محمود درويش ...على هذه الأرض ما يستحق الحياة
بقلم/ سمير الأمير
كنت دائما ومازلت مقتنعا أن محمود درويش سيصبح دالا على حضارتنا البائدة كما هو هومر بالنسبة للحضارة اليونانية وكذا " فيرجل" بالنسبة للحضارة الرومانية، و كثيراً ما اتهمنى الأصدقاء بأننى أبالغ فى تقديره لأسباب أيدلوجية كونه فى المجمل محسوبا على اليسار العربى ولكنى كنت موقناً دائما أن حكمى هذا يتأسس على ما فى شعره من رسالة تتجاوز فلسطين إلى آفاق إنسانية وعالمية وربما كان من المناسب هنا أن أذكر أننى تعرفت على محمود درويش وعلى شعره مترجماً للغة الإنجليزية من كتاب أهدته لى فتاة أمريكية تدعى" آن جونسن" كانت تدرس لى مادة الصوتيات بجامعة المنصورة فى مطلع الثمانينيات وكانت متحمسة جدا لمحمود درويش ربما أكثر من الشعراء الإنجليز والأمريكيين ومنذ ذلك الحين أصبحتُ راوية لشعر محمود درويش فى الندوات التى كنا نقيمها على المقاهى الصغيرة بمدينة المنصورة وكنت أشعر أن شعره يمنح صوتى قداسة تجعل الأصدقاء ينصتون وكأن على رؤوسهم الطير ولم أكن أبذل جهدا كبيرا فى حفظ أشعاره إذ كان يكفى أن أقرأ القصيدة مرتين لكى تلتصق بذاكرتى وكأننى كاتبها، كما أنى كنت أجرب قصائده فى أعادة صياغة وجدانى المشتت وكعلاج لحالات عدم اليقين وكنت أحبس نفسى داخل غرفة لكى أرفع صوتى بشعره دون أن أزعج أحدا من العائلة التى كانت تتندر على هوسى وجنونى بشعر محمود درويش العظيم وأستطيع أن أؤكد أن قصائد درويش كانت تفلح دائما فى هندسة وجدانى و إعادة بناء يقينى وإيمانى بجدوى الحياة فى أغلب المرات ودفعنى تعلقى بدرويش إلى قراءة رامبو وكفافى وكافكا لكى أصل إلى ينابيع رؤيته ولكى أفهم ما يعنيه حين يقول "يعجبنى كثيرا صمت رامبو/ أو رسائله التى نطقت بها إفريقيا/ وخسرت كفافيس/ قال لى لا تترك الإسكندرية باحثا عن غيرها/ ووجدت كافكا تحت جلدى نائما وملائما لعباءة الكابوس والبوليس فينا/، ففى الأسطر القليلة السابقة إشارات تأخذك إلى فرنسا والإسكندرية القديمة وتدخلك إلى عالم كافكا الكابوسى و ورغم أننى كنت استمتع بتلك الأسطر إلا أن متعتى لم تكتمل إلا بعد الدخول فى العوالم الأدبية لتلك الأسماء التى ذكرها درويش فى قصيدته، ألم أقل أن درويش هو شاعرُُ بحجم إنسانية الإنسان ؟ أن عظمة درويش تكمن فى أن قضيته/ قضية فلسطين كانت مناسبته التى فرضت عليه ولم يخترها ولكنه بالقطع اختار أسلوب التعبير عنها لكى يدخل عبرها إلى قضية الإنسان والحرية ومع ذلك لا نعدم فى الوطن العربى بعض قصيرى النظر ممن يتهمونه بالتخلى عن فلسطين لأنهم يعمهون فى ضلالهم الايدولوجى لدرجة لا تمكنهم من إدراك حقيقة أن درويش قد منح قضية فلسطين خلودا إنسانيا عبقريا رغم أنف أعدائه وأخوته الذين حاولوا أن يلقوه فى غايبة الجب وأرادوه شاعراً متشنجاً يختصر فنه وإنسانيته فى تصوراتهم عن العروبة فصار بذكائه وإرادته شاعرا منفتحا على الدنيا دون تفريط فى ملامح عروبته التى صارت فى شعره جزءا من ملامح الإنسان، ومن المثير للريبة أن محمود درويش الذى حّمل أشعاره دائما برسالة السلام لم يحصل على جائزة " نوبل"، وربما كان ذلك فى صالحة أيضاً لأن العقلية الغوغائية التى لم توقن أن نوبل تشرفت بنجيب محفوظ واتهمته بالحصول عليها كجائزة لموقفه الداعم للسلام كانت مستعدة للإجهاز على سمعة ذلك الشاعر العظيم متناسين أو غافلين أنه لا يوجد أديب أو فنان محترم في العالم لا يدعو إلى السلام وأن دعاة السلام الحقيقيين من النشطاء الأوربيين هم الذين يقومون بفضح آلة الحرب الإسرائيلية بل والوقوف بأجسادهم فى وجه جرافات الهدم كما فعلت" راشيل كورى"
