Reply to Thread
Page 1 of 2 1 2 LastLast
Results 1 to 12 of 21

Thread: النص الكامل لرواية «صيد العصاري» للروائي الكبير محمد جبريل

  1. #1 النص الكامل لرواية «صيد العصاري» للروائي الكبير محمد جبريل 
    كاتب مسجل
    Join Date
    Jun 2006
    Posts
    1,123
    Rep Power
    20
    النص الكامل لرواية «صيد العصاري» لمحمد جبريل

    ***

    كتبت " الشاطئ الآخر " تنويعاً على لحن الوطن . وكتبت " زمان الوصل " تنويعاً ثانياً ، و " زوينة " تنويعاً ثالثاً ..
    هذه الرواية تنويع ـ لعله الأخير ـ على اللحن الذى يبحث عن إجابة السؤال : ما الوطن ؟

    ***

    إلى الطبيب الأرمنى مردروس
    جارى القديم الذى ظل ـ منذ طفولتى ـ " حالة " تثير الذهن بالأسئلة والملاحظات
    Reply With Quote  
     

  2. #2 رد: النص الكامل لرواية «صيد العصاري» للروائي الكبير محمد جبريل 
    كاتب مسجل
    Join Date
    Jun 2006
    Posts
    1,123
    Rep Power
    20
    الفصل الأول من الرواية
    --------------------

    ـ 1 ـ
    عزيزى الأديب الشاب صلاح بكر . لم تعد العبارة تجتذبنى . لا أشعر وأنا أقرأها بما كان يملأ نفسى من الزهو . بدت الطريق بلا نهاية ، أو مسدودة . يترك لى الرسالة الصغيرة فى مظروف مغلق . عزيزى الأديب الشاب . يتبعها بعنوان التحقيق الذى يطلبه . قلت لقاءاتنا ، أو اختفت تماماً . تصور ـ ربما ـ أن الخطوة الأولى تليها بقية الخطوات ..
    لم يكن ذلك ما تطلعت إليه ، ولا أحببته ..
    ما معنى أن أكتب ما ينشر باسم غيرى ؟ ..
    المصادفة ـ وحدها ـ هى التى نبهتنى إلى خطأ ما أفعله . عزيزى الأديب الشاب صلاح بكر . أرجو أن تكتب دراسة فى نحو ست صفحات عن مكاسب مصر من تحركات وزارة محمود فهمى النقراشى ..
    حين ترك رسالة يتعجل فيها الدراسة ، كنت قد أعددت المراجع ، وراجعت ـ فى مكتبة البلدية ـ صحف السنوات الفائتة . كتبت أسطراً قليلة ، ثم مزقتها . كتبت ومزقت . بدت لى الكلمات باردة وبلا معنى . لم أجد فى داخلى إلا الخواء . حركت القلم ـ بمعاناة الفراغ ـ فى خطوط ودوائر وتقاطعات وتشابكات . ثم انشغلت ـ يائساً ـ بالقراءة . أتوقع ، أتمنى ، أن تستفزنى ..
    أزمعت أن يقتصر ما أفعله على القراءة والتأمل . لا أتردد على قهوة فاروق إلا لموعد ، ولا أتردد على الندوات ..
    قال لى فيصل مصيلحى :
    ـ أنت ضد وزارة النقراشى ، فكيف تؤيد خطواتها ؟!
    أضاف بصراحة اعتدتها منه :
    ـ فعل الكتابة بدون اقتناع أشبه باحتضان المومس لمن لا تعرفهم !
    كان يعانى انفعالاً بتأثير خطبة الجمعة فى أبو العباس . تحدث الإمام عن عمليات شتيرن والهاجاناه فى فلسطين ، وعن المذابح التى واجهها أهل صفد وطولكرم وطبرية والناصرة وبيسان وجبال نابلس ..
    قلت :
    ـ هذه مجرد صحافة .. دراسة صحفية لا شأن لها برأيى ..
    أردفت فى ابتسامة معتذرة :
    ـ لا شأن لى بخلافات النقراشى مع القوى السياسية .. ما يهمنى هو موقفه من قضية الجلاء ..
    كل شئ ضبابى وغير واضح . يختلط الترقب والتصورات والأمل والرؤى والخوف ..
    انتهت الحرب ..
    أزيلت السواتر وقيود الإضاءة . رفعت الرقابة على الصحف والمطبوعات . أبيحت الاجتماعات العامة . منع اعتقال الأفراد . ألغيت الأحكام العرفية . حلت الحكومة المدنية بدلاً من الحاكم العسكرى
    ما حدث بدا كالبسمة المصنوعة التى تخفى القلق والتوتر . غامت السماء بسحب متكاثفة ، وأطلت نذر أخطار متوقعة . نشطت الحركات الطلابية والعمالية . تكونت التنظيمات المشتركة . ارتفع شعار " يحيا الطلبة مع العمال " . تجددت المظاهرات فى الإسكندرية والزقازيق والمنصورة . تكرر إغلاق جامعة القاهرة . اعتصم طلبة كلية العلوم بجامعة الإسكندرية . قتل بأيدى قوات البوليس فى ميدان محطة الرمل 28 متظاهراً ، وأصيب 424 . توالت المظاهرات . تخرج من المدارس والجامعات ، تجوب الشوارع والميادين ، تعم المدن ، تهتف بالشعار : الاستقلال التام أو الموت الزؤام . الأوامر صريحة بإطلاق النار فى المليان . الاجتماعات ممنوعة . الاعتقالات دون أسباب . مصادرات الصحف تتوالى .
    جلاء الإنجليز عن مصر قضية تشغل الجميع ، القضية التى تشغلنى ، القضية التى يجب أن تشغلنى . تبدو كل الموضوعات التى يقترحها عيسوى أبو الغيط شاحبة ، أو تافهة ..
    أعدت قراءة المراجع ، وما نقلته عن الصحف ..
    كتبت ما أقتنع به ..
    ـ ثم ماذا ؟
    قال فيصل :
    ـ ضع ما كتبت فى مظروف ، وابعث به إلى الجريدة أو المجلة التى تأمل أن توافق على نشره
    كانت مدرجات الجامعة أول رؤيتى لفيصل مصيلحى ، وأول تعرفى إليه . محاضرات الدكتور محمد محمد حسين طرف خيط نلتقطه فى مناقشات ، مفرداتها دولة الخلافة والحروب الصليبية والأفغانى ومحمد عبده وطه حسين وسلامة موسى واجتهادات المستشرقين . نشاطه السياسى يقتصر على تأييد مواقف الإخوان المسلمين ، والدعوة لها . تتشابك تسميات الإمبريالية والنازية والفاشية والشيوعية والاشتراكية والرأسمالية . تختلط التيارات السياسية ، السرية والمعلنة : الإخوان المسلمون ، التنظيمات اليسارية ، الطليعة الوفدية ، الأحرار الدستوريون ، مصر الفتاة . ملصقات الشوارع والكتابة على الجدران تعكس اختلافات الرؤى : الله أكبر ولله الحمد .. الخبز والحرية .. مطلبنا القضاء على الفقر والجهل والمرض .. الاستقلال التام أو الموت الزؤام .. لا مفاوضات إلا بعد الجلاء .. نريد الخبز بدل السلاح .. الدين أفيون الشعوب .. عاشت وحدة وادى النيل .. تبرعوا لمشروع الحفاء .. يحيا الملك مع النحاس .. يا شباب 46 كن كشباب 19 .. الله أكبر والمجد لمصر .. القرآن دستورنا والرسول زعيمنا والموت فى سبيل الله أسمى أمانينا . جماعة الإخوان هى التعبير عن التيار الإسلامى ، لا جمعيات إسلامية أخرى توازيها . يتحدث فيصل عن بدايات الجماعة فى الإسماعيلية عام 1928 . كان البنا ـ يسبق اسمه صفة الأستاذ ـ متأثراً بوجود القوات الإنجليزية فى منطقة القناة . تتقلص ملامحه : الاستقلال واجهة براقة لواقع زائف . تتلكأ الكلمات فى فمه : استبدلنا السفير بالمندوب السامى . يضيف : حتى الملك هتف المتظاهرون ضده للمرة الأولى . ثم وهو يغتصب ضحكة : بعد أن كان الملك الصالح ، صار ملك النساء . يردد أسماء : حسن البنا ومحمد الغزالى وسيد سابق وصالح عشماوى .
    رنوت إلى الدهشة فى عينيه ، رد فعل لعرضه بأن أعمل فى الشركة . ترك أبوه له إدارتها من قبل أن يتخرج فى الكلية .
    قلت :
    ـ قد لا يكون لليسانس اللغة العربية قيمة فى حالتك . أنت صاحب الشركة ..
    واغتصبت ابتسامة :
    ـ الأمر معى يختلف ..
    المكتب فى الطابق الثانى من بناية على تقاطع شارع التتويج وشارع سوق السمك القديم . يمضى الترام ـ وحركة الطريق ـ من اليمين ـ إلى بحرى ، ويتجه ـ فى الناحية المقابلة ـ إلى ميدان المنشية . تطل الواجهة على مساحة ما بين عمارتين فى طريق الكورنيش . تتسع باتساع زاوية الرؤية ليبين مصد الأمواج المفضى إلى خارج الميناء . الحجرة المجاورة للباب تؤدى هناء زكريا عمل السكرتارية ، والاتصال بالعملاء . مكتب فيصل مصيلحى يتوسط الحجرة الملاصقة المطلة على البحر . خصص لى مكتباً صغيراً لصق الجدار .
    ظل ترددى عليه . حجرة المكتب المواجهة للبراح تغرى بالحوار . الأخذ والرد . ربما ساعدته فى كتابة رسالة ، أو مذكرة ، أو مناقشة دراسة جدوى . تحول أداء المعاونة إلى أداء عمل . يسر لى القبول بقاء صداقتنا على حالها . المناقشات ، وتبادل القراءات ، والتمشى على الكورنيش ، وفض ما بالنفس . لم يعد الفرق بين ليسانس اللغة العربية والعمل فى تجارة الورق بالاتساع الذى تصورته . ضاقت المسافة بالوقوف على أرض الصداقة ، ومحاولة تعويض غياب الفهم .
    لم يسألنى فيصل ـ ذات يوم ـ ماذا أقرأ أو أكتب ، ولا حاول السؤال إذا كان ما أنشغل به يخصنى ، أم أنه عمل المكتب . يضع الخطوط العامة ، يشرح تصوراته . يترك لى التصرف حسب ظروفى ..
    ـ كيف يطمئن الناس إلى الحياة فى وطن محتل ؟
    لا أذكر أين استمعت إلى العبارة . ربما فى داخل الدائرة الجمركية ، أو فى حوار بين سائرين على طريق الكورنيش ، أو تحت مظلة موقف الأوتوبيس بالمنشية ، أو أن الذى قالها واحد من المتعاملين مع المكتب . ما أذكره أن العبارة شاغلتنى ، شغلتنى ، فى الأيام التالية . انبثق السؤال ـ وأنا أكتب تحقيقاً عن التنظيمات النسائية عقب ثورة 1919 ـ لماذا لا أركز فى كتاباتى على القضية المصرية ؟
    اطمأننت إلى مشاعرى ، وأنا أتأمل الدراسة ، يسبقها اسمى ، منشورة فى الصفحة الثامنة بجريدة " البلاغ " .. لكن الجريدة نشرت لى مقالات أخرى تالية ..
    تكررت رسائل عيسوى أبو الغيط ، وتكرر إهمالى . أرجو أن تكتب عن حيرة الشباب بين الأحزاب والتنظيمات السياسية . تأثيرات الحرب العالمية الثانية على الأوضاع السياسية فى العالم . دور جامعة فاروق فى استعادة الإسكندرية ملامحها الثقافية . حوار مع عالم الأحياء المائية حامد جوهر . علماء الاجتماع يناقشون : كيف نقضى على الفقر والجهل والمرض ؟ . هل يعود الوفد إلى أداء دوره بعد حادثة 4 فبراير والكتاب الأسود ؟ . هل تحقق الجامعة العربية فكرة التقارب بين دول المشرق العربى ؟ . أيهما أسبق فى التعبير عن عواطفه للآخر : الشاب أم الفتاة ؟. متى تحصل المرأة على حقوقها السياسية ؟
    لم يطل توقعى لزيارته ..
    رمقه فيصل مصيلحى بنظرة متوجسة . تأنقه الواضح بالبدلة الشاركسكين ، الكحلية اللون ، وياقة القميص المنشاة ، والكرافتة التى انسجم لونها مع لون البذلة ..
    بدا الحرج فى وقفة أبو الغيط المترددة على باب المكتب . دعوته إلى الدخول وأنا أترك موضعى وراء المكتب .
    سرنا إلى نهاية الطرقة ..
    ـ خاصمتنى ؟
    بدا السؤال مفاجئاً ، وغريباً :
    ـ مستحيل !
    ـ لا ترد على رسائلى ..
    ـ أعتزم تنفيذ ما تطلبه ، ثم تجرفنى الظروف ..
    ـ كتابة ؟
    ـ لكنها ليست ما تطلبه منى ..
    وداخل صوتى انفعال :
    ـ تشغلنى قضايا أهم ..
    ـ هل المكافأة قليلة ؟
    ـ أبداً ..
    ـ لم ألزمك بكتابة شئ تأباه ..
    ـ صحيح .. لكن ما أكتبه فى الفترة القادمة سيقتصر على قضية الجلاء ..
    ـ إجازة قصيرة إذن ؟
    ـ ليتك تعتبرها كذلك ..
    بدت لى الدعوة إلى جلاء الإنجليز هدفاً يستحق أن أركز كتاباتى عليه . إذا خرج الإنجليز لم يعد للملك ، ولا لأحزاب الأقلية ، ما يفرضون به أنفسهم على المصريين . يحكمون بقيادة الوفد ، أو بالقيادات التى تبين سياستها فيما تنشره صحف المعارضة ، وما يثار فى الاجتماعات العامة . كنت أشارك فى المظاهرات أردد شعارات الاستقلال ، وفى حضور الاجتماعات السياسية ، ومؤتمرات اللجنة الوطنية للعمال والطلبة ، لكننى لم أكن على صلة بأى تنظيم ، وليس بينى وبين من استمع إلى خطبهم ، ولا هتافاتهم بالشعارات ، صداقة ولا معرفة ..
    Reply With Quote  
     

