة على السبرتاية وهو يدندن بأغنيات يحبها ، أذكر منها أغنية صالح عبد الحى ..
    كان النوم يفاجئ أبى وهو فى طريقه إلى المطبخ ، أو إلى دورة المياه . يسقط من طوله . نصحو على صوت ارتطام جسده بالأرض . نفزّ من أسرّتنا ، ونجرى ناحية الطرقة . يلوح بيده وهو فى موضعه بما يعنى طمأنتنا . تمتد أيدينا ، تعينه على القيام . تكرر الأمر كالنسخ الكربونية . نصحو على صوت الارتطام . نجرى ـ يسبقنا التوقع ـ ناحية الطرقة ..
    صرنا نفزّ من أسرّتنا لأقل صوت . نحدس أن النوم فاجأ أبى فى سيره . تعذّر ـ لظروفنا المادية السيئة ـ تنفيذ ما اقترحته أختى بأن نفرش أكلمة أسيوطى فى المسافة ما بين حجرة أبى والمطبخ ، آخر الطرقة ..
    عرضت أختى أن تنام فى حجرة أبى . نومها خفيف ، فهى تصحو على حركة أبى بين حجرته والطرقة المفضية إلى المطبخ ودورة المياه ..
    صحونا ـ ليلة ـ على ترنم أختى بأغنية صالح عبد الحى ، وصوت أبى يعلو بالثناء :
    ـ لو مش عيب .. كنتى بقيتى مطربة قد الدنيا !
    Reply With Quote  
     

  2. #26 رد: النص الكامل لكتاب «أغنيــــــــــــات / نصوص سردية قصيرة »، للروائي محمد جبريل 
    كاتب مسجل
    Join Date
    Jun 2006
    Posts
    1,123
    Rep Power
    20
    * فلسطين *

    ..........



    مع أنى لم أكن جاوزت العاشرة ، فقد أصخت السمع لتقديم المذيع ، وحديث الشاعر على محمود طه عن أغنيته الجديدة لفلسطين . كان المساء قد حل . هدأ صخب الطريق ، فيما عدا أصوات صفارات بواخر تترامى من الميناء الغربى ..
    تحول إنصاتى لأحاديث أبى مع أصدقائه ، ومانشيتات الصحف ، ونشرات الأخبار .. تحول ذلك كله إلى متابعة شخصية ، هم شخصى . ربما توقفت أمام دكان بقالة أو علافة فى شارع الميدان ، لأن صاحبه يتبادل حواراً فى القضية التى شغلت الجميع . لم تكن الأسماء ولا الأحداث واضحة فى ذهنى تماماً ، لكن توالى الأحداث والأخبار والمناقشات جعل الصورة فى متناول العين : ثمة حرب قاسية يخوضها أبناء فلسطين ضد اليهود الذين تركوا بلادهم للإقامة فى القدس ويافا وحيفا وغيرها من المدن التى كان أبى يذكرها فى أحاديثه ، ويروى ذكرياته عن زياراته المتعددة لها . وأشار أبى إلى الأسرة اليهودية التى غادرت الطابق الثانى فى بيتنا إلى جهة غير معلومة ، وإن أعلن ثقته أن تلك الجهة هى فلسطين . وغلب على أحاديثه الاستياء والحيرة والألم لما سماه بيع فلسطين بلا ثمن . وألفت أسماء ومسميات الانتداب وترومان والدول الكبرى والحاج أمين الحسينى وشتيرن والهاجاناه وبن جوريون وحكومة عموم فلسطين وعبد القادر الحسينى شهيد معركة القسطل ..
    قدم المذيع مؤلف القصيدة باسمه الشخصى ، وليس بصفة الملاح التائه التى كان قد عرف بها ، ربما لأن المناسبة تفرض الجدية . تحدث الشاعر ـ بصوت أتذكر إلى الآن نبرته ـ عن ظروف كتابة القصيدة ، واعتزازه باختيار عبد الوهاب لها . أما عبد الوهاب ، فقد اكتفى ـ فيما يبدو ـ بتلحين القصيدة وغنائها ..
    أعطيت انتباهى لصوت محمد عبد الوهاب . من فصيلة مميزة ، امتدادها الأجمل عبد الحليم حافظ . فضلاً عن مراتب أقل ممثلة فى سعد عبد الوهاب وعادل مأمون وهانى شاكر , وغيرهم ، فلست أقصد الحصر ..
    اجتذبنى اللحن . راقص بما يتيح له مرافقة أداء حفل رقص جماعى ..
    أبديت ملاحظتى لأبى :
    أخى أيها العربى الأبى أرى اليوم موعدنا لا الغدا
    قال أبى :
    ـ هذا هو عبد الوهاب .. لا تهمه الكلمات ولا المعنى بقدر ما يهمه اللحن ..
    وابتدرنى بالسؤال :
    ـ أغنية مين زيك عندى يا خضرة .. من خضرة هذه ؟
    قلت بعفوية :
    ـ بنت يعرفها ..
    ـ أبداً .. إنها الراية المصرية الخضراء ، يخاطبها جندى فى طريقه إلى الميدان ..
    وعلا صوت أبى فى تأكيد :
    ـ هذا هو عبد الوهاب .. صوت ولحن .. أما المعنى فيلغيه غناؤه لخضرة .. ولفلسطين !
    (ينبع)
    Reply With Quote  
     