لقد كان محمود درويش يخوض حربا ضروسا ضد العنصرية بوضعها أمام المرآة لكى ترى كم هى بشعة ولم تكن المرآة سوى قصائده التى تنفذ إلى ذات القاتل لتجعله يشمئز من بشاعته وهذا ما يشكل قلقا للعدو الصهيونى الذى يخيم فى العداء ويتغذى على الكراهية، يقول درويش فى قصيدة بعنوان "إلى قاتل" "لو تأملت وجه الضحية وفكرت/كنت تذكرت أمك في غرفة الغاز/ كنت تحررت من حكمة البندقية وغيرت رأيك/ ما هكذا تستعاد الهوية"
يرى درويش أن القاتل يمعن فى القتل لأنه ابتعد عن إنسانيته واحتلته بندقيته فأصبحت هى التى تقوده وتفكر له ولذا لا يدعوه للعدول عن القتل بشكل مباشر لأن تلك أوامر الجنرالات، إنما يدعوه لتأمل وجه الضحية الكفيل بجعله يستعيد ذاكرته لأنه سيجد فيها وجه أمه التى أحرقها هتلر فى غرف الغاز وسيدرك أنه قد توحد بالقهر الذى شرده وتسبب فى شقاء بحثه عن وطن وهوية، سيدرك أن هويته هى أن يستعيد إنسانيته التى ستجعله يدرك أن القاتل لا يقتل إلا نفسه كما يقول مواطنه الشاعر سميح القاسم/ شهوة القتل التى تقتلكم/ ولعل صلاح جاهين يصدر عن نفس الرؤية حين يقول / ما اعجبش م اللى يطيق بجسمه العذاب واعجب من اللى يطيق يعذب أخوه/"
وفى قصيدة "إلى قاتل آخر" يقول محمود درويش " لو تركت الجنين ثلاثين يوما إذن، لتغيرت الاحتمالات، /قد ينتهي الاحتلال ولا يتذكر ذاك الرضيع زمان الحصار/فيكبر طفلا معافى/ويدرس في معهد واحد مع إحدى بناتك !/تاريخ آسيا القديم /وقد يقعان معا في شباك الغرام !/وقد ينجبان ابنة (وتكون يهودية بالولادة )/ما ذا فعلت إذن؟/صارت ابنتك الآن أرملة، والحفيدة صارت يتيمه/فماذا فعلت بأسرتك الشاردة/وكيف أصبت ثلاث حمائم بالطلقة الواحده ؟
ولعل القصيدة السابقة وقصيدة " الأفعى" جعلتا بعض المثقفين القوميين الفلسطينيين ينعتونه " بشاعر" أوسلو "استنادا لأنه يقول "ماذا سيحدث لو أن أفعى../. أطلت علينا هنا...من مشاهد هذا السيناريو... وفحت لتبتلع الخائفين معا..أنا وهو؟.../أنا وهو..سنكون شريكين في قتل أفعى/...لننجو معا..أو على حدة"
وفى هذه القصيدة يتخيل درويش اليهودى والفلسطينى وقد سقطا فى حفرة واحدة وبافتراض العداء بينهما إلا أنهما خائفان معا من احتمال أن تبتلعهما أفعى ومن ثم تتوحد إرادتهما فى أن يكونا شريكين فى قتل الأفعى التى ترمز فى تقديرى إلى الصهيونية لأنها هى المسئولة عن حالة العداء التى تمثلها فى النص" تلك الحفرة" والتى يرى الشاعر فى قصيدته أنها تشكل عقبة فى طريق النجاة لليهود والفلسطينيين على حد سواء، هنا لا أعرف كيف يمكن اعتبار تلك القصيدة دليلا على خيانة محمود درويش لقصيدته" سجل أنا عربى" و التى كتبها مبكراً والتى يقول فيها"/سجل.. برأس الصفحة الأولى./..أنا لا اكره الناس...ولا أسطو على أحد../.ولكني إذا ما جعت، آكل لحم مغتصبي.../حذار..حذار..من جوعي ومن غضبي". لأنه هنا أيضا يؤكد على أنه لا يكره الناس ولا يسطو على أحد، ربما يعجب القارىء والسامع تحذير الغاصب بأنه سيأكل لحمة ولكن لماذا يصر البعض على حرمان الشاعر من تأمل دوائر الخروج من دوامة القتل المجنونة بتوجيه خطاب شعري يعكس فعل القتل على القاتل ويثبت أن عروبة فلسطين ليست إنقاذا فقط للشعب الفلسطينى ولكنها تحريرا لنفوس اليهود من بشاعة عنصريتهم التى تشكل السبب الرئيس لكراهيتهم لنا وكراهيتنا لهم؟،
لقد رحل عنا الشاعر العظيم محمود درويش ولكنى على يقين بأن شعره سيبقى ما بقيت العيون التى تقرأ لأنه تجاوز حدود جغرافيا الأرض إلى جغرافية أخرى أرحب سماء وهى جغرافية الإنسان فى كل مكان وزمان، وكما أن شعره سيعيش ويخلد فإن فلسطين ستعيش وتخلد لأنها فى قلب هذا الشعر وهذا هو درس الخلود الذى تعلمناه من الشاعر العظيم وليام شكسبير والذى لا يمنحه للإنسان سوى الشعر، يقول شيكسبير فى السوناتا رقم 18حسب ترجمة" ياسمين مسلم "ما دام إنسـانٌ لينبـضَ أو عيـونٌ رائـيةْ.. فسـتخلدينَ على المدَى بين الحروفِ الباقيةْ" وكذلك سيخلد محمود درويش وحبيبته فلسطين لأن شعره العظيم سيظل يمنحهما معا هذا الخلود