  3. #3 رد: النص الكامل لرواية «صيد العصاري» للروائي الكبير محمد جبريل 
    كاتب مسجل
    Join Date
    Jun 2006
    Posts
    1,123
    Rep Power
    20
    الفصل الثاني من الرواية
    -------------------------

    ـ 2 ـ
    كتب على لافتة العيادة بخط كوفى : الدكتور جارو فارتان ـ طبيب أمراض باطنة وقلب . لم أره يعتذر عن أية حالة . حتى أمراض العيون والجلد والعظام ، كان يشير بأدوية ، يكتبها فى دفتر الروشتات . تخصصه فى أمراض القلب . حدثنى عن ملاحظته بأن المرضى يقصدون طبيب أمراض الباطنة ، يعالجهم ، أو يحيلهم على الطبيب المتخصص ..
    استروحت الطيبة فى ملامحه : البشرة البيضاء المشربة بالحمرة ، الشعر الأبيض القليل ، المهوش ، فوق الرأس ، العينين اللوزيتين الساجيتين تطلان من وراء النظارة الطبية المستديرة ، ذات الإطار الذهبى ، ويعلوهما حاجبان تساقط معظم ما فيهما من الشعر . أسفل الفم ذقن بيضاء مدببة ، كأنها ندفة قطن . تناثرت على ظهر يديه بقع بنية خمنت أنها بتأثير الشيخوخة . ارتدى بالطو أبيض على جاكت من الكتان ، وقميص بلا ربطة عنق . يبدو متمهلاً ، بطيئاً ، فى كلماته وإيماءاته ..
    ترددت على العيادة لحساسية فى صدرى . زاد السعال ، وتواصل . عانيت أزمات حقيقية . أشار فيصل مصيلحى بأن أتردد على الدكتور جارو . قدّر أن أعوام عمره أتاحت له أكبر قدر من الممارسة .
    لمح فى يدى كتاب محمد خطاب " المسحراتى " . قال وهو يميل بالسماعة على صدرى :
    ـ هل لك اهتمامات سياسية ؟
    قلت :
    ـ أنا أكتب فى السياسة ..
    ـ أين ؟
    ـ فى الصحف .
    وتنبهت إلى أن اسمى لم يذيّل شيئاً مما كتبته :
    ـ ليس فى جريدة محددة .
    غادرت العيادة بروشتة دواء ، وموعد استشارة ، ودعوة إلى لقاءات تالية .
    قبل أن يترك الدكتور باب العيادة مفتوحاً ، ويجعل باب حجرة الكشف موارباً ، كان عطية يستقبل المترددين . فى حوالى الخامسة والعشرين ، أبرز ما يميزه عينان واسعتان ، وبشرة أميل إلى السواد ، بها آثار جدرى قديم . يرتدى قميصاً وبنطلوناً ، لا يغيرهما ، وإن أضاف إليهما ـ فى الشتاء ـ بلوفر واسعاً على جسده الضئيل . لم يكن يؤدى عملاً محدداً ، هو ممرض ، وخادم ، ويعد القهوة للطبيب وزواره ، ويشترى الاحتياجات من شارع الميدان ، ويبيت فى داخل الشقة .
    استغنى عنه العجوز لأسباب كتمها . أهمل سؤالى عن غياب الشاب . غمغم بكلمات غير واضحة ، وسكت .
    قلت وأنا أشير إلى القميص على صدرى :
    ـ لم أتوقع تبدل الجو بعد الظهر ..
    قال :
    ـ نحن فى سبتمبر .. لا مفاجأة فى الحر أو البرد ..
    ترددت على عيادة الدكتور جارو فارتان للصداقة لا للمرض . لم يكن يشعرنى بفارق السن . لم أضعه حتى فى موضع الأب أو الأخ الأكبر . هو صديقى . تختلط ـ فى مناقشاتنا ـ تطورات الأوضاع السياسية وأحوال الجو والمسرحيات والأفلام وما تنشره الصحف . إذا تكلم ، اتجه إلى محدثه بنظرة مباشرة كأنه يتعرف إلى رد الفعل . أبدى ملاحظات ، لا أتدبر بعضها جيداً . يظل على هدوئه . يأذن لى ـ بمداعباته ـ بتبادل النكات والدعابات . أدرك مشاعره العميقة تجاهى ، مشاعر لا ترتبط بسن ، ولا تجربة عمر ، ولا مكانة اجتماعية .
    البناية على ثلاث واجهات . طابقها الأرضى يشغله مصنع للبلاط . اكتفى بالباب الرئيسى مفتوحاً على شارع إسماعيل صبرى ، وتحولت الأبواب الأربعة الجانبية على فاترينات لعرض نماذج من إنتاجه ، بينما ظلت الأبواب الخلفية مغلقة . أول الطوابق الثلاثة تشغله عيادة الدكتور جارو ، والثانى لأسرة صاحب البناية والمصنع . اسم الحلبى يشى بانتسابها إلى سوريا . أما الطابق الثالث ، فيبين ـ من النداءات والمناقشات المترامية من شرفاتها ونوافذها ـ أنها أسرة كبيرة العدد ..
    الشرفة ـ فى زاويتى البناية ـ تطل على حارة صغيرة ، تفصل بينها وبين مجيرة غطى الجير معظم مساحتها ، وتناثر على الجانبين رصات طوب أحمر وشكاير أسمنت ، وتطل ـ من الناحية الثانية ـ على شارع إسماعيل صبرى بحركته الهادئة ودكاكينه . ومن الخلف تبدو مئذنة جامع سيدى على تمراز ، والشارع الخلفى الممتد أمامها إلى شارع التمرازية . يفضى ـ من ناحية ـ إلى شارع رأس التين ، ومن الناحية الثانية إلى الشارع الموازى لشارع الميدان .
    النظر من شرفة الزاوية يمضى إلى التقاء شارع إسماعيل صبرى بتقاطعات شوارع فرنسا والتتويج وطريق الكورنيش . فى نهاية الامتداد السور الحجرى المطل على المينا الشرقية ، تتناثر فيها ـ عن بعد ـ قوارب صيد العصارى من المياس والبورى والبربونى والمرجان ..
    قال :
    ـ ماذا تقرأ هذه الأيام ..
    عرفت ـ من أحاديثه ـ أنه أجاد ـ بعد قدومه إلى القاهرة ـ قراءة العربية وكتابتها ، وإن لم يستطع أن يتخلص من اللكنة . هل لأنه قليل الاحتكاك بالمجتمع الذى يعيش فيه ؟ . ربما استبدل الكلمة العربية بمفردة من لغته التى لا أعرفها ، أو بالإنجليزية ، فتسهل متابعتى .
    قلب ـ ذات عصر ـ فى الكتب التى غطت واجهة المكتبة الخشبية الصغيرة . سحب من أسفل ، طاولة علاها التراب .
    قلت لنظرته المحرضة :
    ـ لم ألعب الطاولة من قبل .
    قال :
    ـ أعلمك .
    أردف فى لهجة من يملى أمراً :
    ـ لا تكتف بالقراءة هواية وحيدة !
    تعددت محاولاته . يفتح ضلفتى المستطيل الخشبى . يشير إلى مفردات اللعبة : الدبش ، الزهر ، اليك ، شيش بيش ..أقلده فى نقلات القشاط . ألاحظ عدم انبساطه . أطلب تكرار معاونته .
    هز رأسه ـ فى النهاية ـ وهمس :
    ـ لا بأس بالقراءة هواية وحيدة !
    قلت :
    ـ أركز على قراءات أفيد منها فى الكتابة عن الاحتلال الإنجليزى لمصر ..
    ـ لكن مصر دولة مستقلة ..
    ـ أناقش وجودهم العسكرى فى منطقة القناة ..
    ـ لن يخرج الإنجليز من مصر إلا بالقوة ..
    ثم وهو يهز رأسه :
    ـ إنهاء الاحتلال الإنجليزى هدف يجب أن يتفق المصريون عليه .
    قلت :
    ـ النقراشى لا يتعامل مع القضية المصرية بالجدية المطلوبة ..
    ـ سخطك على تحركات النقراشى .. لا ينفى إعجاب الناس به ..
    وابتسمت عيناه اللوزيتان :
    ـ ألم تر حفاوة المصريين باستقباله ؟
    وغلب على صوته سخرية :
    ـ أعجبهم قوله للإنجليز فى مجلس الأمن : أخرجوا من بلادنا أيها القراصنة !
    قلت :
    ـ مشكلة الحكومات المصرية أنها وجدت فى الشيوعية خطراً وحيداً ..
    قال :
    ـ ما تشهده مصر الآن مظاهرات لم تعرفها منذ 1935 ..
    وسرح بنظراته :
    ـ من متابعتى .. أتوقع المقاومة المسلحة ..