  3. #27 رد: النص الكامل لكتاب «أغنيــــــــــــات / نصوص سردية قصيرة »، للروائي محمد جبريل 
    كاتب مسجل
    Join Date
    Jun 2006
    Posts
    1,123
    Rep Power
    20
    * هناك *

    ............



    الشجرة الهائلة ـ لا أعرف اسمها ـ تعلو تشابكات أغصانها إلى مستوى النافذة فى بيت عمتى بالمنيرة . يترامى ـ من موضع لا أتبينه ـ صوت تواشيح دينية وابتهالات ..
    ـ هل يوجد مسجد قريب ؟
    قالت عمتى :
    ـ لا .. هذا مسجل فى بيت الشيخ محمد رفعت ..
    ـ هل هو جاركم ؟
    ـ مسكين .. يعانى مرض " الزغطة " ، ويسلى وقته بسماع القرآن والتواشيح والابتهالات ..
    كانت أول مرة أسافر فيها إلى القاهرة بمفردى . لزمت موضعى فى المقعد الخشبى بقطار الدرجة الثالثة ، أعانى الهواء المحمل بالسخونة من النوافذ المكسورة ، والأقدام المدلاة من الأرفف ، واختلاط النداءات والصيحات ، وزحام الركاب داخل العربة المزدحمة ، ورائحة العطن ، وأرقب الخضرة المترامية على الجانبين ، والبيوت الصغيرة المتناثرة [ لم يكن المصريون الخليجيون قد بدأوا فى التهام بلادهم بالتبوير والتجريف ! ] وأعمدة التلغراف المتراجعة ..
    قالت لى عمتى بلهجة حنون ، وهى تلحظ نظرتى التى تبدو متأملة للشجرة :
    ـ واضح أن هذه الغرفة أعجبتك ..
    أردفت ، دون أن تنتظر رداً :
    ـ خلاص .. هذه هى غرفتك !
    أصارحك بأنى لم أكن أتأمل الشجرة ، ولا أخذت بالى من الغرفة ، ولا على ماذا تطل ، ولا ماذا تضم من أثاث . كأنها انبثقت فى حلم ضبابى غابت تفصيلاته ..
    كانت مخيلتى هناك ، فى بحرى ، مع أبى وإخوتى . وكان الشعور بالافتقاد يمضنى .
    Reply With Quote  
     

  4. #28 رد: النص الكامل لكتاب «أغنيــــــــــــات / نصوص سردية قصيرة »، للروائي محمد جبريل 
    كاتب مسجل
    Join Date
    Jun 2006
    Posts
    1,123
    Rep Power
    20
    * البكاء *
    .........

