موسيقى النص وشعراء المربد
أحبتي في المربد العزيز.. أسفر الله صباحكم بالمودة وأرخى مساءكم بالسلام..
هذه ومضات صغيرة لمستها وأنا أتجول في (قسم الشعر) في مربدنا العزيز فآثرت أن أفرد لها صفحة خاصة..
فأرجو أن أكون موفقة في اختيارها.. وألا أدفعكم إلى الملل.. وإن حدث.. فأعتذر مقدما..
الموسيقى تلعب دورا هاما في الشعر أكثر من غيره من صنوف وأجناس الأدب، بيد أن هذا لا يعني أن الشعر وحده ينعم بهذه الميزة دون غيره، لذلك طاب لي أن أختار عنونة موضوعي بـ "موسيقى النص" بينما أمثل عليها بالشعر لا بغيره..
لأن الشعر – كما هو معلوم- جنس إبداعي سام، تتوافر فيه من البدائع مالا تتوافر في غيره..
والموسيقى بشكل خاص جليّة الوضوح بكل سماتها.. وقد لمحت بعض الظواهر الموسيقية طاب لشعراء المربد توشية قصائدهم بها.. ومنها:
-أولاً-
من المعروف أن الموسيقى ترتيب نغم يعلو ويهبط...
و(يتكرر) هذا السلم علوا وهبوطا ليعطي طابع النغم العام.. وهذا يختلف عن اللحن بطبيعة الحال..
لأن اللحن (مصنوع) صناعة من النغم نفسه.. فإذا تكرر صف الأنغام وفق شكل معين سمي لحنا..
والشاعر عادة- بصفة عامة- يحب هذه الظاهرة الموسيقية جدا.. ويلجأ إليها لأغراض متعددة، وظاهرة التكرار تخدمه فعلا.. وتزين قصيدته أيما تزيين..
وهذه الظاهرة ليست بحديثة، بل هي موجودة في الشعر القديم كثيرا.. لكن جدتها تنبع من استخدام الشاعر لها وتوظيفها..
من ذلك مثلا تكرار الضمائر المنفصلة للتودد والحب، وهو تكرار شائع غير أنه جميل تستطيب الأذن سماعه.. كقول الشاعر (فارس الهيتي) :
بغداد أنتِ التي في القلبِ ساكنة
وأنتِ أنتِ التي في العسرِ تؤويني
فأنت هنا ضمير منفصل قصد منه فارس التودد إلى فتاته بغداد وكرر ضمير مخاطبتها بدافع الحنين والشوق.. تكراراً خدم الغرض منه تماما..
وقد يقصد الشاعر بالتكرار إلى جانب التودد والحنين هدفا رقيقا هو الرغبة في الاحتواء.. كما لو كرر فعل الأمر (الطلب) مثل: أحبيني.. احتويني ونحو ذلك.. ومنه قول الشاعر (يوسف أبي سالم) :
تعالي نعيد الحكاية..
..
تعاليْ أحبكِ
والضوء شاردْ
..
تعالي أحبك
نشعلُ نيراننا بالجنون ِ
..
تعالي
لأبني لك الآن عرشا
هنا كرر فعل الطلب (تعالي) ليؤكد معنى طلب الاحتواء بالإضافة إلى التودد.. بينما لو كرر أسلوب النداء لاختلف الغرض تماما.. فإذا كان تعبير فعل الطلب دلالة على الرغبة (التي هي منه) المنعكس أثرها على الشاعر.. فالنداء يعكس أثر (المحبوبة) على الشاعر نفسه.. كقول يوسف في نفس القصيدة:
يا أنثايَ العذبةُ إني
أعشق بوح تفاصيلكْ
..
يا أنثاي العذبة..إني صوتٌ
بعض قرارٍ يتغشاني
..
يا أنثاي العذبة يا سمرائي
ياآخر أحلام العمر ِ
ويا مد الصحراء
والطلب حين يخاطب به الشاعر حبيبته عادة يكون في تكراره الموسيقي معنى (الإلحاح) أو الاستجداء.. وهو من الرهافة والجمال ما يشد به أذن المتلقي ويستحوذ اهتمامه.. فنرى شاعرا كـ (علي صالح الجاسم) يلحّ في الطلب قائلا:
قلها : مللت الصمت في عينيك قلها
ساعتي يئست وطال الانتظارُ
قلها فما زالت هناك قصيدةٌ
هي أجمل النجمات فوق وسادتي
وعلى بريق عيونها طاب الحوارُ
قلها : أحبك مرَّةً في العمر
واتركني أموت معذَّباً
فإذا أنتهى المتلقي من القراءة وجد نفسه بلا شعور يردد مع الشاعر (قلها.. قلها) فهل أجمل من هذا الإلحاح؟
هكذا يستخدم الشاعر التكرار الموسيقى في (تكرار الضمائر) .. (الكلمات) .. (الأساليب التعبيرية) كالنداء الذي رأيناه عند (يوسف أبي سالم) وكذلك الاستفهام عند الشاعر (الناصري) حين يقول:
أيُّ شعرٍ في حياةٍ كلُّ ما فيها .....مقابرْ ... ؟
أيُّ شعرٍ في حياةٍ كلُّ ما فيها مظاهرْ .........؟
أيُّ شعرٍ في حياةٍ يقهرُ المُسْلِمَ كافِرْ..........!