    وسكت .
    يعد نفسه من المحظوظين بعد أن منعت الحكومة الجنسية المصرية عن معظم النازحين من الأرمن ، لكنه يحرص أن يظل على الهامش . لا شأن له بقضايا المصريين ولا مشكلاتهم . يشاهد ـ ويتابع ـ مشكلات لا تخصه ، لا تجره إليها . يكتفى بالإنصات ، ومحاولة الفهم ، لا يتدخل بملاحظة ، أو برأى . يجتذبه الحوار ، ثم ما يلبث أن يتنبه ..
    بدا أنه رسم لوحة للعالم ، وشاها بالألوان والظلال . استقر على أن هذه هى صورة العالم . رفض ما عداها من صور تختلف عما رسمه فى لوحته . بدا العالم غريباً ، ومعقداً ، ومربكاً ، ومن الصعب تغييره ..
    قلت لمجرد أن أكسر الصمت :
    ـ انتهى النقراشى منذ حادثة كوبرى عباس ..
    ونظرت ـ بتلقائية ـ ناحية الشرفة المطلة على المينا الشرقية :
    ـ ضغط على كل الأزرار فأحدث ما نشهده الآن من إضرابات ومظاهرات ..
    طقطق بلسانه فى استياء ، وظل صامتاً ..
    قلت :
    ـ أثق أن استقلال مصر يشغلك . إنها وطنك الثانى ..
    ـ تغيظنى عبارة وطنك الثانى ..
    وومضت عيناه بما لم أتبينه :
    ـ أعرف أنى لست فى وطنى .. طائر بعيد عن سربه ..
    وسرى فى صوته تأثر واضح :
    ـ صعب أن تحيا فى بلد لا أهل لك فيه ..
    قلت :
    ـ نحن أهلك يا دكتور جارو ..
    وهو ينتزع ضحكة :
    ـ كلام جميل .. لكن ما تبقى من أهلى يحيون فى الوطن أيضاً ..
    قلت :
    ـ الوطن مفهوم برجوازى ..
    قال جارو فارتان :
    ـ هذه مجرد كلمات نظرية .. شعارات لا معنى لها ..
    ثم وهو يعدل النظارة الطبية فوق أنفه :
    ـ يضايقنى تباين النظرتين : الشفقة والرفض . الشفقة لأنى مطرود من بلدى ، والرفض لأنى أجنبى ..
    وشوح بيده :
    ـ دعك من أنى طبيب ولست مجرد لاجئ ..
    قلت :
    ـ ألم تفكر فى الزواج ؟
    ـ قرار الزواج إن لم يتخذ فى وقته المناسب ، فعلى الإنسان أن يتناساه !
    وشرد فى الفراغ بعينين ساهمتين :
    ـ كان الزواج متاحاً فى أعوام إقامتى داخل المخيم . شهد المخيم ـ فى أعوامه الأولى ـ حالات خطوبة وزواج ، سرية وبلا إجراءات قانونية أو دينية . مجرد أن يقتنع أحدهما بعرض الآخر ، يمارسان حياتهما الزوجية باعتبارها كذلك . من يلتقط طرف الخيط . فطن مسئولو المخيم إلى الزيجات المفاجئة ، والتى لم يتحدث عنها أحد . شجعوا قيام أسر بواسطة الكنيسة . زادت حركات الزواج والإنجاب . انشغلت حتى الأذنين فى ولادة جيل جديد من الأرمن . اكتفيت ـ كما ترى ـ بهذا الدور . لم أشارك فى هوجة الزواج ، لأنى لم أتصور نفسى زوجاً فى ظروف تفتقد الاستقرار ..
    وران انكسار على صوته :
    ـ غاية ما أستطيع القيام به الآن هو دور الأب !
    حدثنى عن فترة ما بعد استقراره فى الإسكندرية . تعرف إلى عائلات أرمنية ، كون صداقات مع المترددين على العيادة ، ومع جيران البيت . مرة وحيدة تطورت العلاقة مع امرأة مطلقة من الإسكندرية . لمحت بالموافقة على زواجهما ، وإن تحدثت عن رفض الإسلام زواج المسلمة من كتابى . تقبل فكرة الحياة وحيداً . انطوائيته تغلبت . يترك العيادة إلى البيت ، وإلى زيارات متباعدة إلى النادى الأرمنى " ديكران يرجات " . راجع نفسه فى لحظة التفات إلى الوراء . كان الأفق بعيداً ، فآثر العزوبية .
    وهو يلقى فى جوفه حبة متداخلة الألوان ، أتبعها بجرعة ماء :
    ـ لعلاج أمراض الشيخوخة !
    وأغمض عينيه . بدتا كشريطين أسفل حاجبيه :
    ـ أنا مثل بناية مهددة بالانهيار .. تعالج تصدعاتها بالترميمات ، لكنها تظل عرضة للسقوط فى أية لحظة ..
    قلت :
    ـ كلنا بنايات مهددة .. الموت لا يفرق بين كبير ولا صغير ..
    تباطأت الكلمات على شفتيه :
    ـ هناك الاحتمال والحتم . أنا الآن فى مرحلة الحتم .. الانتظار ..
    وأنا أرنو إليه بنظرة مشفقة :
    ـ فى ظهور كل صبح ما يدعو الإنسان إلى شكر الله !
    كان يشعر أن الذاكرة لم تعد تسعفه . يظهر تخوفه من انسحاب ذاكرته ، فينسى ما لا يصح نسيانه : هل سأظل طبيباً إن نسيت الطب ؟!
    يحزنه أنه يخفق ـ أحياناً ـ فى استدعاء الأمكنة والقسمات والتواريخ . تغيب عن ذاكرته تماماً . يضغط على جبهته فى محاولة للتذكر . يخلى يده ، ويهز رأسه فى أسف . يرفض كل الأسباب ، ويطمئن إلى أن الشيخوخة ربما كانت ـ وحدها ـ هى السبب . يخشى ـ من تلاشى الذاكرة ـ أن ينسى فترة حياته فى أرمينية . إذا حدث ذلك ، فسيصبح ـ والتشبيه له ـ مثل مصعد معطل بين الطوابق !
    قال :
    ـ من الأفضل أن يرحل المرء قبل أن يدركه خرف الشيخوخة ..
    قلت :
    ـ برناردشو تجاوز التسعين دون أن يفقد صفاء ذهنه ..
    وهو يومئ برأسه :
    ـ برناردشو عبقرى . أما أنا فمجرد عجوز أرمنى ..
    ***
    التفت إلى ما يشبه النقرات على باب حجرة الكشف ..
    ثمة شئ ما فى عينيها ، اجتذبنى إليها . عينان واسعتان تفيضان بالبراءة والبساطة ..
    استرقت النظر إلى ملامحها : جمال طفولى ، وجسد عفى ـ هذا هو التعبير الذى يحضرنى ـ وعينان زرقاوان ، وأنف دقيق ، وشفتان رقيقتان كورقتى وردة . فى وجنتيها غمازتان ، تبتسمان مع ابتسامتها الدائمة . تدير على إصبعها ـ بعفوية ـ خصلة الشعر الكستنائى المسدلة وراء أذنها . لا تستعمل المساحيق ، ولا أحمر الشفاه . ترتدى فستاناً أبيض ، على جانب صدره الأيسر رسم وردة حمراء ..
    اتجهت نحو الدكتور جارو بابتسامة كأنها جزء من ملامحها :
    ـ نورا أندريا بابيجيان .. مصرية من أبوين أرمنيين ..
    هز رأسه يستحثها على المتابعة ..
    ـ أعد رسالة عن مذابح الأرمن أعوام الحرب العالمية الأولى وبعدها ..
    ـ وبماذا أفيدك ؟
    ـ قيل لى إنك قد تفيدنى ..
    أسند رأسه إلى ظهر المقعد ، وأغمض عينيه من خلف النظارة الطبية ، وهمس بنبرة يشوبها أسى :
    ـ أنت تعيدين أياماً لا أحبها ..
    اكتفت بالنظر إليه ، ثم قالت :
    ـ ربما أنت الوحيد الذى عاش ما حدث ..
    وهو يهز رأسه :
    ـ فى مصر .. ربما ..
    ـ هل نبدأ الآن ؟
    ـ ماذا ؟
    ـ التسجيل ..
    ـ المفروض أن أوافق أولاً ..
    واعتدل فى جلسته :
    ـ إن وافقت فستكون لقاءاتنا فى غير أوقات العيادة ..
    وقال فى لهجة باترة :
    ـ عصر الغد .. فى الرابعة والنصف عصراً ..
    أدركت أنه خصص لها من الوقت ساعة ونصفاً . يبدأ تقاطر المرضى فى السادسة .
    (يتبع)
    Reply With Quote  
     

  4. #4 رد: النص الكامل لرواية «صيد العصاري» للر 
    كاتب مسجل
    Join Date
    Jun 2006
    Posts
    1,123
    Rep Power
    20
    ـ 3 ـ

