مذكرات سجين...
العزلة هنا مرعبة، و الظلام الرطب يلف كل جدران المكان، اسمع صرخات الأرض المتوجعة..حتى الأرض هنا معذبة، فقد غرس الطغاة هذه القضبان الباردة في خاصرتها.
هنا ، و على هذه الأرض ، اختلطت دماء الرفاق و عبراتهم، و شوقهم لتراب منازلهم و الجبهات، هنا الأرض تتكلم عن كل الأقدام النازفة التي وطأتها و كل الخطوات المعذبة، تحدثني عن أحزانهم و كبريائهم،هنا، لا يمكن أن أرى ما في الخارج، إلا السماء و بعض الطيور التي سمح لها بالطيران لبضع دقائق لا أكثر، ثم يعلن من جديد حضر التجول ، فيرجع كل إلى سجنه الانفرادي.
كل شيء هنا محكوم بالإعدام، حتى حبل المشنقة نفسه مهدد بالإعدام، بان يقطع إن لم يؤد مهمته بإخلاص و تفان لصاحب السمو و الجلالة.
ها قد أتى صاحب البنية القوية و الشخصية الهزيلة، انه حارس السجن، لا ادري كيف سينجو جسدي النحيل من عضلات هذا الوحش المقرف، يا له من شكل تشمئز حتى القذارة منه... أرى من بين ظلام الممرات الضيقة يداه الكبيرتان مضرجة بدماء السجناء، و عرق جبينه يسيل فوق حذاءه.
أما لعابه فانه يغطي فكه و رقبته و صدره.. ها هي خطواته أثقل من الرصاص .. تتقدم نحوي،، و يده المتصلبة الدامية تفتح الأبواب الحديدية المرتعشة كطفل عار يقف في قلب العاصفة..و ها أنا أساق كحمل وديع إلى غرفة التعذيب و الاستجواب،، لستادري أين أنا،، في أي بقعة من الأرض ، لا اعلم شيئا عما يدور بالخارج، ماذا يفعلون؛فلست أرى هنا شيئا سوى طيور ترفرف خلف القضبان و شجرة في باحة السجن، حتى إنني لاأستطيع أن اطل من شباك الزنزانة لأرى جذع هذه الشجرة، فربما تكون معلقة بحبل المشنقة هي الأخرى!!
غير إنني في المساء اسمع صوت قطرات المطر و أحس بها متجمعة على جدران الزنزانة، و اسمع صوت الرياح الباكية، و عواء الوقت القاتل، و أشم رائحةأهلي من وسط البيت، تحمل لي أشواقهم و خوفهم من أنني لن أعود هذا المساء، و لن أرى كتبي المفضلة ، و لن استمع إلى مذياعي الصغير ، و إن دفتر مذكراتي لن يمتلئ بحبرالحياة من جديد، إنهم لا يدركون إن هذا ما سيحصل فعلا!
أحس بان دمي يسيل من كل مسامات جسمي، بان الدمع صار دما، و إن آلامي لها صوت كصوت صرير الباب، أبواب الموت مفتوحة على مصراعيها أمامي، تجتر أضلاعي المهشمة.
أحس إن الضربات تتخلل إلى خلايا عقلي فتدميها، فتعلق بقايا دماغي بأظافر السجان و النمل يأكل لساني و ذاكرتي كي لا اعترف، أرى وجوه الرفاق أمامي، تشجعني على الصمود، و السكوت.
أرى الراية الحمراء ترفرف برفق أمام عيني، تلامس وجنتي خيوطها الحريرية، و بقايا لمسات الرفاق عليها، شامخة مرتفعة في قلبالسماء، و أنا خلف القضبان و بين يدي السجان ازدادانهيارا و وهنا، لكن الألم أنساني كل شيء، أنساني أن أخون الرفاق، فبقيت رغم الألم المتصدع بداخلي، ساكتا، مدعيا الخرس.
بعد أن تعبت أيديهم من ضربي ووجدوا أنني لن اعترف هذا المساء، اجلوا الجلسة إلى يوم آخر.
ها قد أتى الصباح و أنا ما زلت أسامر أوجاعي و أشاركها الق النهار و تنفس الشجرة في باحة السجن، و نسمات الهواءاللطيف التي تتسلل إلي عبر هذه القضبان البائسة.
صباح رائع بعد ليل مخيف، متوحش،لكن لا وجود للكمال على هذا الكون، فان النسمات الباردة حين تمر فوق جراحي، تؤلمني،تمتص صبري و قوتي ، رغم أنني أتخيل هذا الصباح حين يمر حاملا أشواقي لإخواني الرفاق في المقر و جبهة الشمال البارد،ـ المستدفئ بأحضان الرفاق، أو حين يمر على وجه أمي وهي تدور الرحى بيديها المتعبتين، و يحرك شعر إخوتي الصغار، شعرهم البني القصير ، ذاالرائحة الطفولية المميزة.
أرى قطرات ماء كونها ضباب الفجر على قضبان السجن وعواميد هذا الشباك البائس، يا لجمال هذه القطرات التي تعكس على حائط الزنزانة ، ضوءصباحي، أمل جديد، فيبين من بين جروح الحائط الرمادي، شعارا، احمــــــــر، رسمه الذي قبلي بدمائهم، و هاهو دوري قد حان لأجدد لونه بدمي، فيبدو أكثر إشراقا، يا لهمن شعار رائع، منجل و مطرقة، و همسات فلاحين في ليله ظلماء أشعلوا فيها الظلام ليتمكنوا من رؤية الحدود، و عبور النهر بأقدامهم المتورمة النازفة، ليجرا بعدها إلى هنا، إلى هذه الزنزانة.
