سلام الله عليكم
مشاركة العضو ماجدة2 في مسابقة المربد الأدبية الثانية، قسم القصة
الاسم الصريح : أمجاد مفتاح لكني لا أحبذ ذكر اللقب علنا لو ذلك ممكن
القصة المقترحة للمشاركة : هي القصة الأولى
القصة الاولى:
رحلة قبل النوم
آويت إلى فراشي ، كعادتي في كل ليلة بعد يوم لم يكن مختلفا عن باقي الأيام ، حافل بالأعمال اليومية الرتيبة. يطل البدر عبر نافذتي ليطرد عني النعاس. يتناهى إلى مسمعي صوت والدتي في الغرفة المجاورة و هي تحدث والدي. صوتها يعيد ذاكرتي إلى الوراء، إلى كل حياتي الماضية، إلى أيام الطفولة البريئة، إلى اللحظات السعيدة و الأليمة التي مرت بأسرتي الصغيرة.... مع ذلك ، لم أعرف سوى تلك السعادة ....لم أعرف سوى ذاك الألم. ً " وَ مَا الحَْيَوةُ الدّنْيَا إِلا مَتَعُ الْغُرُورِ" ...كثيرا ما يردد والدي هذه الآية الكريمة ثم يقول لي : لو تدرين يا بنية أن ألم الدنيا ليس ألما و لا سعادتها سعادة. ـ مع ذلك ألمها مؤلم يا أبي أليس كذلك ؟ ـ صبر جميل يا بنيتي ...صبر جميل . أسترجعُ مرارا هذه الكلمات لوالدي....ترى ماذا سيحِلُ بقلبي لو فارق الأحبة ؟ و ماذا عني لو كنتُ أولَ الراحلين ؟ ....كم هي صعبة هذه الحياة الدنيا و لو كانت متاع الغرور....تُرى هل سأصمد فيها ؟... هل سأصبر صبرا جميلا إلى آخر لحظة؟....إلى آخر زفرة أودع معها حياتي في هذا العالم....حياتي التي لم أعرف غيرها.....ما المصير بعد ذلك؟..........هل إلى حيث السعادة الأبدية ؟ أم إلى حيث الشقاء الأبدي؟ ....أتخيل شيئا من معالِمِ الشقاء . لا أرى صورة واضحة بل ومضات ، فقط ومضات ...لسعير و صوت الحسيس .....و بقاء أبدي....يا لهول المشهد!! لا أقوى على المتابعة ، صاعقة الخوف تضرب قلبي و تسري بكل جسدي و تُجمِدُ ذاك الخيال. رباه لست أقوى على تخيل شيء من العذاب ....كيف سيكون حالي حيث العذاب؟؟؟؟.....تلتفُ الهواجس بي و تُرَدِد : كيف سيكون حالك حيث العذاب؟؟؟؟ لا أقوى على الإجابة، أحاول الفرار بخيالي بعيدا.......إلى حيث الجنة، تلُفُنِي الهواجس من جديد: و من أدراكِ أنكِ من أهلها؟ ....تخنقني العَبَرات ، أذرِفُها كالسيول على وسادتي التي تحفظ كل أسراري. بكيت طويلا بكاءا صامتا يوجِعُ القلب حتى لم أعُدْ أقوى عليه. تَمَلكَنِي التعب و تثاقل جفناي فأطبقتُ عيناي عَلَّنِي أنام. لكنني لم أنم، ظلمة الجفون تَمْثُلُ أمامي ، ثم ماذا بعد ذلك ؟ هل كان ضربا من خيالي ما رأيتُ ؟.....رأيتُ وميضا يَشِّعُ في الظلمة ، ثم وجها بملامح باهتة، لم أعرفه، ثم عينا تنفتِحُ و تُرْسِلُ نورا، ....ثم أشعة و كأنها للشمس.....ارتسمت بها كلمة "الله" ، ارتسمت بعِدَةِ خطوط عربية ، كم كانت جميلة بكل تلك الخطوط....إنها تبعث فِيَّ الأمان، تُشْعِرُنِي بطمأنينة و أُنْسٍ و سكينة تسري في كل جسدي و تَلُفُنِي ..... و تَلُفُنِي .... و تَلُفُنِي.... و تَلُفُنِي، كم أشْعُرُ بذلك و بِكُلِ الدفء. رحل الخوف بعيدا ...ما عُدْتُ أذْكُرُه....تتبادر كلمات إلى خَلَدِي : ما أرْحَمَكَ يا ربي ! . لم أذكر بعد ذلك شيئا ، لا بد أنه النعاس أخذني. أفَقْتُ على صوت المؤذن يوقظني لصلاة الفجر، إنه يوم جديد لكنه ليس رتيبا ...سعادة داخلية تغمر قلبي.