    زيارات المصادفة إلى عيادة الدكتور فارتان لقاءات أحرص على مواعيدها ، وأنتظرها . لا أدرى ـ على وجه التحديد ـ ماذا يجذبنى للقائها ؟
    لم أستطع أن أبعد عن مخيلتى ابتسامتها الطفولية ، وعينيها الصافيتى الزرقة ، وشفتيها الرقيقتين ، وخصلة الشعر التى تلفها حول إصبعها وهى تتحدث .
    قلت لفيصل مصيلحى :
    ـ التقيت بفتاة أشعر أنها ستدخل حياتى ..
    ـ لماذا ؟
    ـ مجرد إحساس قلت من خلاله لنفسى إن تعرفى إلى هذه الفتاة لن يكون عابراً ..
    ـ لم أعرف أنك ممن يبحثون عن صداقة البنات ..
    ـ ولا أنا أعرف .
    ورفعت كتفىّ :
    ـ فتاة جميلة .. استلطفتها .
    ـ أنا لا أصدق حكاية الحب من أول نظرة .
    ـ لم أقل إنى أحببتها . قلت إنى شعرت بأنها ستدخل حياتى .
    ـ بمعنى ؟
    لم يشغلنى إن كان ما شعرت به هو الحب من أول نظرة ـ كما قال فيصل بلهجته الساخرة ـ . لم يشغلنى حتى الاندفاع إلى فتاة لم أعرفها قبل لقائنا بعيادة الدكتور جارو ، ولا عرفت سوى ما قالته عن اسمها وعملها . هى لم تجتذبنى لجمالها ـ لا أنكره ـ فقط ، وإنما لأشياء أخرى يصعب أن أحددها .
    أعدت القول فى هيئة المدافع :
    ـ أتمنى أن تدخل حياتى . صداقة .. معرفة .. الحب ليس شرطاً .
    وهو يبدى الحيرة :
    ـ كلام لا أفهمه !
    ثم وشى صوته بلهجة وعظية :
    ـ لا تفعل ما يغضب الله !
    كانت لى علاقات ، انتهت أو استمرت . إخلاص عبد الفتاح زميلتى فى قسم اللغة العربية . واربت الباب ، فدخلت . جارة الشقة المقابلة ، أومأت بابتسامتها الواسعة ، ثم بإشارتها . فطنت ـ عقب عودتى من لقائها بأول شاطئ الأنفوشى ، أنها ليست فتاتى . ترددت مرة وحيدة على كوم بكير . تقيأت فى مدخل الغرفة المبهرجة ، الكابية ، وتركت الحى بلا عودة ..
    بدت لى نورا شيئاً مختلفاً ..
    أدركت أنها ليست مجرد هبة هواء منعشة ، تغيب فى اللحظة التالية . لم أكن التقيت بها من قبل ، لكننى توقعت ، تمنيت ، أن ألتقى بها ، وأن تنشأ بيننا صلة لا تنتهى . كنت أتمنى أن أجد الفرصة لنشر ما أقتنع به فى الصحف ، وأجد الفتاة التى رسمها تصورى . حياتى حلم أُفُقه اللحظة التى سنلتقى فيها . لم تكن هى الملامح نفسها التى رسمها الخيال ، ولا حدست إن كانت مصرية ، أو تنتمى إلى كوزموباليتينية المدينة . بدت تجسيداً لهلامية الحلم دون ملامح محددة . ملأت حضورنا ، حضورى . لم تعد السياسة عالمى الوحيد . عالمى الجديد ، الجميل ، يتألق بالسحر والأحلام وقطر الندى ..
    واجهنى فيصل بنظرة متسائلة :
    ـ تعرفت إليها ؟
    ـ ليس تماماً . قابلتها فى عيادة الدكتور جارو . لم أتوقع زيارتها ، ولا عرفت إلا أنها تعد رسالة جامعية عن مذابح الأرمن فى أثناء الحرب العالمية الأولى وبعدها ..
    أطلق من أنفه ضحكة قصيرة :
    ـ حب من أول نظرة ..
    ـ لا أستطيع أن أسمى ما أشعر به حباً ..
    وحاولت مداراة انفعالى فى لهجة هادئة :
    ـ لم أتبادل معها كلمة واحدة ..
    ـ إذن فهو حب طيارى ؟
    ـ استأذنت فى الانصراف .. لكن الدكتور استبقانى ..
    وانعكس تأثرى فى تهدج صوتى :
    ـ وهى تلقى بالتحية فى انصرافها ، أدركت أنى سأنتظرها كل يوم فى الموعد الذى حدده لها الدكتور جارو ..
    ـ إن لم يكن هذا هو الحب .. فماذا يكون ؟
    ـ سمه اهتماماً أو إعجاباً .. هى أرمنية ..
    قاطعنى :
    ـ أرمنية ؟!
    تجاهلت المعنى الذى يقصده :
    ـ مصرية من أبوين أرمنيين ..
    لم تعد تشغلنى ذكريات الدكتور جارو ، بقدر ما يشغلنى اقتناص الفرصة لألفت نظر نورا . ترنو بنظراتها ناحيتى . كنت أفتعل أية مناسبة للتوجه بالكلام إليها . أبدى ملاحظة ، أو أوجه سؤالاً . مجرد أن أتحدث إليها ، أجذب اهتمامها . لم أفكر فى مدى العلاقة التى يمكن أن تنشأ بينى وبينها . لم أسأل نفسى : ماذا بعد ؟ ولا دار ببالى إن كانت ستقوم بينى وبينها علاقة من أى نوع . مجرد أن ألفت انتباهها . تجيب ، أو تعيد السؤال . ترد ، وتناقشنى . توافق ، وتخالف ، وتبدى الملاحظات . لكنها تظل فى انشغالها بالحديث مع الدكتور جارو . أتوقع ، أتمنى ، أن تلحظ نظرات الود المتطلعة إلى عينيها . يعرونى إحساس بطل الخرافة الذى غمر بالماء حتى ذقنه ، بينما تدلت أغصان الفاكهة فوق رأسه . كلما حاول أن يشرب ، أو يلتقط الفاكهة ، لحقه الإخفاق ، فظل بلا طعام ولا شراب ..
    ***
    أخرجت جهاز تسجيل من حقيبتها . وضعته على الطاولة الصغيرة أمام المكتب ، تفصل بين مقعدين جلس على أحدهما الدكتور جارو ، وجلست الفتاة فى مواجهته . كنت على المقعد المواجه لباب الصالة ..
    ناوشنى الحرج . لم يكن يتحدث عن المترددين على العيادة ، لا مجرد إشارة إلى حالة تولى علاج صاحبها ..
    ـ هل أنتظر فى الصالة ؟
    وهو يربت ركبتى :
    ـ يهمنى أن تعرف ما حدث ..
    واتجه إليها بنظرة مثقلة بالحزن :
    ـ ما جرى أستعيده كومضات : الأسواق . الميادين . أبراج الكنائس . زخات الرصاص والقذائف . الصراخ والقلق والخوف . الجرحى . القتلى . الصحراء . المنافى . الخيام . قمم الجبال . القمل وحمى التيفوس . النظرات الرافضة والمشفقة والتى تقطر حقداً . قطاع الطرق . مسلحو العشائر . طفل فى حوالى العاشرة يتلفت فى حيرة وهو يبكى . امرأة تلقى طفلها على الأرض وهى تصرخ ، وتجرى . طوابير متلاصقة ، ممزقة الثياب ، حافية الأقدام ، يدفعها الجنود الأتراك . ساق مبتورة غطاها السواد . جثث تفحمت من حرارة الشمس . عظام متيبسة تتخلل الرماد ، تشى بالاحتراق الذى التهم أصحابها . حفر موت ومقابر جماعية .
    تململت نورا فى جلستها :
    ـ هل نبدأ من البداية ؟
    قال :
    ـ حتى الآن لا أصدق أن ما حدث قد حدث بالفعل . لا أنسى الأثاث والملابس والأمتعة وكل ما فى البيوت والدكاكين والمخازن ، وضعت فى ساحات مسورة ، وعرضت للبيع . اقتصر البيع على الأتراك والأكراد والعرب . لم يعد الأرمن يملكون أى شئ . حتى الجوع والعطش لا يعرفون متى ولا كيف ينتهى . حتى أسماء الأماكن الأرمنية ، القليلة ، محتها حكومة الأتراك . استبدلت بها أسماء تركية لا تأذن حتى للأرمن بنطقها ..
    واتجه الرجل ناحيتى بالنظرة الحزينة :
    ـ قبل أن تولد مضى العثمانيون عن العالم العربى ، بعد احتلال أربعمائة سنة ..
    أردف وهو يضغط على يدى :
    ـ أتصور أنك قرأت عن جرائم العثمانيين .. جرائم الإبادة فى أرمينية أشد بشاعة . لم يكن ما حدث مجرد إبادة شعب ، قتل وتشريد مليون ونصف مليون مواطن من أبناء أرمينية ، نصفهم من الأطفال . المجلدات والكتب العلمية تمزقت إلى أوراق ، غلف فيها الجبن والتمر وبذور الثمر . المخطوطات والمنمنمات الأثرية والرموز المعمارية ، وكل ما يتصل بالحضارة الأرمنية ، بداية من ثلاثة آلاف سنة .. ذلك كله تعرض للدمار والتشويه . حتى الصلبان نزعت من جدران الكنائس ، وسلب ما بها من أثاث وأيقونات ، وحولت إلى مخازن .