    كانت عمتى تحب البكاء . تحزن فتبكى ، وتفرح فتبكى . وكان زوجها ينصحها بأن تترفق بصحتها فى زياراتها الدائمة للمآتم وأيام العزاء . فهى تبكى أكثر من أهل الميت . ربما تحول البكاء الصامت إلى نشيج . تصارحنا ـ بعد عودتها ـ أنها لم تكن تبكى الراحل الذى حضرت عزاءه ، ولم تكن تبكى راحلاً بالذات ، وإنما هى تبكى كل الراحلين . وأحياناً تبكى المناسبات الجميلة ، الفائتة ..
    حين غنى فريد الأطرش ـ للمرة الأولى ـ أغنيته : بتبكى يا عين على الغايبين .. ودمعك ع الخدود سطرين .. بدا كأن عمتى قد وجدت ما يعينها على ممارسة عادتها الأثيرة . تسند رأسها إلى راحة يدها ، وتشرد فيما لا نتبينه ، ويتواصل بكاؤها حتى بعد أن تنتهى الأغنية . تستعيد الكلمات ، وتربط بينها وبين رحيل أعزاء : عمتى تفيدة التى قتلها السرطان فى سن باكرة .. جارة ارتفعت علاقتها بها إلى مستوى الأخوة .. أخوال وأعمام لها مضى على رحيلهم عشرات السنين .. أسماء كانت ترددها فلا أعرف أصحابها ، وإن كنت على ثقة أن عمتى أدرجتهم فى قائمة الأعزاء الذين تحرص فى كل مناسبة ـ وأحياناً بلا مناسبة ـ أن تذرف الدمع على رحيلهم..
    ما كان يثير عجبى ، قدرة عمتى المذهلة على التحول من البكاء إلى الضحك . تعجبها النكتة التى تريد انتزاعها من إطار الحزن ، فتضحك . لا تمهيد للتحول من حال إلى حال مغاير . ربما تذكرت هى نفسها ما يدفع بالابتسامة ـ فالضحكة ـ إلى شفتيها . ثم تروى ما تذكرته ، وتوشيه بالألوان والظلال ، فتجتذب اهتمامنا ..
    كانت عمتى سيدة مصرية .
    Reply With Quote  
     

  5. #29 رد: النص الكامل لكتاب «أغنيــــــــــــات / نصوص سردية قصيرة »، للروائي محمد جبريل 
    كاتب مسجل
    Join Date
    Jun 2006
    Posts
    1,123
    Rep Power
    20
    * الجسد *

    ...............



    عدت إلى بيت عمتى ذات مساء . رويت للجارة أم فاروق [ الاسم مستعار ] عن الفيلم الذى شاهدته فى سينما الأهلى . اسمه " الجسد " . بطولة هند رستم . المشاهد الصريحة والموحية ، والعبارات المكشوفة ، والهمسات ، والغمز بالعين ، والإشارة باليد ، والمعانى التى يصنعها الخيال ..
    قالت أم فاروق التى كانت تكبرنى بأكثر من عشرة أعوام :
    ـ تلاقى نفسك فى واحدة تمثل معاها فيلم زى اللى شفته ..
    أردفت :
    ـ عمك فرج ـ زوجها ـ ورديته بالليل ، وباكون متضايقة لوحدى . لو لقيت نفسك صاحى ابقى خبّط عليه ..
    عبرت المسافة ـ على أطراف أصابعى ـ بين شقة عمتى والشقة المقابلة . نقرت الباب بطرقات هامسة . طالعتنى أم فاروق . ملامح زنجية ، وشعر أكرت ، منكوش ، وعينان تخالط الحمرة بياضهما ، وترتدى قميص نوم أسود ، مطرز بالدانتيلا ، يصل إلى فوق الركبتين ..
    أقعدتنى على الكنبة فى واجهة الصالة ..
    مالت على بأعلى صدرها تهم بتقبيلى ..
    تراجعت إلى الوراء ، وأنا أضع يدى بين شفتى وشفتيها ..
    قالت :
    ـ مالك ؟
    ـ أبداً .. أنا ماشى ..
    كانت صورة الجنس أمامى ضبابية ، وغير واضحة ، ولم أكن أقمت علاقة ـ جاوزت الكلمات الدافئة ـ مع أية فتاة ..
    مضيت ناحية الباب ، وصوتها المدندن يلاحقنى بسخرية :
    حود من هنـا وتعال عندنا
    ياللا انا وانت نحب بعضنا

    Reply With Quote  
     

  6. #30 رد: النص الكامل لكتاب «أغنيــــــــــــات / نصوص سردية قصيرة »، للروائي محمد جبريل 
    كاتب مسجل
    Join Date
    Jun 2006
    Posts
    1,123
    Rep Power
    20
    * نكتة *

    .......



