وداعا دكتور طه وادى .. رحيل رجل من النور والبنفسج
بقلم: إبراهيم محمد حمزة
.................................
سطور قليلة بجريدة " الأهرام " ومقال يتيم بصحيفة" الوفد " ومجموعة إشارات على الإنترنت بث معظمها دكتور حسين على محمد – تلميذه النجيب – هذا حصاد تاريخ أكثر من نصف قرن حمله الدكتور طه وادى على كتفيه ، مبدعا وأستاذا جامعيا وناقدا مرموقا ؛ صدمنى خبر رحيله ؛ حيث رحل فى صمت عجيب وكأن هناك مؤامرة ضد سيرة طاهرة ، ضد رجل لا يجيد فن الدعاية ، الرجل الذى عاش عمرا طويلا نصيرا للخير والحق والجمال ؛ الرجل الذى سجن عينيه فى الورق نصف قرن ، بخل عليه الورق بنصف صفحة ؛ لم يتساو مع فتى هارب من فريقه أوقف الدنيا عنده ، بين محللين ومعالجين ومخرفين ، وأستاذ بقيمة طه وادى يرحل ملتحفا بسكونه هكذا
.
- حياة هادئة .. وجهود صاخبة :
شرفت بالتلمذة على الدكتور طه وادى بالسنة النهائية لى بقسم اللغة العربية بجامعة المنصورة ، وقد كان الرجل نموذجا للعلم المغلف بالتواضع المذهل ، أذكر أنه كتب مقالا بمجلة الهلال ديسمبر 1993م كان عنوانها " فى ذكرى صاحب القنديل " وصادف أن نشرت قصصا قصيرة جدا فى نفس العدد فى صفحات القراء ، وحين رآها وكنا بمكتبه ، قال لى : زميلى العزيز .. أنت تلعب فى ركن لا يشاركك فيه أحد ، فحافظ على ممتلكاتك ".
كانت محاضرات الدكتور طه وادى مثل كتبه .. بسيطة فى الظاهر عميقة فى جوهرها ، كان صدقه مع نفسه ومع تلميذه ومع قارئه سببا فى عرضه الميسر لقضاياه الأدبية رغم عسر الموضوع ، كان بسيطا فى عمق ينفذ سريعا للجوهر ، أشار فى مقال له إلى لغة يحيى حقى بأنها كانت خالية من " الحفلطة والحزلقة " هكذا كان مزاجه العام .. فى كتاباته العديدة كناقد نجده عالج مختلف الفنون ففى القصة القصيرة أصدر كتابه الهام " القصة ديوان العرب " عام 2000م كما قدم كتابا تطبيقيا بعنوان " القصة السعودية القصيرة " قسمه إلى قسمين أولهما دراسة نقدية لعناصر القصة ومعناها واختلاف النقاد حول مفهومها ، ثم أتبع ذلك بشهادات للمبدعين السعوديين ، ثم ضم الكتاب نماذج للقصة السعودية لكتاب مثل إبراهيم الحميدان وتركى العسيرى وحسين على حسين وخيرية السقاف ورجاء عالم ورقية الشيب وغيرهم ..
ويبدو الراحل فى كتابه – كما فى كل إبداعاته عربيا خالصا ؛ مصريا شديد المصرية ، فقد أصر أن يطبع كتابه عن القصة السعودية فى مصر "سلسلة " آفاق عربية " ويهديه إلى " الطفل العربى ، صانع الحلم القومى .. حلم العلم .. التقدم ، الحرية ، الوحدة ، الذى اتمنى أن يولد وسط دهاليز عصر العولمة "
أما عن الرواية فقد خصها بكتب رائدة مثل " صورة المرأة فى الرواية العربية " الذى كان فى الأساس رسالته للدكتوراه 1971 م يقول : " ربطني هذا الموضوع منذ وقت مبكر بقضية المراة وأدب المرأة، بل لقد ترك تأثيرات كيبرة على ابداعي القصصي والروائي" . ولذا كان الدكتور وادى أول من أشاع مصطلح "كتابة المراة" بجانب مصطلح "أدبيات القصيدة" في الدراسات النقدية.
وفى الرواية أيضا أصدر كتابه الهام " دراسات فى نقد الرواية " جامعا فيه بين الدراسة النقدية البديعة لأعمال المنفلوطى وجورجى زيدان بشكل منهجى عبقرى جمع فيه بين يسر العرض وعمل التامل فى المنهج الروائى للكاتبين مقيما تجربة كل منهما وكذلك قدم فصلا رائعا عن رواية " الطوق والأسورة " رائعة الراحل يحيى الطاهر عبد الله ، ثم خصص قسما للمترجمات فى الموضوع ذاته عن الرواية السياسية وغيرها من المترجمات . وكذلك كتابه " مدخل إلى تاريخ الرواية المصرية " وكما رأينا إبداعه النقدى فى القصة والرواية فقد أصدر كتبا نقدية عن الشعر لعل أشهرها كتابه الهام " شعر ناجى .. الموقف والأداة " ثم كتابه النادر " الشعر والشعراء المجهولون " والذى فاز وقتها بجائزة جامعة القاهرة " وأيضا دراسته العميقة " جماليات القصيدة العربية " . ومن الشعر إلى المسرح وجدنا كتابه " شعر شوقى الغنائى والمسرحى " .. وقد أبدع فى الكتابة عن الشخصيات فقدم تعريفا طيبا بالعظيم رفاعة الطهطاوى فى مدخل تحقيقه لديوان رفاعة ، كما قدم كتابا هاما عن الدكتور محمد حسين هيكل " بعنوان دكتور هيكل : حياته وتراثه الأدبى " وأشرف على كتاب راق جدا عن أستاذه وأستاذنا الكبير الراحل شوقى ضيف بعنوان " شوقى ضيف .. سيرة وتحية " .