    واغتصب ضحكة باهتة :
    ـ حاولوا حل قضية الأرمن بإبادتهم !..
    ثم علا صوته كالمتذكر :
    ـ لن تعود أرمينية إلى أهلها ما لم يحرصوا على لغتهم وثقافتهم وروحهم ..
    تحدث عن انشغاله بألا يذوب الأرمن فى المجتمعات التى يعيشون فيها . لا يواجهون الذوبان والضياع . انصهر الآلاف من الأرمن فى مجتمعات لا يريدون الإقامة فيها ، وترفضهم . لم يكونوا مخيرين فى انصهارهم داخل بنى اجتماعية يختلفون عنها تماماً .
    عاودت نورا تحركها المتململ :
    ـ هل نبدأ من البداية ؟
    ألمح فى عينيه أنه قد انعزل عن كل ما حوله ، وعن العالم ، وأنه ينظر إلى ما يراه وحده . ربما ما استمعت إليه من صور الحياة فى بلاده : البشر والأسواق والكنائس والجبال والأودية والأنهار والقمع والاضطهاد والترحيلات الجبرية والمذابح ..
    سكت لحظة . فطنت ـ لما بدأ فى التحدث ـ إلى أنه يحاول السيطرة على انفعاله :
    ـ ما بين عامى 1894 ـ 1896 تواصلت مذابح الأكراد والجنود الباشبوزق ـ تسمية تركية ـ بأمر من السلطان عبد الحميد ، ضد شعب الأرمن . ظلت المذابح عاماً كاملاً ، مات خلالها 300 ألف شخص من القتل والجوع والعطش والإعياء والأمراض والبرد ، وهاجر أكثر من مائة ألف إلى البلاد العربية وروسيا والبلقان وأوروبا وأمريكا . لم يكن أمام الأرمن إلا أن يحملوا السلاح . تكونت الجماعات السرية ، وتعددت عمليات الاغتيال وتدمير المنشئات التركية ..
    ثم اتخذ قرار إبادة الأرمن فى الدولة العثمانية ـ سراً ـ فى فبراير 1915 . لجأ العثمانيون إلى الإبادة العرقية ليحققوا القومية الطورانية ، قومية الأتراك . جعلوا هدفهم " قومية واحدة وجنس واحد " . كان التخلص من الأرمن ضرورة ـ فى تقديرهم ـ لقيام الدولة الطورانية . لن تجد أوروبا ما تتحدث عنه بعد أن تزال عقبة الأرمن بين الأتراك العثمانيين والشعوب التركية فيما وراء القوقاز وبحر قزوين .
    تلقى الولاة والضباط الأتراك الأوامر شفاهة أو بالبرق . أوكلت المهمة إلى رجال الدرك والعصابات السرية ، حتى يبدو الجيش بعيداً . عادت المذابح فى إبريل 1915 . وامتدت حتى عام 1918 ، وشملت كل أرجاء الإمبراطورية العثمانية .
    بدأت المذابح بالمثقفين فى مساء 24 إبريل 1915 . اعتقل الأتراك أكثر من مائتى أرمنى ما بين أدباء وشعراء وصحفيين ومدرسين ومحامين وأعضاء فى البرلمان . اقتيدوا ـ فى الليل ـ بعيداً عن بيوتهم ، وأعدموا ، وأعدم ستمائة آخرون فى الأشهر التالية ..
    أخليت بيوت الأرمن ، وصودر الأثاث ، وبيع النساء والأطفال فى المزاد العلنى ، أو وهبوا إلى العائلات التركية وعصابات الأكراد . أزيلت معالم الآثار التاريخية التى تدل على قومية الأرمن . على أنه كان فى تلك البلاد من يسمون بالأرمن ..
    دفعنا إلى الرحيل ، النفى الإجبارى والتشريد ..
    كان الرحيل سيراً على الأقدام . وكنا ـ أحياناً ـ نجر العربات . لم يكن معنا إلا القليل مما سمح لنا بحمله . امتلأت الأعين بالخوف والدمع والموت ..
    بدأ الضياع ، الذوبان ، التلاشى ، منذ الأيام الأولى لعمليات النفى . القتل والاغتصاب وهجمات العصابات ومواجهة الصحراء والشمس والجوع والعطش . أكل النازحون الكلأ والميتة والجلود المسلوقة . أقدموا ـ أحياناً على أكل لحم البشر . استباح الجنود الأتراك أعراض النساء ، ودمروا ، وقتلوا . من تروق فى عين الجنود يقتادونها إلى ما وراء أكمات الحجارة والصخور والتلال الصغيرة . يغيبون بها ، دقائق تطول أو تقصر . ثم يترامى صوت إطلاق الرصاص . نعرف أنها قتلت بعد أن اعتدى الجنود عليها . وكانوا يربطون الأم وأطفالها بحبل ، ويلقون بهم من قمة الجبل ، ترتطم بالأرض قطعاً من اللحم المفتت . ربما ألقوا بالبعض أحياء فى النهر . من يحاول الطفو تلحق رأسه رصاصة ، فيغوص فى الماء . الجثة التى تطفو على السطح ، أو تقذفها الأمواج إلى الشاطئ ، تتخطفها الكلاب أو النسور . حصل الجنود على رخصة بفعل كل ما يريدون .
    أبيد حوالى نصف السكان الأرمن ، وهرب الباقون . صارت المذابح الأرمنية ملمحاً فى سياسة العثمانيين . تكررت ، فلم تعد تثير الغضب ، ولا الاستياء ، ولا حتى مجرد المناقشة . لم يبق من مليونى أرمنى ـ داخل الإمبراطورية العثمانية ـ سوى مائة وعشرين ألفاً فقط . فى أول يناير 1917 ، أعلنت الحكومة العثمانية نهاية القضية الأرمنية ، وأنه لم يعد للأرمن وجود فى دولة الخلافة ..
    قالت نورا وهى تدير خصلة الشعر المتهدلة على كتفها ..
    ـ أحتاج إلى معلومات كثيرة ..
    رفع رأسه ببطء ، واتجه إليها بنظرة مثقلة بالحزن :
    ـ ضمت المعسكرات 130 ألف أرمنى . امتدت على طول الطرق ، وعلى ضفاف نهر الفرات حول المدن الصغيرة : مسكنة والرقة والزيارة والسبخة ودير الزور . أكثر من ألف كيلو متراً قطعها الفارون سيراً على الأقدام . ابتلعت الصحراء الآلاف . من لاذوا بالكهوف ، حاصرهم الجنود بالبترول ، وأشعلوا النيران . تضاءل الآلاف إلى مئات ، والمئات إلى عشرات . مجرد أشباح كائنات بشرية ، تبحث عن جرعة ماء ، أو كسرة خبز . ما يحفظ عليها الحياة . بدا الوجود بلا معنى ، وأننا نعانى موتاً بطيئاً ، مؤكداً .
    لم نعد نملك أى شئ . لم يعد بحوزتنا أى شئ . حتى الثياب على الأجساد ، انتزعوا ما راق فى أعينهم منها . أجريت امتحاناً فى حلب أثبت من خلاله أنى طبيب . أجرينا الكثير من عمليات البتر لأيدى وأقدام وسيقان ، بلا معدات طبية ولا مسكنات ولا أدوية
    غاية ما كنا نتمناه هو النجاة بأرواحنا . الفرار من الرصاص ، والدفن أحياء ، والجوع ، والموت عطشاً . يظهر عساكر الأتراك . يطلقون رصاص بنادقهم ، فينتهى كل شئ . جثث الموتى الملقاة على امتداد الطرق ، حتى الخلوات والطرق الجانبية ، تناثرت فيها بقايا الجثث ، وحومت الكواسر فوقها .
    لم أكن أعانى الخوف على حياتى فقط . كنت أعانى التنقل ـ بالخوف ـ بين الفارين . أداوى المرضى ، أسعف الجرحى ، أوصى بدفن من يأخذهم الموت . اختلطت مشاعرى ، وتشابكت . لم أعد أفرق بين ما فى داخلى ، وما ينعكس من معاناة الفارين ..
    ضرب المكتب أمامه بقبضة يده :
    ـ الغريب أن كل تلك المذابح هى الجائزة لوقوف الأرمن إلى جانب تركيا فى حرب البلقان !
    قالت فى لهجة مشفقة :
    ـ سأعتبر ما فى التسجيل خطوطاً عريضة ، نتناول تفصيلاتها فى الجلسات التالية .
    وضعت الكاسيت فى حقيبتها ، ونهضت . حملت الحقيبة على كتفها ، وهمست : سلام . ومضت ناحية باب الشقة ..
    Reply With Quote  
     

