الأَوَانُ
... فلما رأى نفسه قد تجاوز من العمر مبلغ الشيوخ، وأيقن أنه يزداد مع مرور الأيام وهناً على وهن، ورأى ابنه قد اشتد عوده وأدرك سن الشباب، قرر أن يبادر وحيده بوصيته الأخيرة قبل أن يعجل به أجله، ومخافة أن يضعف في رأيه كما هزل في بدنه، وخشية أن تسبقه الأهواء إلى قرة عينه ببعض سطواتها، أو تثب عليه الدنيا وتفترسه ببعض فتنها، وحتى لا يحول حائل بينه وبين الإفضاء إليه بما في نفسه وبحصاد تجاربه في الحياة، وتداركا منه لابنه قبل أن يصير صعبا نفورا، وقبل أن تتسرب القسوة إلى قلبه، ويتسلل الانشغال إلى عقله بالتافه من الأمور والمفسد منها، دعاه على وجه السرعة إلى مجالسته، وشرع يوصيه ...
... ثم اعلم يا بني أنك لن تستطيع الإحاطة بنعم ذي الجلال والإكرام ولو ألححت، ولن تبلغ الغاية في عد عطاياه ولو حرصت، وأنك إذا أطعت هواك وأجبت نفسك الأمارة بالسوء ما أفلحت، ثم ليس لك من سبيل إلى النجاة ممن وقودها بنو جنسك والحجارة سوى الاستقامة، واحذر التمادي في أي صنيع حاك في صدرك وكرهت أن يطلع عليه الناس خشية الملامة، فذاك على الإثم دليل لك وعلامة، وإياك ثم إياك أن تحقر من المعروف شيئا فتجني الحسرة وتحصد الندامة ...
بسمع مرهف وانتباه شديد مكث الشاب بالقرب من والده مترقبا يصغي إليه، فأحس بصوت هذا الرجل الذي رباه صغيرا وكأنه سحر بيان ينساب في أذنيه لأول مرة، وخيلت إليه كلمات الوصية تسعى أمام عينيه بأفئدة خافقة ووجوه مشرقة، وتبعث في قلبه دوحة وقار مورقة، وشلال أنوار متدفقة ...
نظر الشاب إلى رأس والده المشتعل شيبا، فغاص بتفكيره ملياً في بياض الشعر الواعظ متأملاً، وما أنهى غوصه إلا دمعة صافية رآها قد انحدرت مع متم الوصية من عين والده اليمنى، فلم يتمالك نفسه إذ أكب دامع العينين على ظهر يده المتجعدة فقبلها...
د. عبد الفتاح أفكوح - أبو شامة المغربي
aghanime@hotmail.com