    دخل أبى حجرتنا ذات مساء . كان فونوغراف قهوة فاروق ـ على ناصيتى إسماعيل صبرى والتتويج ـ يعيد ـ الرقم كبير لا أذكره ـ أسطوانة عبد الوهاب " كليوباترة " ، تخالطها أصوات الرواد ، ونداءات الجرسون ، وحركة الطريق ..
    أسند أبى يده على طرف السرير . بدا أنه يريد التحدث إلينا . توقفنا ـ أخى وأنا ـ عن المذاكرة ، وتطلعنا إليه .
    قال :
    ـ أظن أنكم فى سن تسمح بأن أروى لكم نكتة للكبار فقط .
    روى أبى النكتة . لا أذكرها الآن ، وإن كانت ساذجة للغاية ، وخيبت توقعنا . كنا نستمع فى المدرسة إلى نكت للكبار ، حقيقية ومثيرة !

    Reply With Quote  
     

  7. #31 رد: النص الكامل لكتاب «أغنيــــــــــــات / نصوص سردية قصيرة »، للروائي محمد جبريل 
    كاتب مسجل
    Join Date
    Jun 2006
    Posts
    1,123
    Rep Power
    20
    * السراى *

    ..............



    كنا دائمى التردد على سراى رأس التين . نكتفى بالتطلع ـ من أمام الأبواب التى تفتح وتغلق ـ إلى البنايات والحدائق والجنود ، فى المساحة الممتدة إلى البحر . كانت الحديقة الهائلة المواجهة للسراى هى المكان الذى نقضى فيه أوقاتنا . نذاكر ، ونتبادل الأحاديث ، ونلعب ، ونغنى ..
    كانت ليلى مراد مطربتى المفضلة ، وكنت أقلدها ، وبالذات فى أغنيات فيلم " شاطئ الغرام " ..
    أعدت النظر إلى ما بدا لى مفاجئاً ، وغريباً ، وقاسياً . كان جنود الحرس الملكى يتدربون على إطلاق النار . مجرد أخذ أوضاع التصويب دون إطلاق الرصاص ..
    يبدو أن أحد الجنود تصرف بالطريقة نفسها التى جرّت على إسماعيل يس غضب الشاويش عطية ، فانهال المدرب ـ بكعب حذائه ـ على ظهر الجندى الذى تمدد على الأرض ، واحتضن البندقية . ضربات متوالية ، قاسية ، انتفض لها جسد الجندى دون أن يغادر موضعه ..
    رنوت إلى زملائى أتعرف إلى مشاعرهم . انعكست رؤيتهم لما رأيت ، حزناً يقطر من الوجوه الصامتة ..
    حاولنا أن نستعيد اللحظة التى كنا فيها . أن نذاكر ، نتكلم ، نلعب ، نغنى . لكن الخرس أسكت أفواهنا ..
    لملمنا الكتب والكراريس ، ومضينا ـ صامتين ـ خارج الحديقة ..
    (يتبع)
    Reply With Quote  
     

  8. #32 رد: النص الكامل لكتاب «أغنيــــــــــــات / نصوص سردية قصيرة »، للروائي محمد جبريل 
    كاتب مسجل
    Join Date
    Jun 2006
    Posts
    1,123
    Rep Power
    20
    * دمعة *

    ............