  5. #5 رد: النص الكامل لرواية «صيد العصاري» للر 
    كاتب مسجل
    Join Date
    Jun 2006
    Posts
    1,123
    Rep Power
    20
    ـ 4 ـ

    اعتدت رؤيتها فى العيادة . أنست إليها مثلما أنست إلى الطبيب . تصيخ السمع ـ مثلى ـ لحكايات العجوز عن المذابح التى عاشها وهو يحاول الفرار بحياته . يسيطر بحديثه علينا ، لا نتململ ، أو نلقى أسئلة . نظل صامتين . نكتفى بالإصغاء ، حتى ينهى ما يحكيه ، فنبدأ فى السؤال عن الغامض والمجهول ..
    تحدث عن بوصلة فى داخله ، اتجاهها الوحيد ليس الشمال الجغرافى فى إطلاقه ، لكنها تتجه إلى أرمينية وحدها ، الملامح الواضحة والشاحبة والغائبة . لا معنى لحياة الإنسان بعيداً عن الأمكنة التى ألفها : البشر والبنايات والمناخ والمعتقدات والعادات والتقاليد .
    يقطع كلماته بتنهدات ، أو بنظرات صامتة ، متأملة ، لأفق الميناء الشرقية . يبدو ـ فى شروده ـ أنه فى حوار دائم مع نفسه . ربما انعكست مشاعره ـ أثناء الحوار ـ فى بسمة ، أو تكشيرة :
    ـ مضى العمر وأنا أعد نفسى للعودة إلى أرمينية ، تسرب دون أن أشعر ..
    وشى صوتها بنبرة مجاملة :
    ـ متعك الله بطول العمر ..
    كانا يتحدثان بالعربية ، وإن ضمنا كلماتهما مفردات بلغة لا أفهمها . أخمن أنها الأرمنية . مرة وحيدة تحدثا باللغة التى لا أعرفها . غلب على ملامحه انفعال . وكانت تصغى باهتمام واضح . أنظر إليها ، أتأملها ، أدقق فى الشعر المنسدل ، والعينين الزرقاوين ، الواسعتين ، والأنف الدقيق ، والشفتين كورقتى وردة . يختلط الزمان والمكان . يبعث الصوت الطفل راحة فى نفسى . أتجاهل نظرة العجوز الفاهمة ..
    أطلت النظر إليها ، أنتظر التفاتة قد لا تأتى . لاحَظت اتجاه نظرتى ، فأحسست بالحرج . تشاغلت بالتطلع إلى قارب يصيد المياس فى المينا الشرقية ..
    تنبهت على ارتفاع صوتها :
    ـ جئت إلى مصر إذن فراراً من مذابح الأتراك ضد الأرمن؟..
    قال الدكتور جارو :
    ـ لعلى أحببت أن أعمل فى ظروف مواتية ..
    ونزع نظارته ، وجرى على عينه بظهر إصبعه :
    ـ كان من الصعب أن أعمل فى ظروف توتر دائمة ..
    أعاد النظارة إلى موضعها ، واتجه إليها بنظرة حزينة :
    ـ سألت عن البداية . ما حدث اختلطت فيه البداية والنهاية ، اختلط فيه كل شىء ، لكننى سأحاول ..
    واعتدل فى جلسته :
    ـ كل الشواهد والإجراءات وأخبار الصحف دلت على أن إبادة الأرمن على أيدى قوات الأتراك كان مخططاً لها من قبل ، من قبل أن يوجد تبرير العنف الذى اتخذ ذريعة للإبادة . كانوا يخشون فكرة حصول الأرمن على الحكم الذاتى أو الاستقلال . لو حدث فسيفقدون أقاليم مهمة من أراضى الدولة العثمانية ، تشمل أجزاء من اليونان وصربيا وبلغاريا . كتبوا فى صحفهم : يجب أن يباد الأرمن . لقد زاد عددهم إلى درجة أصبحوا معها يمثلون خطورة على العرق التركى . الإبادة هى العلاج الوحيد .
    كان قيام الحرب العالمية الأولى فرصة لتنفيذ خطة إبادة الأرمن فى الدولة العثمانية . أذكر يوم الثانى من يناير 1915 ، فى بلدة أورمية الفارسية والمناطق المحيطة بها . انسحب الجيش الروسى المرابط فى المنطقة من سنة 1910 ، وهاجر الأرمن إلى داخل فارس . من تأخر رحيله واجه المذابح المدبرة بواسطة قوات الأتراك والأكراد التى دخلت المنطقة بعد انسحاب الروس . توالت ـ بعد ذلك ـ عمليات التصفية ، حتى على المستوى الوظيفى . أقيل موظفو الدولة الأرمن من وظائفهم ، وجرد العسكريون الأرمن فى الجيش العثمانى من أسلحتهم ورتبهم ، وشكلت طوابير عمل من الجنود الأرمن ، وبدأت عمليات مصادرة واسعة للأموال الأرمنية ، ثم اتخذ قرار بإبادة الأرمن ، والتخلص من القضية الأرمنية . وتكونت بالفعل لجنة ثلاثية للإشراف على تنفيذ برنامج الإبادة . صدرت الأوامر بإبادة كل الذكور الأرمن من سن اثنتى عشرة سنة .
    دفعوا الأكراد إلى قتل الأرمن فلا يحدث أى تقارب بينهما ، ويظل العداء قائماً . لم يجد الجنود الأكراد فى هجومهم على البنادر الصغيرة والقرى سوى مقاومة ضعيفة ، بوسائل بدائية . كان أكثر الرجال القادرين مجندين فى جيش السلطان . جرت مذابح جماعية مرتبة ، أبيد فيها البشر ، وأزيلت القرى . لم يبلغ حلب والموصل سوى خمسين ألفاً من حوالى سبعمائة وخمسين ألفاً فى بداية رحلة النفى ..
    أذكر من الولايات التى تنقلنا بينها : ديار بكر ، وان ، بتليس ، أرضروم ، خربوط ، بورصة ، أضنة ، موش . تصور قادة تركيا أن الأرمن فى ترحيلهم إلى البلاد العربية ـ عبر الصحارى والجبال ـ سيجدون ظروفاً دينية وعرقية معادية ، ويواصل العرب مهمة إبادة الأرمن . لكن ذلك لم يحدث . قدم العرب العون إلى الآلاف من الأرمن الذين طاردهم الموت ، وواجهوا المجهول ..
    قتل الكثيرون فى صحراء " مارات " ، على بعد كيلو مترات من دير الزور ..
    طالعتنا دير الزور ـ بعد أيام طويلة ـ فيما يشبه التيه . المدينة تقع على الضفة اليسرى لنهر الفرات . يصلها جسر بالجزيرة الصغيرة فى وسط النهر . أذكر الأشجار والمزروعات التى كانت تغطى مساحات الرؤية فى الجزيرة . تحددت إقامتنا ـ فى الأشهر الأولى ـ داخل الجزيرة . لا فرصة للفرار . يحيط الجنود العثمانيون بالمناطق المقابلة . مراكز حراسة ، تقف على الجسر الموصل بين دير الزور والجزيرة ، والجسر الآخر الموصل بين الجزيرة وأرض ما بين النهرين . كان العرب يعبرون الجسرين فى حرية ، دون أسئلة ، ولا تفتيش . أما الأرمن فلابد من إبراز ما يحملون من وثائق ، وإخضاعهم للمراقبة والتفتيش ..
    لاحظت نورا أنى بدأت أتململ فى جلستى ، وهو يعيد ما سبق أن رواه . نورا تنصت ـ أو تتظاهر بالانصات ـ وترنو ناحيتى بنظرة جانبية ، مبتسمة .
    قال الدكتور جارو :
    ـ تركت تركيا أعداداً من الأرمن يفرون إلى البلاد العربية . أوعزت للعرب بقتلهم ، فرفضوا . وهو ما يحسبه الأرمن للعرب ..
    ثم وهو ينقر على المكتب بسبابته :
    ـ ما قدمه العرب من مساعدات للأرمن كان ينطوى على مجازفة غير محسوبة . رفض الولاة والرؤساء والموظفون ذوو الأصول العربية أن ينفذوا الأوامر الصريحة بإبادة الأرمن المرحلين ، وواجهوا عقوبات بلغت حد الإعدام . لم ينفذ الوالى العربى فى دير الزور ما تلقاه من أوامر عثمانية . زاد فشيد مبنى لحوالى ألف من أطفال الأرمن ، واستضافهم ـ لفترة ـ فى دير الزور ـ قبل أن يطرد من منصبه . كنت واحداً ـ لك أن تعتبرنى كذلك ـ من المندسين وسط هؤلاء الأطفال ..
    فى سبتمبر 1915 تمكنت السفن الإنجليزية والفرنسية الموجودة فى البحر المتوسط من نقل آلاف الأرمن إلى الإسكندرية وبور سعيد . كانت الحياة قاسية . الطعام يصل بصعوبة ، لا يزيد عن خبز وجبن وزيتون وبصل ولبن للأطفال . كنت واحداً ممن يعانون الجوع والمرض والإرهاق والبرد والتيفوس والظروف القاسية ..
    أقمت ما يقرب من الشهر فى خيمة ، ضمن قرى من الخيام ، خصصت للمهاجرين الأرمن فى الإسكندرية . جاوز عملى كطبيب مجرد الإقامة فى خيمة . صرت واحداً من أطباء الصليب الأحمر الأرمنى ، إلى جانب أطباء وممرضات من جنسيات مختلفة . أفادتنى مهنتى فى الخروج إلى المدينة . لم ألجأ إلى القفز فوق الأسلاك الشائكة ، ولا إلى التسلل فى ظلمة الليل ..
    أضاف فى نبرة تأكيد :
    ـ لولا إقامتى القصيرة فى دير الزور ، ما استطعت التنقل مع أعداد ظلت فى تناقص ، إلى حلب ، ومنها إلى الإسكندرية ، لأفتتح هذه العيادة ..
    وتنهد :
    ـ هذا اختصار لرحلة طويلة ، قاسية ، لا أتصور كيف عشتها .
    وأشاح بيده :
    ـ ذلك زمن قديم . رويت ما احتفظت به ذاكرتى ..
    قالت نورا :
    ـ ألم تنس بعض الوقائع ؟
    مط شفتيه وهز رأسه :
    ـ لا أظن !
    رنوت إلى العجوز . آلمتنى نظرة مفعمة بالحزن . أدركت أن الرجل يعانى ..
    وهى تدير خصلة الشعر بإصبعها :
    ـ لماذا يرتكب الناس هذه الجرائم ؟
    واتجهت إليه بملامح متسائلة :
    ـ هل اعتبر الأرمن مذابح العثمانيين قدراً ؟
    قال جارو :
    ـ مشكلة الحركة القومية الأرمنية أنها لم تكن موحدة . لم يحدث تنظيم يحاول منع عمليات العنف والذبح التى راح ضحيتها آلاف الأرمن ..
    ولجأ إلى التعبير بيديه :
    ـ قلبت الحرب العالمية الأولى كل الحسابات ، وأحدثت ارتباكات فى صفوف الأرمن لم يكونوا قد أعدوا أنفسهم لها ..
    ثم وهو يلوح بسبابته :
    ـ مع ذلك ، دفع جميع الذين كانوا وراء المذابح حياتهم بواسطة جماعة الطاشناق الأرمنية . أفلح فدائيو الجماعة فى اغتيالهم قبل مرور سبع سنوات على مذابح 1915
    واكتسى وجهه إمارات جدية ، وقال كمن يحسم أمراً :
    ـ منذ أواخر القرن التاسع عشر إلى أوائل هذا القرن ، ذبح ما يقرب من المليون نسمة . القرار الذى اتخذه كل الناجين من المذبحة ، وإن لم يعلنه أحد ، هو ألا ننسى ما حدث فى تلك الأيام . نحترم ذكرى من قتلوا . قد ينسى العالم ، لكن ليس من حقنا ، ولا واجبنا ، أن ننسى .
    لم يتحدث عن أسرته : أبويه ، زوجته وأولاده ، إن كان قد تزوج وأنجب . هو الدكتور جارو فارتان ، المواطن الأرمنى . ثمة شىء يغيب عن وجدانه منذ أجبر على الرحيل . ما حدث قطع الفرع بالجذور ، فقد الصلة بمن ينتمى إليهم ، وإن لم يقتصر حنينه إلى المعانى المطلقة . من المستحيل أن تترك وطنك ، وتتخلى عن البيئة التى ألفتها ، وأحببتها ، إلى عالم تجهله ، ولا تعرف عن ناسه ، ولا عنه ، شيئاً . من المستحيل أن تختلق لنفسك وطناً . الوطن حيث نشأت ، وكونت الصداقات ، وعايشت الذكريات ، وخضت التجارب الحلوة والمرة ، والمغامرات الحسية ، ونسجت العلاقات ، وألفت الأمكنة ، هى ـ فى الذهن ـ والوجدان ـ حتى لو أغمض الإنسان عينيه ..
    العيادة هى حدود صداقتنا . حدود العالم الذى تعيش فيه هذه الصداقة . فى حياته مناطق ومساحات أغلق أبوابها جيداً ، أحاطها بأسوار لا يأذن لأحد بالقفز فوقها . لا لقاءات خارج الشقة ، أو البيت . لم يشر حتى إلى مكان إقامته ، بعيداً عن العيادة . التقطت من كلماته أسماء : ترام الرمل ، الإبراهيمية ، طريق الكورنيش ، مدرسة يوغوصيان الأرمنية ، نادى سبورتنج ، مصلحة الجوازات ، التريانون .. لم تشكل قسمات واضحة فيسهل تصورها .
    حين أبديت ملاحظة على اتساخ البالطو الأبيض ، تحدثت نورا ـ بعفوية ـ عن تعدد البلاطى البيضاء النظيفة ، المكوية ، فى دولاب حجرة نومه . أدركت أنه يستقبلها فى بيته ، يخصها بما لا أعرفه ، ولا أشار إليه فى جلساتنا . لم أناقش الأمر ـ بينى وبين نفسى ـ ولا خمنت أفقاً مثيراً .
    داعبته بالقول :
    ـ أتصور أن حياتك موزعة بين البيت والعيادة ، أو فى الطريق بينهما ..
    سرح فى هيئة من يتأمل معنى الكلمات ، ثم أومأ موافقاً ..
    أطالت نورا التحدث عن زيارة العجوز لكنيسة الأرمن الكاثوليك . كانت زيارته الأولى . تناثرت كلمات : المذبح والتراتيل والأرغن والزيت المقدس والمناولة والشموع والتراتيل ..
    أرجع العجوز موافقته على اقتراح نورا بزيارة الكنيسة إلى تقدمه فى العمر . لا بأس من أداء الطقوس الدينية ، حتى لو كانت احتمالات الحساب فى الآخرة ضئيلة .
    ***
    لاحظت نورا ما تعمدته ، وإن تصورت أنى أسترق النظر إليها . راحت ترمقنى بطرف عينها ، كأنها تهم بإمساك اللحظة .
    قلت ، واليأس يكاد يغلبنى لأثير اهتمامها :
    ـ هل حصلت على الليسانس من جامعة فاروق الأول .. أو من فرع جامعة القائد إبراهيم ؟
    قالت :
    ـ جامعة فاروق الأول أنشئت فى 1942 . أعتز بأنى سأكون من أولى الحاصلات على الماجستير ..
    وأدارت خصلة الشعر بإصبعها :
    ـ إذا كنت خريجة أول دفعة فى قسم التاريخ بآداب جامعة فاروق الأول ، فإنى الآن أول طالبة دراسات عليا ..
    فطنت ـ وأنا أسترق النظر إلى وجهها ـ إلى الشامة الصغيرة أسفل ذقنها ..
    شغلنى ـ فى اللحظة التالية ـ تدبير لقائى بها ، بعيداً عن عيادة الدكتور جارو . أضع فى عينى نظرة ، تشى بصمتها أنى أريد أن أقول لها شيئاً . أصارحها بما أعجز عن البوح به ..
    متى ؟ وكيف ؟ وماذا لو نقلت إلى العجوز ما أعرضه عليها ؟ هل تكون النتيجة ابتعادى عن حياة جارو ، وعن حياتها ؟
    Reply With Quote  
     

  6. #6 رد: النص الكامل لرواية «صيد العصاري» للر 
    كاتب مسجل
    Join Date
    Jun 2006
    Posts
    1,123
    Rep Power
    20
    ـ 5 ـ