القصة الثانية:
نصف جسد
يحِلُ الخريف فيُحَبِبُ إليَّ العودة إلى البيت سيرًا على الأقدام. ألتَقِي به من حين لآخر في طريق العودة . يَنْقَطِعُ حبل أفكاري، و كذلك شرودي ، كلما رأيته ، و شَرْخٌ يُمَزِقُ قلبي تألما لحاله. "نصْفُ جسد" يَرْتَكِزُ على يديه و يتنقل بسرعة مخافة أن تصدمه سيارة أو يُعَرْقِلَ سَيْرَ المارَّة. أتتبَعُهُ بنظراتي لكنه سرعان ما يختفي بين المارَّة. أتابع بقية طريقي و الانكسار يملأ قلبي: يا لغفلتي و جحودي.....إنه يظهر في كل مرةٍ أسْتَسْلِمُ فيها للبؤس و التعاسة، يذكرني كيف أني في كل مرة أحْرِمُ نفسي من رؤية النعمة و تذوق النعمة و شكر النعمة. أي هموم هذه التي تَسْلُبُنِي و تُعْمِينِي ؟ و نِعَمُ ربي تغمرني، نعمة البصر و السمع و الجسد و الصحة...و....فلتَرْحَلِ الهموم بعيدا بعيدا......بعيدا.
وصلت إلى البيت و انقضى اليوم. مرت بضع أسابيع لم أره، افتقدته بعض الشيء، قلِقْتُ قليلا، ثم مر الوقت و خَفَّ القلق و انغَمَسْتُ في دوامة الحياة.
في يوم من الأيام، قادتني الخطوات إلى أحد المراكز التجارية، حديثة المنشأ، فَرُحْتُ أتجَوَلُ في أرجائها، إشباعا لفضولي ، وبينما أنا كذلك إذا بي ألْمَحُهُ من جديد. لم يكن على مسافة بعيدة، و لكن ماذا يفعل هناك؟ ...تقدَمْتُ بِضْعَ خطوات لأرى لكنني لم أزد بعدها خطوة تالية، تَصَلَّبْتُ في مكاني لِمَا رأيتُ....كان ينظف أرضية المتجر بنشاط و حيوية عجيبين، غَيْرَ آبهٍ بالزبائن الذين يتحركون يمينا و يسارا ، ذهابا و إيابا. منهم من يتأثر بالمشهد فيحاول تجنب المساحة التي ينظفها، منهم من يعطيه بعض النقود و منهم من يمر كالثور لا يلاحظ شيئا. دون تفكير وجدت نفسي أقترب منه و أعطِيهِ نقودا. شكرني بحرارة. سِرْتُ بضع خطوات إلى الأمام لكنني سرعان ما عُدْتُ إليه، سألته: هل يمكنني التقرُّبُ منكَ و محادثتك ؟ أجابني و الدهشة ترتسم على محياه: يمكنك ذلك يا سيدي .ـ أين يمكنني أن أجِدَكَ؟ ـ ستجدني إن شاء الله مساء كل يوم أربعاء في المتنزه العمومي حيث بِرْكَةُ البطِّ.
كانت تلك البداية لصداقة بيننا دامت 10 سنوات ، ثم كان بعدها الفراق الذي لا لقاء بعده في الدنيا. لكن روحَهُ ظلَّتْ تزورُنِي في منامي، من حين لآخر ، و تحدثني عن الجنة.
القصة الثالثة:
قطعة ليست كباقي القطع
أخيرا أقِيمَ معرضُ الأواني الفخارية الذي طالما انتظرتُهُ. و ما زاد من حماستي لزيارته أنه نُظِّمَ في المكان الذي تُصْنَعُ فيه القطع، و هذا ما يعني أني سأتمكن أيضا من رؤية الأفران و المواد الخامة و الأيادي المبدعة في هذه الصناعة. مع طلوع شمس ذلك اليوم، الجميل، حَمَلتُ آلة التصوير الرقمية ، خاصتي، و توجهتُ صوبا إلى المكان، جمع غفير يدِبُّ في الأرجاء. دَخَلْتُُ عبر المدخل الرئيسي لأجِدَ نفسي في رواق واسع و طويل، اِصْطَفَّتْ على جانبيه عدة غرف، و كانت الغرفة الرئيسية حيث المعروضات تتوسط نهاية الرواق.
اِرْتَأَيْتُ أن أبدأ بأول غرفة على يميني. فيها عُرِضَتْ مجموعة من المواد : قطع من صلصال صلب أحمر و رمادي، حجارة متألقة، باردة الملمس، صفراء ، بيضاء و بنية. عجائن طين رطبة و مواد أخرى لم أعرفها. وَدَدْتُ أن أسأل مشرف الغرفة عن ماهيتها لكنه كان منشغلا بالحديث إلى مجموعة من السياح، و كم يطول الحديث مع السياح! . اكتفيتُ بالتقاط بعض الصور ثم توجهتُ إلى غرفة ثانية. قابلني باب ضخم، لا بد أنه للفرن، لم يكن مغلقا تماما ، من خلال الفتحة تمكنتُ من رؤية بعض الأواني بداخله، تأملت جدرانه الداخلية ، كان مشتعلا و ساخنا . فاجأني صوت أحد الزوار مازحا: ماذا لو تدخلين بداخله و ألتقط لكِ صورة !! ، أجبته: يا لروعة الفكرة!...و هربتُ من المكان . واصلتُ تنقلي بين بقية الغرف، أخذتُ صورا للحرفيين و هم يصنعون أشكالا مختلفة: مزهريات ، صحون، أوعية....تُزَيَنُ بعد ذلك بزخارف في غاية الدقة و الجمال ثم تحفظ في غرف خاصة.