    أتابع أبى وهو يعيد وضع كنكة البن على السبرتاية . لم يعد لتناول القهوة موعد محدد ، إنما هى سلسلة متصلة الحلقات . يعيد كوب القهوة إلى الطاولة بجواره ليبدأ فى إعداد كوب جديد . يطيل وقفته فى الشرفة المطلة على المينا الشرقية . يمضى إلى المطبخ بخطوات متباطئة . يلقى نظرة دون أن يفعل شيئاً ، ويعود . يضيع وقتاً فى إدارة مؤشر الراديو ، ثم يغلقه . يتنقل بيننا حيث نجلس أو ننام ..
    أعرف أنه يعانى ما صرنا إليه . كانت شقتنا أشبه بفندق للكثيرين من عائلتى أبى وأمى ، هم دائمو التردد عليها ، وقضاء الأيام الطويلة معنا ، كأن أفراد الأسرة الخمسة قد أصبحوا عشرة أو أكثر . وكانوا يملأون البيت بالونس والحياة ، ويدخلون مع أبى فى مناقشات ، ويظهرون له عظيم الاحترام ..
    فقد أبى ـ بتأثير المرض ـ وظائفه فى الشركات الثلاث التى كان يعمل فيها . لم يعد يترك البيت إلا لزيارة الأطباء ، وتقلصت موارده المادية إلى حد الندرة . إنما هى رسائل قليلة يترجمها من لغة إلى أخرى ، أنقلها من الشركات إليه ، ومنه إلى الشركات ، وأعود بقيمة المكافأة فى أظرف مغلقة ..
    تبدّل الحال تماماً . مشاركاتنا مع الأقارب فى صنع الحياة داخل الشقة شحبت تماماً ، كأن إيقاع الحياة لا يعلو إلا بوجودهم . انطوى كل منا على نفسه ، يذاكر ، أو يقرأ ، أو يتشاغل بما يجده بين يديه ، وخلا أبى ـ مضطراً ـ إلى نفسه لا يجد ما يفعله . يطالع قواميس اللغة للاستزادة ـ كما كان ينصحنا ـ من المفردات ، ويهب وقتاً أطول فى قراءة الصحيفة الوحيدة التى استبدلها بالصحف الخمس ، ما بين عربية وأجنبية . يعاوده الخوف من تصور الأذى على أيدى من لا نعرفهم ، أو لا نصدق أنهم يفعلون ذلك . يعروه الملل ، فيفعل ما يدفعنا إلى متابعته بقلق . إذا عرضنا عليه مشكلة تتصل بأحدنا ، أو بالبيت ، اكتفى بالقول : اتصرفوا . وكان يظهر التململ ، ويثور بلا مناسبة ، فنتركه فى حاله ـ والتعبير له ـ ونخلو إلى ما ننشغل به . حتى الأغنيات التى كان يتذوقها فى الأيام الخوالى ، كنا نستمع إليه وهو يدندن بها بصوت متعب ..
    مسحت شقيقتى دمعة من عينها وهى تنصت ـ فى إشفاق ـ إلى استعادته أغنية صالح عبد الحى :
    ليه يا بنفسج بتبهج وانت زهر حزين
    لماذا هذه الأغنية ؟
    Reply With Quote  
     

  9. #33 رد: النص الكامل لكتاب «أغنيــــــــــــات / نصوص سردية قصيرة »، للروائي محمد جبريل 
    كاتب مسجل
    Join Date
    Jun 2006
    Posts
    1,123
    Rep Power
    20
    * غريب الدار *

    ..................