    تعددت زياراتى للعيادة . لا لمرض ، ولا حتى للقاء الدكتور جارو ، وإنما لرؤية نورا . الجلوس إليها ، ومناقشتها . يغيب الموضوع المحدد ، القضية المحددة . مجرد أن أجلس إليها . أتأمل الوجه الطفولى ، والبشرة الناعمة ، والعينين الزرقاوين ، الواسعتين ، اجتذبتنى بما لم أستطع تحديده . شعور غامض أخفقت فى تفسيره ، وإن سيطر على بما يصعب مغالبته . تختلط فى ذهنى بأفكار غير محددة ، بما يشبه التصورات أو الأحلام . ورابت باباً توقعت وراءه ما هو أشد جمالاً من السحر ..
    حاولت أن أتماسك ، فلا أفضح مشاعرى نحوها . أخشى أن يفطن العجوز ، أو تزجرنى . ربما لا أدخل العيادة ثانية ..
    أجلس فى الصالة ..
    المينا الشرقية ـ من ورائى ـ فى مدى الأفق . عيناى مسمرتان على باب العيادة الموارب . أتوقع ، أنتظر ، قدومها . تطالعنى بقامتها الطويلة ، والشعر المنسدل ، والأنف الدقيق ، والشفتين كورقتى وردة ، والشامة الصغيرة أسفل ذقنها ، والغمازتين المبتسمتين مع ابتسامتها الدائمة ..
    أتجاهل نظرة الدكتور جارو ، تأخذنى اللهفة من ثرثرته ـ هى فى لحظات الانتظار مجرد ثرثرة ـ بوقع أقدام على السلم . أنسى حتى وجود العجوز . حتى هزة الرأس دلالة المتابعة ، أنساها . تدعونى بابتسامتها المرحبة ، ويظل الدكتور جارو على صمته . أقترب منه ، وإن لم أجلس على أحد الكراسى المصفوفة أمامه . أتعمد أن تكون جلستى بحيث ترانى إذا تحدثت معه . لم أستطع أن أتبين الجدار غير المرئى الذى يفصل بيننا ، ويحول دون أن أعترف لها بمشاعرى . أدركت أنى فى حاجة إلى جرأة ، لا أمتلكها ..
    انطبع ـ فى ذاكرتى ـ امتداد البنايات من زاوية الحجرة إلى المينا الشرقية : الشرفات ، مناشر الغسيل ، النوافذ ، الوجوه المطلة ، المناور الفاصلة ، الأفاريز ، المقرنصات ، أسلاك التليفون ، لافتات العيادات ومكاتب المحامين ، النشع المتناثر فى الواجهات ..
    لاحظت حرصها على تحاشى النظر ناحية عينى اللتين تمتلئان من قسماتها ، وتحملان مشاعرى . شغلنى الإفصاح ـ أو حتى التلميح ـ بمشاعرى نحوها . حاولت أن أنبهها كى تلتفت نحوى بعينيها الواسعتين . أتأمل بحرهما الصافى الزرقة وأنا أتكلم . أسأل ، وأجيب ، وأناقش ، وأبدى الملاحظات . تفاجئنى بنظرة وأنا أتأمل ملامحها . أغالب الارتباك . أتظاهر بالشرود ، أو بالنظر إلى شىء غير محدد ..
    رددت نفسى عن محاولة مد أصابعى ولمس يدها المسترخية على الطاولة . أتمنى لو أنى وضعت يدى على بشرتها الناعمة ، لو أنى تحسستها . أدرك الحاجز غير المرئى الذى حرصت على أن تضعه بيننا .
    كان العجوز ـ إذا تحدثت ـ يتظاهر بمتابعتى . يهز رأسه دلالة المتابعة بالفعل ، لكن عينيه كانتا دائمتى الالتفات نحو الفتاة . وكانت ـ إذا جاءت سيرتها فى كلام بينى وبينه ـ داخل نبرة صوته تهدج ، وغلبه الانفعال ..
    لم أجد فى نظرات الطبيب المتسللة إليها ما يمنعنى من إهمال نمو الإحساس بالحياة فى داخلى . إذا كان يحبها ، فهو لا يملك الإطار الذى يضع فيه حبه . لا رفقة ، ولا زواج ، ولا حتى علاقة عابرة ..
    قال لى وهو يطل على صيادى المياس فى المينا الشرقية :
    ـ الشاب لا يحتاج إلا إلى امرأة ليفرغ شهوته ..
    ثم وهو يتأمل البقع البنية المتناثرة فى ظهر يده :
    ـ أما من هم فى مثل سنى فإن طقوس ما قبل العلاقة تأخذ أضعاف الوقت الذى تأخذه العلاقة نفسها ..
    ورفع رأسه ببطء :
    ـ كنت أعانى مرضاً وحيداً هو الحنين إلى الوطن . تتقاسم حياتى الآن أمراض أخرى فرضتها الشيخوخة !
    لم تكن تضايقه المداعبات . يفهم الدعابة ، ويستجيب لها . يرد عليها ببديهة حاضرة ، يظهر حزناً صامتاً إذا لامست الدعابة حياته الخاصة . يحيط نفسه بسور غير مرئى يصعب اختراقه . لا أستطيع أن أتعرف فى عينيه إلى شىء يخفيه ، ولا أن أقرأ مشاعره ، وإن أدركت أن وراء الشخصية الغامضة ، مخلوق عاطفى ، وطيب القلب .
    ***
    استأذنته فى أن يعيد ما رواه فى الجلسة السابقة . تبينت ـ حين بدأت فى إفراغ الشريط ـ أنها نسيت تشغيل جهاز الكاسيت ..
    وضع فى راحة يده حبتين من علبة الدواء البيضاء المستديرة . ثم دفعهما فى فمه ، وأتبعهما بجرعة ماء :
    ـ الخوف ـ وحده ـ هو الذى منعنى من العودة إلى أرمينية بعد قيام الجمهورية الأولى فى 28 مايو 1918 . اقتصرت التسمية على العاصمة يريفان والقرى المحيطة . توقعت أن يكون للأحداث امتداداتها . لكن أرمينية ظلت هناك . أحيا بتوقع العودة إليها . أنت تجدين فى أسرتك ، عائلتك ، حائط الاطمئنان ، وأن العودة إليها متاحة وممكنة . يختلف الأمر لو أن الوطن غائب ، والعائلة ، الأسرة ، لا يدرى المرء أين تحيا ، إن كانت على قيد الحياة ، ولا يدرى كيف يصل إليها ..
    وتعكرت ملامح وجهه :
    ـ ظلت فى ذاكرتى جثث القتلى الطافية فوق مياه الفرات . اقتحم داخلى ربما بما هو أكبر من الخوف . أتصور نفسى فى الأجساد المنتفخة ، المشوهة الملامح ..
    تدخلت بالقول :
    ـ هل ظللت خائفاً كل تلك السنوات ؟
    قال :
    ـ تحولت الجمهورية الأرمينية الأولى إلى الشيوعية . انضمت إلى الاتحاد السوفيتى . صادرت السياسة حقوق الأرمن عشرات السنين ..
    ـ أعرف أن الآلاف عادوا فيما بعد ..
    ـ هذا صحيح .. لما أقام الاتحاد السوفيتى علاقاته الديبلوماسية مع البلاد العربية ، فتح أبوابه لمن يرغبون من الأرمن فى العودة إلى وطنهم الأول .. عاد حوالى خمسة آلاف .. لم أكن منهم .
    ـ لماذا ؟
    ـ صارت مجرد إقليم فى دولة شيوعية .. احتلال مختلف ..
    قلت :
    ـ أثق أن الطائرات غيرت فكرة الإنسان عن الوطن ..
    أردفت لنظرته المندهشة :
    ـ لم نعد نحتاج إلى الأوقات الطويلة للانتقال بين بلد وآخر ..
    وربت يدى على كتفه :
    ـ العالم كله فى المستقبل هو وطن الإنسان .
    Reply With Quote  
     

  7. #7 رد: النص الكامل لرواية «صيد العصاري» للر 
    كاتب مسجل
    Join Date
    Jun 2006
    Posts
    1,123
    Rep Power
    20
    ـ 6 ـ

    قال فيصل مصيلحى وهو يعيد الأوراق :
    ـ لازلت تصر على السير فى الزقاق المسدود .. فلسطين لن تتحرر بالمقالات ولا بالمظاهرات ..
    ثم وهو يهز قبضته :
    ـ لن تحررها إلا القوة !
    تعمدت اختيار نبرة مهونة :
    ـ القوة تملكها الجيوش .. نحن لا نملك إلا المظاهرات والمقالات لتعبئة الرأى العام وإدانة الحكام ..
    غاظه تردد " حدتو " فى إدانة ما تفعله عصابتا شتيرن والهاجاناه ضد شعب فلسطين . سأل ، وناقش ، وأبدى الملاحظات . لم يقتنع بأسباب الصمت . وجد فى دعوة الإخوان المسلمين ما لم يفطن إليه . كأنه يتعرف إلى دعوة الجماعة للمرة الأولى . اطمأن إليها . أزالت ما عاناه من ارتباك لصمت جماعته عما يجرى فى فلسطين :
    ـ أنا مسلم .. والانضمام إلى الإخوان المسلمين قرار صائب .. متأخر ..
    لم ينضم إلى جماعة ولا تنظيم من أى نوع . اهتماماته دينية ، وإن ظلت بلا أطر تحددها . ما يقتنع به يقوله ، أو يفعله . لا يشغله إن صادف قبولاً ، أو واجه الرفض . كنت أحدس انتماءه إلى جماعة الإخوان المسلمين . آراؤه وتصرفاته وضعته فى إطار أراه من خلاله . الأخوان هم الحراس على شريعة الإسلام ، الراعون لمصلحة الأمة . يحدثنى عن دروس الشيخ البنا . آراء الإخوان فى أحوال المجتمع . يدفع لى بكتب ، تدل عناوينها على ما تنطوى عليه : الإسلام فى طور جديد لحسن البنا ، تفسير ابن كثير ، إحياء علوم الدين للغزالى , الإسلام بين جهل أبنائه وعجز علمائه لعبد القادر عودة ، الاتجاهات الوطنية فى الأدب المعاصر لمحمد محمد حسين ..
    قضايا الدين فى المؤخرة من اهتماماتى . تشغلنى قضايا السياسة : الاستقلال ، الديمقراطية ، فساد الحكم . ليست وحدها ما كنت أكتب عنه ، لكنها اجتذبتنى فيما يشبه الدوامة ..
    شارك فى حملة التبرعات . وضع على ساعده الأيمن شارة من القماش باللونين الأحمر والأسود ، كتب عليها بخط كبير : انقذوا فلسطين ..
    لمح نظرتى إلى الكتاب ـ فى درج مكتبه العلوى ـ عن أعمال المقاومة الشعبية . حدثنى عن تعلمه فك أجزاء المسدس ، وتركيبه ، واستعماله . تدربه على إلقاء القنابل اليدوية . تفرقته بين أنواع المفرقعات والمواد الناسفة وأدوات التفجير ..
    قلت :
    ـ العنف لن يؤذى إلا المصريين الغلابة ..
    فى بالى حوادث إلقاء المتفجرات على معسكرات الجيش البريطانى ، وأماكن تجمعاته ، وعلى نادى الاتحاد المصرى الإنجليزى . أعرف أن الهدف هو إظهار غضب المصريين من احتلال الإنجليز لبلادهم ، وأن عدم الجلاء سيؤدى إلى حوادث أخرى ، مماثلة . هدف جميل ، ومطلوب . أخشى أن تخطئ القنبلة الهدف الأجنبى فتصيب هدفاً مصرياً . عمّق من إحساسى بالخوف والمشاركة وقوع اعتداء على كنيسة فى الزقازيق . اتهم الإخوان المسلمون بأنهم دبروا ، ونفذوا ، ما حدث . كان فيصل يكتفى بقراءة الأخبار . يقرأها جيداً . ربما أعاد قراءتها ، ثم يطوى الجريدة . يضعها على طرف المكتب . لا يسأل ، ولا يستوضح ، ولا يبدى رأياً . حتى النظرة التى أحرص أن تحمل معنى ، يتجاهلها ، يكتم حتى مشاعره . تظل ملامح وجهه ساكنة ، وإن وشت آراءه وتصرفاته بما يخفيه . تكررت رؤيتى له وهو يعيد تلاوة سورتى الأنفال والتوبة ، وهو يقرأ كتب حسن البنا ، وهو يدخل إلى شعبة الإخوان فى بحرى ..
    قال :
    ـ ليس الأمر كما تتصور ..
    أضاف فى لهجة حزينة :
    ـ أعادت لى اللجنة العليا للمقاومة طلباً بالسفر إلى فلسطين ..
    ثم وهو يشير إلى عينه :
    ـ الكشف الطبى أثبت ضعف بصرى ..
    وحومت نظراته فى الفراغ :
    ـ كنت أريد الانضمام إلى كتائب الإخوان..
    قاطعته :
    ـ قرأت أن الإخوان يريدون مصر عن طريق فلسطين ..
    ـ كذب !.. يريدون فلسطين عن طريق مصر ..
    واتجه ناحيتى بنظرة متسائلة :
    ـ لماذا لا تتطوع ؟
    ـ لم أفكر فى هذا الأمر ..
    ـ ستعود فلسطين بالقتال وليس بالكلمات ..
    قلت فى هدوء :
    ـ ما قلته يصنع من الكلمات شعاراً جميلاً ..
    قال :
    ـ هل تتصور أن فلسطين ستعود إلى العرب بمقالاتك ؟
    وأنا أغالب شعوراً بالعجز :
    ـ ما أتصوره أننا لا نتعامل بجدية مع الحدث !
    Reply With Quote  
     