أصبحَ الإنسانُ دُمية..... دمُهُ أصبحَ فاتِرْ ....
هذا الاستفهام المتكرر متحسر الدلالة باكي النبرة يحمل الاستهجان والاستنكار المرير.. فلا عجب أن يلجأ الشاعر إليه ليؤكد هذا المعنى الحزين..
وكما رأينا (فارس الهيتي) يستخدم الضمير المنفصل في التودد، فها نحن أولاء نجد الشاعر (ثروت سليم) يستخدمه ليعبر عن معنى جميل آخر في قوله:
هل أَنتِ أَنتِ أَم اَنَ حُلْماً زارني
وأنَا أنَا أَمْ أنَّ طَيْــفَاً أَقْـدَمَا ؟
كرر (أنا) و (أنت) للتعبير عن الدهشة التي تأخذ العقل، فيوازن بين المعقول الممكن وبين الواقع الجميل الذي ظنّه لا يتحقق.. فعبر بالتكرار الموسيقي هنا عن صورة تمثيلية هز الشاعر فيها رأسه غير مصدق.. أمعقول أنه في الحقيقة لا في الحلم؟!!.. وهو تعبير لطيف رقيق فيه جدة ورهافة..
وضمير الغائب ( هو وهي) .. يحظى من الشعراء بمنزلة أخرى تختلف قليلا عن ضمير المخاطب (انت) لأن ضمير الغائب يعبر عن الإعجاب الشديد والتوحد والتداخل الشعوري في ذات المحبوب وما ينعكس على الشاعر من جرائه، فحين يقول (ثروت سليم) مثلا:
هي الدَفءُ في لَيلِ الشتَاءِ وبَردُهَـا
هي العطرُ والأُنثَى هي المَاءُ والهوَا
هي الشِّعـرُ إلهـامٌ بهَـا وبُحـورُ
هي النَارُ أُزكيهَـا فيـزدادُ وَقْدُهَـا
هي العطرُ والأُنثَى هي المَاءُ والهوَا
هي الشِّعـرُ إلهـامٌ بهَـا وبُحـورُ
هي النَارُ أُزكيهَـا فيـزدادُ وَقْدُهَـا
هي الروحُ والأشواقُ والقَلبُ عِندَها
هي العُمرُ قبلَ العُمرِ وهي حبيبتي
حين يقول ذلك إنما يسقط على الحبيبة كل صفات الطبيعة المؤثرة بردا وحرا وثورة وجموحا وسلاما في نفسه.. تعبير رائق لتقلبات المحب وأعاصير الهوى التي تطوحه يمينا وشمالا..
والعجيب أن الشعراء يطيب لهم أحيانا أن يشفعوا التكرار الموسيقي بتداخل ضمني مع الموسيقى الظاهرة للنص والتي يحققها الوزن العروضي.. ولنأخذ على ذلك مثالا للشاعر (يوسف أبي سالم) حين يقول:
تمهّـلْ....تمهّـلْ
سنقرؤكَ الآنَ
سِفْـراً ...جديدا ..!
..
تمهّلْ
أرى الآن زيتونةً
تذرفُ الزيتَ
في حَضْرةِ الموتِ
أنقى
فتكرار كلمة تمهّل جاء ضمن التفعيلة (فعولن) وهذه التفعيلة تدخل في بحر الطويل التقليدي وبحر المتقارب الراقص.. نغمان مختلفان جدا ..
ولأنها طيّعة في هذا المجال التعبيري الفني فقد استحسن الشاعر هنا استخدامها للتعبير عن نبرة الاستبطاء ساعدها في ذلك الهاء المشددة وكأنها تشدّ أقدام المنادى ليبطئ من خطواته المتسارعة..
ولعل الشواعر من النساء يستخدمن التكرار الموسيقي المتمازج مع العروض استخداما أكثر شفافية وغنجاً.. ويتلاعبن بأنغامه الموسيقية كما لو كنّ يغنين.. فنجد شاعرة رهيفة كـ (هند باخشوين) تصنع للتكرار لحنا بديعا فتقول:
أدري ،، أدري
كم غنَّاه قصيدي
أدري أنِّي نبضُ الحب
حرفُ الحبْ
صوتُ الحبْ
لحــنُ الحبْ
حـــبُّ الحبْ
وتتكيء على كلمة الحب كل مرة وكأنها تهمس به وتغنيه.. والحق أن هذا المقطع لهند في غاية الشفافية..
يتبع.. إن شاء الله تعالى