- الغربة فى أدبه :
أصدر الدكتور طه وادي، سبع مجموعات قصصية، هي: "عمار يا مصــر"، "الدموع لا تمسح الأحزان"، "حكاية الليل والطريق"، "دائرة اللهب"، "العشق والعطش"، "صرخة في غرفة زرقاء" و"رسالة إلى معالي الوزير". كما أصدر أربع روايات هي: "الأفق البعيد"، "الممكن والمستحيل"، "الكهف السحري"، "عصر الليمون" كما أصدر سيرة ذاتية بعنوان "الليالي" .
فى أعماله الإبداعية تبدو سمتان طاغيتان على إبداعاته : سمة الغربة وسمة المصرية ويوضح د. حسين علي محمد في مقاله بمجلة "قوافل" الأدبية أن الغربة تيمة أساسية في قصص طه وادي مثل قصص "تغريبة ولد اسمه كرم"، و"حكاية شرخ في الجدار"، و"مواقف مجهولة من سيرة صالح أبو عيسى"، و"موسم القتل الجميل". في "تغريبة ولد اسمه كرم" الأبطال لم يتركوا مصر راضين مختارين، وإنما سوء واقع عيشهم هو الذي طاردهم وجعلهم يختارون الغربة سبيلاً.
ويقول: "في مدينة الدوحة دختُ أياماً وليالي، ليس معي مؤهل سوى عافيتي، عملتُ نجاراً .. بناءً .. حامل طوب. أكل العيش مر. في حي شعبي يعيش المساكين أمثالي من الهند وباكستان وإيران والسودان .. كما كنا نفعل أيام الترحيلة في عزبة العمدة .. نجمع القطن .. نحصد القمح .. نشتل الأرز .. يا عم المسعد في بلاده مُسعَد في بلاد الناس". ويضيف كرم: "إيه يا مصر .. لمَ تركتِنا نتغرّب. الغربة صعبة وقتّالة. لو كان العمدة يُعطي أجراً مناسباً ما تغرَّبت".
أما عن المصرية فى إبداعه ، فسنجده - ولأول مرة – يكتب رسالة على غلاف روايته يقول له فيها : " بلغنى أيها القارىء السعيد ، ذو الرأى الرشيد أن المؤلف - الذى يحرص على إقناعك ورضاك - أحس بقدر من الأسى والحيرة حينما وصلت الأحداث بشخصياته عند هذا الحد من الصراع ...... إن المأساة التى تشكلها منظومة هذا العالم الروائى لا تعبر عن قصة أفراد وإنما تحاول أن تصور جزءا من مأساة شعب "
وتبدو المصرية فى شخصيته وفى إبداعه حتى على المستوى اللفظى ، فى قصته " ألف باء " يصور أسرة فقيرة تماما ، يضطر الأب إلى بيع دمه حتى يقبض عشرين جنيها مرة واحدة ، لكنها تضيع منه .. فى لغة القصة تجد تناسبا طيبا بين الحال والتعبير عنه " تلبس فستانا مثل خضرة الفجل الورور " أو " أكل العيش يا واد يا على يحب الخفية " أو " تنادى عطيات بصوت مشروخ " لوبية يا فجل لوبية " إلخ .
ميلاد ورحيل : ولد طه عمران وادى بقرية كفر بدواى مركز المنصورة فى أول أكتوبر عام 1937م ودرس بكلية الأداب جامعة القاهرة ، حتى حصل على الدكتوراة عام 1971م وعمل بآداب القاهرة ومنها أعير لعدد كبير من الجامعات المصرية والعربية ومنها جامعة المنصورة, وأكاديمية الفنون, , فروع جامعة القاهرة بالسودان وبنى سويف, وجامعة الإمارات العربية المتحدة, وجامعة قطر , ومعهد الدراسات الإسلامية بالقاهرة ، فضلا عن عمله بالمملكة العربية السعودية ، كان عضوا بعدد من الهيئات منها عضويته بمجلس إدارة اتحاد كتاب مصر ، وحاز عددا من الجوائز كان يذكر منها دوما جائزة جامعة القاهرة للبحث العلمى فى مجال الدراسات الاجتماعية ، عام 1989. م عن كتابه " الشعر والشعراء المجهولون "
توفي في 1/4/2008م.