اعتذار زائد عن الحد
بقلم: مؤمن الهباء
......................
سوف يسعدنا - بالتأكيد - فوز الوزير الفنان فاروق حسني بمنصب مدير عام اليونسكو.. وسوف يسعدنا أكثر أن يأتي هذا الفوز دون تنازلات صادمة للضمير الوطني المصري لصالح القوي الصهيونية التي تشيع أنها تمسك بزمام الأمور.. وأن تأثيرها هو الأساس في تحديد شخصية الفائز بهذا المنصب الدولي الرفيع.
لقد عبر وزير الثقافة أكثر من مرة عن اعتداله.. وعن رؤيته المتحضرة لمفهوم التعددية الثقافية.. واحترامه لكل الثقافات وحقها المتساوي لدي اليونسكو في أن تشارك وتتفاعل مع الثقافات الأخرى عبر الأنشطة والمؤسسات المخصصة لذلك.. وأنه من أنصار الحوار والتعاون.. وهذه الرؤية تكشف عن وعي بالدور المنوط به حين يصبح مديراً لليونسكو.. لكن الاعتذار الذي جاء في مقاله بجريدة "لوموند" الفرنسية. والذي حملته صحفنا مترجماً يوم الجمعة الماضية جاء زائداً عن الحد. ومتجاوزاً كل الخطوط. وجارحاً لكرامتنا الوطنية.
نحن نعرف أن الوزير تعرض في مايو 2008م لحالة توتر في مجلس الشعب حين أثير أمامه ادعاء بوجود كتب إسرائيلية في بعض المواقع الثقافية فكان رده متحدياً: أين هي هذه الكتب هاتها وأنا أحرقها فوراً.. وكالعادة تلقفت الأبواق الصهيونية كلمة "أحرقها" وراحت تهاجم الوزير.. وتروج ضده شائعات سخيفة.. وتمارس معه أبشع ألوان الابتزاز.
وقد صمد الوزير لفترة أمام هذه الهجمة.. لكن مع سخونة المنافسة ودخول اللوبي الصهيوني في أوروبا. وفي فرنسا ـ تحديدا ـ علي الخط، بدأت الأمور تتغير. ويبدو أن هناك من أقنع الوزير - كما أقنع كثيرين غيره - بأن النفوذ الصهيوني لا يقاوم، وأن الطريق إلي اليونسكو يمر - لا محالة - عبر الدولة العنصرية وزعمائها القتلة، وفي سبيل اليونسكو تهون الصعاب، ولابد من تنازلات مؤلمة. وشيئاً فشيئاً دخل الوزير في دائرة الابتزاز الإسرائيلية.
بالطبع.. لا شأن لنا بما يدور في الكواليس، ولا نشهد إلا بما نعلم، وما نعلمه أن الوزير سارع إلي الاعتراف بالهولوكست في احتفال كبير أقيم بباريس حضره السفراء العرب والأفارقة ليكون اعترافاً إعلامياً "مدوياً".. رغم ان قضية الهولوكست لا تخصنا ولسنا طرفاً فيها إلا بقدر ما أصابنا من نتائجها، وقد اعتُبر هذا الاعتراف تجاوباً بشكل أو بآخر مع الاشتراطات الإسرائيلية.
ثم كانت الخطوة التالية، وهي إحضار المايسترو اليهودي بارينيويم ليقود أوركسترا القاهرة السيمفوني في الأوبرا المصرية، مخترقاً بذلك الجدار الرافض للتطبيع الثقافي مع إسرائيل قبل الوصول إلي السلام وتحرير الأراضي المحتلة.
وقد اعترف الوزير في مقال الاعتذار أن دعوته للموسيقار بارينيويم لم تكن لوجه الفن وإنما لإثبات إسهامه - أي الوزير - في إرساء أسس سلام عادل ودائم بين دول المنطقة، وهي إشارة لا تفهم إلا إذا كان إرساء السلام سيأتي عن طريق التطبيع، أو عن طريق الموسيقى، بما يتوازى مع السلام الاقتصادي الذي طرحه نتنياهو، وليس عن طريق الجلاء عن الأرض المحتلة ووقف جرائم القتل والإبادة والاستيطان وتدنيس المقدسات.
يقول الوزير في سياق عرض إسهاماته أمام المشككين الصهاينة: "ومنذ أسابيع قليلة استطاع دانيال بارينيويم ـ وبناء علي دعوة مني، وعلي الرغم من أشكال المعارضة المختلفة ـ أن يقدم حفلاً موسيقياً في القاهرة من خلال قيادته لأوركسترا القاهرة السيمفوني".
ولم يكتف بهذا.. وإنما هاجم معارضي التطبيع، ووصفهم في مقال الاعتذار بأنهم "الأوساط الأقل تسامحاً في بلادي". دون أن يشير إلي معني التسامح الذي يقصده، محذراً من أن "إخفاقي سيكون نصرهم، وسيرون أن الانفتاح الذي أنادي به ما هو إلا خدعة".
وهكذا وضع الوزير الفنان نفسه في مواجهة وتناقض مع الرافضين للتطبيع. وهؤلاء - بالمناسبة - الأغلبية الكاسحة في الشعب المصري، وفي مقدمتهم المثقفون والمبدعون الذين يتباهى بهم الوزير.
ومن يقرأ مقال الاعتذار سوف يجد أن الوزير كان كريماً ومتحمساً وفصيحاً ومندفعاً في اعتذاره، بشكل لم يحدث في اعتذار قدمه مسئول آخر مصرياً أو أجنبياً، في أي من الأزمات التي أسيء إلي المصريين فيها علي مدى السنوات الماضية؛ فقد قال الوزير وبوضوح تام: "واليوم يمكنني أن أعرب علانية عن أسفي عن الكلمات التي نطقت بها، ويمكنني البحث عن عذر في سياق المضايقات وتوتر المناقشات التي جرت أثناءها، ولكنني لن أفعل، فما من ظرف يمكن التذرع به".
وقال: "لقد أدليت بتلك الكلمات بدون تعمد أو قصد، وأضطلع بمسئوليتي عنها بحرية ودونما ضغوط لأن من واجبي دفع الشبهات، ورفض أي شكل من أشكال الازدراء أو الغطرسة، وأُقْدِم عليها أيضا احتراماً لمن تكون جرحتهم أو صدمتهم كلماتي".
الحقيقة: أننا نحن المصريين الذين جرحتنا وصدمتنا كلماتُ الاعتذار التي يبدو أنها جاءت في غمرة الشعور بالامتنان لقرار السفاح نتنياهو بإسقاط اعتراضات إسرائيل علي ترشيح الوزير، رغم أنه يعرف أكثر منا أن قرار نتنياهو لا يعني أن إسرائيل أوقفت ألاعيبها ومكائدها.
نحن لسنا ضد التسامح، لكننا ضد إسقاط الثوابت من أجل اليونسكو أو غيرها. ولسنا ضد الثقافة اليهودية لكننا ضد الثقافة الإسرائيلية الصهيونية العنصرية، ولسنا ضد الاعتذار لكننا ضد الكرم الزائد عن الحد مع العدو.
وأخيراً، نتمنى أن نقرأ اعتذراً واحداً من مسئول إسرائيلي للمصريين حين يخطئ في حقهم. بمثل هذا الكرم والوضوح والتواضع والحماس!!!
..............................
*المساء ـ في 1/6/2009م.