    كان صوت عبده السروجى يعلو فى جهاز الراديو بالأغنية الجميلة : غريب الدار عليه جار .. جفانى القاسى وهجرنى ..
    أعطيتها وجدانى ، بحيث أنى نسيت المشكلة ، المأساة ، التى كنا نعانيها . الإذاعة ـ كما تعلم ـ لا تنسق برامجها وفق أوضاع الناس ، أو ما يعانون من ظروف ، ولا حتى متطلباتهم الملحة . وبالتأكيد فإنه لا يشغل الإذاعة إلا أن تنوّع فى برامجها ، فى امتداد اليوم ، بما يرضى كل الاهتمامات والأذواق ..
    كنا نعانى ظروفاً قاسية ، امتدت منذ ما قبل وفاة أبى إلى ما بعد رحيله بعامين . لم نعد نملك مجرد دفع إيجار الشقة . تراكم الإيجار ، فأبلغنا عم أحمد البواب ـ ذات صباح ـ أن الابن الأكبر للطبيب محمود عبد اللطيف موسى ـ مالك البيت ـ سيزورنا لمناقشة ما يمكن فعله ..
    أيقظنا صوت الجرس من جمال الأغنية ، ومن أنفسنا ، ومن كل شئ ..
    أومأ كل منا إلى الآخر ليفتح الباب . كان أخى على أجرأنا ..
    ألقى الرجل تحية هادئة ، ودخل . بدا فى حوالى الأربعين [ عرفت ـ فيما بعد ـ أنه كان قائمقاماً ـ عقيداً يعنى ـ ويعمل مأموراً لمركز كفر الدوار ] يرتدى جاكت كحلى له صفان من الأزرار ، ويبين فى الجيب العلوى منديل أبيض ، ووضع فى إصبعه خاتماً ، وتدلت من ساعده ساعة ذهبية , ويستند إلى عصا أبنوسية ، ربما من قبيل الوجاهة ، أو اصطناع الوقار !
    أشار إلى الراديو ، فأغلقناه ..
    جلس ، ووقفنا صامتين ..
    لمحت فى عينيه ما يشبه الإشفاق أو التعاطف ، وهو ينظر إلى وقفتنا المتناثرة ، الصامتة ، الخائفة ..
    ـ ما بتدفعوش الإيجار ليه ؟
    قال على :
    ـ إن شاء الله الفلوس تيجى قريب ..
    وهو ينقل الإشفاق إلى تعبيرات وجهه :
    ـ فين يا ابنى .. المسألة طالت ..
    وأردف :
    ـ المهم .. عندى اقتراح .. ممكن أنقلكم لشقة تانية من غير إيجار ..
    صرخت بعفوية :
    ـ لا ..
    دلق الرجل اقتراحه ببساطة ، دون أن يعى التأثير القاسى الذى سيحدثه فى نفوسنا . الشقة ليست مجرد جدران . إنها البيت ، الموطن . الطفولة ، والنشأة ، وأيام العز ، والمواكب الرسمية من سراى رأس التين وإليها ، وحواديت جدى ، وليالى رمضان ، والعيدين ، ومواكب الجلوة ، والجلوس تحت جهاز الراديو لسماع تلاوة محمد رفعت ـ تأثراً بأبى ـ وأحاديث بابا شارو ، وتمثيليات على بابا وقسم وعوف الأصيل ، والمذاكرة ، ومرض أمى وأبى ، وموتهما , واللعب فى الشارع الخلفى ، ونداءات عم أحمد الفكهانى على بضاعته ، وتناهى الأذان من سيدى على تمراز ، وطرقات مغاورى بائع الخبز ، وتأمل صيد المياس فى المينا الشرقية وقت العصارى ، ولعبة السلم والثعبان مع عادل الصبروتى على بسطة السلم ، وقراءاتى فى مكتبة أبى ، وفى الشقة المقابلة ، وخطب الشيخ عبد الحفيظ فى صلاة الجمعة . أعى كلماتها ، وأتساءل : ألا يخشى الملك والحكومة ؟..
    تنقلت نظرة الرجل بين إخوتى . أظن أنه وجد فى الملامح استجابة لصرختى الرافضة . قال وهو يطوح عصاه الأبنوسية :
    ـ ربنا يعمل اللى فيه الخير ..
    وسكت الرجل ـ فى الأشهر التالية ـ عن المطالبة بالإيجار المتأخر ، المتراكم ، حتى ظهر لأبى نقود ، شغله المرض عن تسلمها من شركة الجراية لتصنيع الورق ..
    أتذكر الإيجار ، فيفزعنى الوضع المأساوى الذى كنا نحياه . كانت قيمة الإيجار ـ كل شهر ـ مائتين واثنين وأربعين قرشاً !
    Reply With Quote  
     

  10. #34 رد: النص الكامل لكتاب «أغنيــــــــــــات / نصوص سردية قصيرة »، للروائي محمد جبريل 
    كاتب مسجل
    Join Date
    Jun 2006
    Posts
    1,123
    Rep Power
    20
    * والله تستاهل *

    .....................