سحبت جسدي نحو الحائط القريب من باب الزنزانة، رائحة دمتفوح من الممرات ، بل من الزنزانة المجاورة، تقدم نحوي السجين، لم استطع أن أرى ملامحه جيدا، فالنهار في الزنزانة مظلم ، إضافة إلى أن وجهه مغطى بالدم المتيبس، لم استطع أن ادقق النظر ، لأنني كنت أرى و لا أرى، أرى أشياء تتحرك، بشر، لكنني لمأتعرف للوجوه، فان عيني قد قدمت استقالتها من الوظيفة ، بعد أن ضربت بكعب مسدس المحقق. قال لي بصوت رصين ( من المؤكد انك تتساءل عن الاثنين) ، لم اجبه ، لأنني قد فقدت الثقة بصوتي أيضا ، صمت هو الآخر ، لكنه لم يتحمل برد السكوت، قال باستهزاء : ( إنهم هناك، اقصد بقاياهم هناك، ألا ترى السور؟؟) ، نظرت إلى السور من شباكالممرات، ( نعم أراه، ما به السور؟؟) ، ( انظر مليا، تأمله جيدا، لقد عذبوهم و بعدأن ماتوا صنعوا من جثثهم هذا السور، انظر جيدا، ألا ترى وجه الموت في هذا السور؟؟) .
أفزعتني حروفه، سألته بعد صمت طويل، كصمت القبور، ( متى سيعدمونك؟؟) ، قالبفزع( يعدموني؟؟،، لغتك ركيكة و فظة، الم يعلمك اهلك معنى اللباقة؟؟) ثم أردف بهدوء، و كالمنتشي بنخب انتصاره( سيمجدون اسمي و اسم الحزب، سأفضحهم بموتي، سأنشرعارهم الذي طالما غطوه بمسمياتهم الوطنية و شعاراتهم ،، هم ليسوا سوى كلاب تخدمكبيرهم) ، انسحبت بهدوء إلى الناحية الثانية من الزنزانة، انسحبت، ألقيت جسدي المتعب و أرخيته على الحائط البعيد عن البوابة التي تفصلني عن هذا الذي لا اعرفه،سحبت نفسي كالملسوع بعقارب الكلمات، أرسيت سفينة أفكاري على شطآن حروفه، و أسندت رأسي المتوجع إلى الجدار،، قضيت نهارا كاملا جيئة و ذهابا داخل زنزانتي، التي لاتسع خطواتي و لا تسع أفكاري التي تزاحمني المكان،، أفكر بأهلي ، و بالرفاق، أفكربالزنزانة، بالشعار .
حياتي كلها مرت امام عيني، وجوه الرفاق التي رافقتني في احلامي ( كوابيسي) ، لا ادري ماذا افعل او اقول ، في حيرتي هذه احتجت الى دليلا او اشارة، اشارة!! لطالما امنت بان هناك اشارة للخير او الشر، مرت بقرب الشباك حمامة، لا ادري لماذا اختارت شباك زنزانتي ، ربما لانني البائس الوحيد الذي لا يحدث ضجيجا يفزعها و صغارها، تذكرت اغنية طالما كنت اردد مطلعها الاول(أقـول وقـد نـاحت بقـربي حمامـة ... أيــا جارتــا لـو تشـعرين بحـالي .....أيـا جارتـا, مـا أنصـف الدهر بيننا...
تعــالي أقاســمك الهمــوم تعـالي ... ) و اي هموم تلك التي اقاسمها اياها، هموم الشعب؟؟ ما اكثرها!! ، ماذا حصل لي، أنسيت انها عصفورة ، عقلها صغير!! ،، لكن ربما استطيع مشاركة همومها، الصغار و العش، و الديدان التي يجب ان تجدها لاطعام الصغار، ربما الطيور ايضا لهم حكومة ظالمة، و احزاب سياسية و منظمات !! لم لا؟؟
ها انا ثانية ، اتمشى داخل الزنزانة، احاول ان اتناسى سبب وجودي هنا، و جلسة الاعتراف القادمة، لحسن حظي انني راقبت الحمامة حتى شعرت بالملل ، فوجدت البديل عنها ، كانت نملة تتمشى، تابعتها ، عيني مثل شرطي يخاف ان يفلت منه السجين، حتى وصلت المسكينه الى حتفها، فقد داسها السجان بكعب حذاءه، ادركت ان موعد الجلسة اقصد التعذيب قد حان، و ان التفكير باي شيء ما عاد يجدي نفعا ، لذا قررت متابعة حيوان اقصد حشرة اخرى، اول ما تقع عيني عليه، فكان المحقق اول حشرة يقع عليها بصري، كان يتحدث و لعابه ( كالمعتاد) يسيل على ذقنه و رقبته، و يديه اللتان لا تكلان الحركة يمينا و شمالا، معلنة عن اقتراب صفعة او لكمة في الطريق الى وجهي !
.
لم يكتمل النص و لن يكتمل!!