توجهتُ أخيرا إلى الغرفة الرئيسية ، كانت واسعة و ضَمَّتْ أجمل التحف : نماذج من الخزف الأبيض الناصع ذي النقوش الزرقاء الجميلة، أخرى من البورسلان تكاد تكون شفافة و أواني فخارية مختلفة الألوان و الزخارف طُلِيَتْ بطبقات زجاجية أكسبتها بريقا رائعا.
بينما كنتُ أتنقلُ بين تلك التحف، لمَحْتُ في إحدى زوايا الغرفة قطعة لم تكن تشبه أيا من النماذج المعروضة. بَدَتْ لي عادية جدا في البداية، و في غاية البساطة. تساءلتُ : تبدو عادية ، كيف عُرِضَتْ هنا؟ . اقتربتُ و حملتها. كانت بشكل إناء سميك من الفخار، كبير بعض الشيء، تُرِكَ بلونه الأحمر الطبيعي. تدويرُهُ لم يكن مثاليا، و كأنه شُكِّلَ باليد فقط دون الاستعانة بآلة التدوير. على جوانبه رُسِمَتْ تشكيلة تشبه رسما تجريديا تعبيريا، ضَمَّتْ خطوطا و مربعات و أوراق لشجر القيقب، وُضِعَــت بطريقة عشوائية حَضَرَ فيها اللون الأصفر و الأحمر و البني و الأسود. الألوان لم تكن بطلاء خارجي بل بَدَتْ مُنْدَمِجَة مع مادة الإناء.
شَعَرْتُ بِأُلْفَةٍ مع هذا الإناء ، و كأنه يحكي قصة. رَفَعْتُ بصري أبحث عن المشرف ، لم يكن بعيدا. حَالَ نظري إليه شَعَرْتُ بأنه كان يرقبني طيلة تفحصي للإناء، زاد فضولي، سألته: هل صُنعَ هنا؟ لا يشبه غيره! ـ كلا يا سيدتي ، هذا الإناء من المجموعة التي يصنعها والدي بنفسه، و هو شيخ كبير، و من حين لآخر، يُحِبُ أن نعرضَ شيئا منها هنا. ـ شَكْلُهُ يوحي بأنه مصنوع باليد ـ هو كذلك ـ و ماذا عن الألوان ؟ تبدو مُْدمَجَة؟ ـ يستعمل حجارة خاصة، يأتي بها من الوادي ، يكسِرُها و يدُقُهَا جيدا حتى تصبح مسحوقا بِلَوْنِ الحجارة المستخدمة، يضيف لها مادة دهنية طبيعية فيحصلَ على الطلاء الذي يستعمله في الرسم. عند الانتهاء ، يُدْخِلُ الإناء في الفرن مدة كافية حتى يجف الطلاء، يدهنه من جديد بدهن شفاف ، يعيد إدخاله في الفرن لِيَحْصُلَ في الأخير على هذه النتيجة أين تبدو الألوان مدمجة.
تأمَلْتُ القطعة من جديد: تحفة والدك مميزة ، فهي تحمل أكثر من قيمة شكلية جمالية، طريقة صنعها، الألوان و الرسومات ، البساطة، كل ذلك يُشْعِرُكَ بأنها شيء قديم يحكي مراحل وجوده في هذا العالم ، و يحيي في النفس إحساسا عميقا ، ربما حنينا إلى الماضي.... .أجابني بشيء من الدهشة و الانكسار : قليلٌ من يلحَظون ذلك ، بل لا أحد يلْحَظُ ذلك مطلقا، إنهم ينبهرون بالجمال الظاهر الأخَّاذ لهذه التحف التي تملأ المكان، و لا أحد ينتبه لهذا الإناء، يكاد يكون غير مرئي أو معدوما ، و قد يعتبر طفرة غريبة إذا ما انتبه إليه أحدهم. استرسل بعض الشيء في حديثه: البساطة و المعاني العميقة أمْسَتْ مفاهيم غريبة اليوم، لا أحد يَفقَهُهَا.
تأثرْتُ بكلماته ، سألته: سيدي هلا أرشدتني إلى والدك ؟ أرغب أن يصنع لي قطعة كهذه. تحرَّجَ قليلا: سيدتي أشكر هذا الاهتمام و التفاعل منك لكنني لا أجْبِرُكِ على اقتناء مثل هذه القطعة، خذي حريتك في اختيار أجمل ما تحبين . ـ أحببتُ هذه القطعة و لا أريد غيرها ـ لمس الصدق و الجدية في إجابتي ، ناولني عنوان والده.
نسيتُ أمر المعرضِ و المعروضات!
وجدتُ نفسي أخرج من المكان بسرعة ، متوجهة إلى ضاحية ريفية ، حيث الجبل و الوادي و أشجار القيقب، حيث يمكنني أن أجد ذلك الشيخ.