    المعهد الدينى بالمسافرخانة . الباب الحديدى الضخم ، والردهة الواسعة فى الطابق الأول ، والإضاءة الداخلية التى تغنى عن إغلاق النوافذ فى وجه النهار ، والسلالم المفضية إلى الطوابق العليا ، والطرقة الدائرية الممتدة ، على جانبها الحجرات المغلقة ، والمواربة ، والمفتوحة ، يتناهى من داخلها ـ فى الأغلب ـ صخب متلاغط لا أستطيع تبينه ..
    بدأت فى التردد عليه ، بعد أن تعرفت إلى أحد طلبته فى سينما الأنفوشى . انشغلنا عن متابعة الفيلم بمناقشة لا رابط بين مفرداتها . تبين كل منا فى صاحبه أنه يحاول الكتابة الإبداعية ..
    زرته فى المعهد ..
    تعرفت ـ بواسطته ـ إلى أصدقاء آخرين ، تعددت اهتماماتهم ، لكنهم شكلوا عالماً لم يسبق لى الحياة فى داخله . الجبب ، والقفاطين ، والعمائم ، وقراءة الألفية وكتب الفقه والتراث ، ومناقشة قصائد المتنبى والبحترى وشوقى وحافظ وأحمد محرم ، وكتابات طه حسين والعقاد والزيات ، واختلاف الآراء فى الأحوال السياسية ، ورواية الحكايات ، وارتفاع الضحكات للنكات البذيئة ، وأدوار الشاى ، وأحاديث النميمة ، والنداءات ، والصيحات ، والشتائم ..
    مع تقدم الليل أتهيأ للانصراف ، لكن الدعوات الملحة تدفعنى إلى السهرة الترفيهية التى يحرصون عليها . طالب ـ أذكر من اسمه عيد ـ له وجه دهنى ، دائم التفصد بالعرق ، وشفتان غليظتان ، وصوت جميل . لديه قدرة على اكتساب الصداقات . يغيب التكلف عن تصرفاته . يتحدث فى ألفة ، وبوقائع من حياته الشخصية . يكتفى ـ بعد انتهاء الدروس ـ بنزع الكاكولا ، والاقتصار على القفطان .
    يدور علينا بنظرة متسائلة :
    ـ ماذا تريدون ؟
    تتعدد الرغبات . ثمة من يطلب تواشيح دينية ، ومن يستعذب صوت أم كلثوم ، ومن يصر على عبد الوهاب أو السنباطى أو الأطرش ..
    يعلو صوت عيد بمقاطع من الأغنيات تلبى ما يريده الجميع . تبدو الألحان ـ فى هدأة الليل ـ كأنها علوية ، أو كأنها السحر ..
    تفاوتت أصداء أغنيات عيد فى ذاكرتى بين الوضوح والخفوت . أغنية وحيدة أستعيدها ـ حتى الآن ـ أحياناً ـ وأدندن بها ، ربما لأنى أحببتها ، أو لأن عيد كان يهب أداءها ذوب وجدانه ، أو لأنه كان يحرص على أن تكون ـ دوماً ـ ضمن اختياراته اليومية من الأغنيات ..
    كان يسند وجهه إلى راحة يده ، ويغمض عينيه ، ويمد رقبته ، كأنه يتهيأ لأذان ، أو لتلاوة قرآنية ، ثم يعلو صوته بأغنية سيد درويش :
    والله تستاهـل يا قلبى .:. ليه تميل ما كنت خالى
    انت أسباب كل كربى .:. انت أسباب ما جرى لى
    Reply With Quote  
     

  11. #35 رد: النص الكامل لكتاب «أغنيــــــــــــات / نصوص سردية قصيرة »، للروائي محمد جبريل 
    كاتب مسجل
    Join Date
    Jun 2006
    Posts
    1,123
    Rep Power
    20
    * عشق البحر *

    .................



    محمد خاطر السيد ..
    أستمع إلى أغنية " على بلد المحبوب " ، فأتذكره ..
    كان صديقاً مشتركا لمحمد حافظ رجب ولى . مضت عشرات الأعوام على آخر لقاءاتنا القصيرة ، المتباعدة . يبدو كل شىء مغلفاً برمادية شاحبة : الملامح الظاهرة ، وبداية الصداقة ، وأماكن اللقاءات .
    كنت فى حوالى السادسة عشرة . وجدت فيه اكتشافاً جميلاً للمناقشة فيما أقرأه ، ومحاولات الكتابة الأولى ، وفى حكاياته عن الحياة فوق أسطح البواخر ، وداخل المطابخ والغلايات ، والموانى والمدن التى يشاهدها بتمازج الفضول والدهشة . البنايات والشوارع والساحات والعادات والتقاليد والعلاقات العابرة والصفقات الهامسة فى الأركان الملتفة بالشحوب والحوادث الطريفة والمآزق . يستعيد أغنية أم كلثوم : يا مسافر على بحر النيل .. أنا ليه فى مصر خليل ..
    يضغط على كلماته :
    ـ مع ذلك ، فأنا أعشق البحر بلا حدود .. أعشق رحلاته ، والحياة المتجددة على أمواجه ..
    سافر فى إحدى رحلاته . بعث برسالتين أو ثلاث ، تحدث عن المدن التى يتنقل بينها ، فلا يتاح له العودة إلى الإسكندرية . ثم انقطعت رسائله ، ولم نعد نلتقى ..
    أستمع إلى أغنية أم كلثوم . أستعيد لقاءاتى بمحمد خاطر السيد : أحاديثه ، وكتاباته ، وعشقه المطلق للبحر ، والسؤال الذى تحركه الصور والرؤى والأخيلة : متى يتاح لى ركوب البحر ؟!
    Reply With Quote  
     

  12. #36 رد: النص الكامل لكتاب «أغنيــــــــــــات / نصوص سردية قصيرة »، للروائي محمد جبريل 
    كاتب مسجل
    Join Date
    Jun 2006
    Posts
    1,123
    Rep Power
    20
    * الجيران *

    .........

    بدأ السائق والعتال ـ يساعدهما عم أحمد البواب ـ فى إنزال الأثاث من عربة النقل إلى الرصيف ، أمام البيت . عرفنا أن سكان الطابق الثانى الجدد وصلوا ..
    أطلت الوجوه ـ بالفضول ـ من النوافذ والشرفات وأبواب الدكاكين . لم ألحظ ـ فى الأيام الأولى ـ هوية السكان الجدد : هل هى أسرة صغيرة العدد أو كبيرة ؟ وهل لها أولاد فى مثل سنى ، فيتاح لى صداقتهم ، واللعب معهم فى الشارع الخلفى ؟
    فى اليوم الرابع ، لمحت من الشرفة المطلة على شارع إسماعيل صبرى فتاة فى مثل سنى ، فى الرابعة عشرة أو أقل بشهور ، تتابع حركة الطريق بنظرة متأملة .
    أهملت النظرات من دكاكين الشارع ، ترصد الإشارات والهمسات بين الشرفات والنوافذ المتقابلة . حدقت النظر . اجتذبنى الشعر المنسدل إلى كتفيها ، والرموش الطويلة تظلل عينين واسعتين ، والأنف الدقيق ، وسمرة الوجه الرائقة .
    رأيتها ـ بعد أيام ـ تسبقنى فى النزول إلى الطريق . مضت ناحية شارع فرنسا . أبطأت من خطواتى ، فلا يبدو أنى أحاول ملاحقتها . الشارع نفسه هو طريقى إلى مدرستى فى محرم بك ..
    تعددت ـ فيما بعد ـ لقاءاتى الصامتة بها ، على السلم ، أو فى شوارع الحى . ورأيتها فى النوافذ والشرفات التى تطل من البناية المتفردة على أربعة شوارع . شغلنى أمرها بما لم أكن أعرفه من قبل . أحاول ضبط موعد ذهابها إلى المدرسة أو عودتها منها ، وقفتها المتأملة فى النافذة قبل أن تنسحب الشمس من واجهات البيوت ، نزولها إلى شارع الميدان ، تشترى لوازم أسرتها ، فهى أصغر الأخوة لوالدين أدركهما الكبر : رجل فى حوالى الثلاثين عرف طريقه منذ اليوم الأول إلى مقهى المهدى اللبان أسفل البيت ، وصبى وفتاتان فوق رءوس بعض ، حسب التعبير الشعبى ..
    كانت مشاوير الولد إلى فرن التمرازية ، والطنطاوى بائع الفول فى شارع التتويج . أما البنت فكانت تشترى الخضر واللحم والبقالة من شارع الميدان ..
    مديحة !..
    لا أذكر من نطق الاسم أمامى .. لكن مجرد معرفتى الاسم أضاف إلى انشغالى بها ..
    ترامى صوت عبد الحليم حافظ بالأغنية من نافذة لم أتبينها فى البناية المقابلة :
    يا صحابى ، يا أهلى ، يا جيرانى .. أنا عايز اخدكوا ف أحضانى
    تدبرت الكلمات . استوقفنى حضن الجيران الذى تمناه عبد الحليم ، وتمنيته ، وإن لم يداخلنى ـ كم طالت أعوام عذريتى ! ـ أية مشاعر حسية ..
    عرفت السهر والمتابعة والشرود والنظر ـ بلا مناسبة ـ إلى شرفات ونوافذ الطابق الثانى ، وملامح البنت فى كتاب المذاكرة ..
    أدركت أنى أحب .
    Reply With Quote  
     

Similar Threads

  1. Replies: 20
    Last Post: 04/08/2008, 02:12 PM
  2. Replies: 24
    Last Post: 13/07/2008, 08:24 AM
  3. النص الكامل لمجموعة «ما لا نراه» لمحمد جبريل
    By د. حسين علي محمد in forum مكتبة المربد
    Replies: 19
    Last Post: 25/01/2008, 08:26 AM
  4. Replies: 18
    Last Post: 23/12/2007, 11:20 AM
  5. Replies: 0
    Last Post: 08/12/2007, 06:09 PM
Posting Permissions
  • You may post new threads
  • You may post replies
  • You may not post attachments
  • You may not edit your posts
  •