  8. #8 رد: النص الكامل لرواية «صيد العصاري» للر 
    كاتب مسجل
    Join Date
    Jun 2006
    Posts
    1,123
    Rep Power
    20
    ـ 7 ـ

    كنا نجلس على الكورنيش الحجرى . ندلى سيقاننا إلى داخل البحر . يلامسها رذاذ الموج فى اصطدامه بالمكعبات الأسمنتية . أفق المينا الشرقية يمتد إلى ما بعد حاجز الأمواج بين السلسلة وقلعة قايتباى . مساحات من الزرقة المتصلة بلا انتهاء ، أو حتى التقاء السماء بها . وثمة صياد توقف عن التجديف . ترك القارب يطفو فوق الأمواج الهادئة . وكانت الشمس شديدة البياض ، فلا نستطيع التحديق فيها ، ولا حتى مجرد النظر إليها .
    انشغلت بتأمل السمكات وهى تنتفض . تحاول القفز خارج الغزل ، أو النفاذ منه ..
    قالت :
    ـ أكره أن ينتزع السمك من الماء ، مثلما أكره أن يعدم الإنسان ..
    وأرخت رموشها الطويلة على عينيها :
    ـ الأرض هى دنيا الإنسان ، والمياه هى دنيا السمك ..
    قلت :
    ـ أحل الله صيد السمك ..
    ـ أنا أتحدث عن قناعتى ..
    واتجهت ناحيتى بملامح متسائلة :
    ـ لماذا يطلق على المياس صيد العصارى ؟
    ـ لأن صيده يتم ـ غالباً ـ وقت العصر ..
    ـ لماذا ؟
    وأنا أظهر الحيرة :
    ـ اسألى الصيادين !
    ـ ألست من بحرى ؟..
    ـ صلتى بالسمك هى تناوله على المائدة ..
    تحدثت عن البحر والصيد والصيادين . فى زراعة الأرض لابد أن نبذر الحب ، ونتعهده بالرى ، ثم ننتظر الثمار . نحن فى البحر نكتفى بإلقاء السنارة ، أو الشباك .
    كانت تعرف كل ما يتصل بالصيد . مناطق تجمع الأسماك ، وطرق صيدها . وكانت تعيب على صيادى الطراحة والجرافة أنهم يلقون فى المياه شباكاً ضيقة الثقوب ، فتصعد بالزريعة الصغيرة ..
    حلق غراب من فوقنا . أخفضت رأسها ، وأشاحت بيدها :
    ـ أكره هذا الطير ..
    ـ هل آذاك ؟
    ـ إنه يأكل ما فوق الماء من سمك الدينيس ..
    ـ لماذا الدينيس ؟
    وهى ترفع كتفيها :
    ـ وجبته المفضلة !
    صارحتنى بأنها تجد نفسها فى منطقة ما بعد ميدان أبى العباس : السيالة وحلقة السمك وشاطئ الأنفوشى وورش المراكب والكبائن الخشبية والباعة وطائرات الأولاد الورقية ، والحديقة الواسعة أمام سراى رأس التين ..
    قالت :
    ـ أنا أحب أن أتحدث إلى البحر . مجرد أن أنظر إليه بما فى داخلى ..
    ثم وهى تدير خصلة الشعر بإصبعها :
    ـ ميزة البحر أنه يبتلع كل شئ .. حتى الأسرار ..
    ـ أسرارك كثيرة .. إذن لا يسعها إلا البحر ..
    ـ أبداً .. لكننى أثق فى صمت البحر ..
    ظللت صامتاً ، وإن استحثثتها ـ بنظرة مشجعة ـ على مواصلة الكلام . قالت :
    ـ كل شئ يذهب إلى البحر .. حتى مياه النهر تنتهى إلى البحر ..
    وواجهتنى بالسؤال :
    ـ هل تجيد العوم ؟
    قلت :
    ـ منذ سنوات أكتفى من البحر بالتطلع إليه ..
    ***
    احتضنت ركبتيها ، وحدقت فى أفق المياه الممتد ..
    فاجأتنى بقولها :
    ـ أنت لم تدعنى لزيارتك ..
    ـ خشيت أن ترفضى ..
    ـ ألا تقيم مع أهلك ؟
    ـ مع والدتى .. أبى مات منذ ثمانى سنوات .. وأختى متزوجة ..
    ـ أنا أقيم مع أبوى وإخوتى .. ولدان يوسف ويعقوب يملكان مكتباً للتصدير والاستيراد ..
    ثم وهى تهز رأسها :
    ـ تحدثت إليهم عنك ..
    ومدت يدها للمصافحة :
    ـ نحن نرحب بزيارتك ..
    البيت يطل على المينا الشرقية . فى منتصف المسافة بين تمثال الخديو إسماعيل وقهوة المطرى . البيوت المتقاربة الارتفاع ، المتشابهة القسمات . ستة أو سبعة طوابق ، جدران تآكلت من ملوحة البحر ، مداخل رخامية فسيحة بلا مصاعد ، نوافذ وشرفات خضراء ، مرتفعة بارتفاع الجدران ..
    تأكدت من العنوان فى الورقة . ثم ضغطت على الجرس ..
    طالعنى من وراء الباب الموارب وجه نورا ..
    قالت :
    ـ أهلاً ..
    وفتحت الباب ..
    عرفت أنهم يتوقعون زيارتى ..
    أشارت إلى شيخ فى حوالى الخامسة والستين :
    ـ أبى .. الخواجة أندريا بابيجيان ..
    فى وجهه شىء مميز لم أدركه . ربما الجبهة المرتفعة ، أو الحاجبين الكثيفين ، أو العينين النفاذتى النظرة بما لا يتفق مع تقدم سنه . تناثرت فى ذقنه شعيرات بيضاء لم يحسن إزالتها . يرتدى قميصاً أبيض يكشف عن صدر يفز شعره الأبيض ، الكث ..
    قال :
    ـ تقديم لا يخلو من مجاملة .. أنا مجرد صاحب ورشة صغيرة لتجارة الجلود ..
    وأمسكت نورا بساعد سيدة فى أواخر العقد السادس :
    ـ أمى .. السيدة ليليان .. خير من تطرز القطيفة بالخيط الذهبى ..
    أميل إلى السمنة . أجادت صبغ شعرها لولا الشعيرات البيضاء البازغة فى المفرق ، أوسط الرأس . لها وجه طفل ، يخفى حقيقة عمرها ، أبيض ، مشرب بحمرة . يعلو عينيها حاجبان مثل هلالين صغيرين . ترتدى فستاناً أبيض واسعاً ، تناثرت عليه دوائر زرقاء ، أحاطت معصمها بغوايش كثيرة ، تحدث صوتاً إذا تحركت يدها . لفت منديلاً من الحرير حول رقبتها ، وتتدلى على صدرها سلسلة ذهبية ، تنتهى بصليب . تدس قدميها فى حذاء مكشوف ، أطلت منه أصابع طليت أظافرها بالمانيكير ..
    الشقة مربعة الشكل ، تتوسط الصالة حجراتها الأربع ، تناثر فيها كراسى من خشب الأبنوس المطعم بالذهب ، وثمة ردهة ـ ضيقة نسبياً ـ تفضى إلى المطبخ والحمام وشباك المنور المغلق . الجدران مغطاة بورق رسمت عليه ورود زرقاء متباينة الأحجام . ينسجم لون الستائر مع زرقة الجدار . توسطت الجدار مرآة هائلة فى إطار مذهب . ثمة ـ فى الجانب ـ شمعدان كبير من الفضة ، إلى جانبه تمثال صغير للعذراء تحمل وليدها . تدلت من الجدران مشغولات يدوية من الكانفاه والسرما . فوق الطاولة الرخامية تماثيل صغيرة لطيور وحيوانات ، تتوسطها سلة فاكهة من الخوص ، بداخلها تفاح وخوخ وكمثرى .
    قالت الأم وهى تشير إلى المشغولات المتدلية من الجدران :
    ـ التطريز وسيلة لشغل وقت الفراغ ..
    قال الأب :
    ـ نورا حدثتنا عنك ..
    وأنا أبتسم :
    ـ قطعت فروتى ؟
    ـ بل ألبستك ثوباً من الذهب ..
    أردف بلهجة متفاخرة :
    ـ تحدثت كثيراً عن مواقفك ضد اليهود ..
    ـ ليست ضد اليهود ، فلى منهم أصدقاء . أنا ضد ما يحدث فى فلسطين ..
    قالت الأم :
    ـ يقول الخواجة إن انشغالك بقضايا السياسة زاد من اهتمامها بإنجاز رسالتها ..
    قلت بعفوية :
    ـ ما الصلة ؟
    قال :
    ـ أصعب الأمور أن يطرد شعب من بلده ..
    وارتجفت عضلة فكه :
    ـ شهدت أرمينية أول إبادة جنس جماعية فى هذا القرن ، ثم تلتها بعد ثلاثة عقود محاولة إبادة الشعب الفلسطينى ..
    قلت :
    ـ الأرمن عادوا إلى بلدهم .. ويعودون ..
    وفى لهجة معتذرة :
    ـ فى فلسطين .. الوضع يختلف ..
    تحدث عما فعله العثمانيون فى أرمينية عقب احتلالهم لها . نقلوا إلى الأستانة أربعين ألفاً من الحرفيين والصناع الأرمن . عملوا فى الحرف والصناعات الدقيقة والمشغولات الذهبية ، وفى مناجم الفضة ، وفى الخياطة والحفر والتطريز واللحام والخراطة ، ومهن أخرى كثيرة ..
    ثم اتجه بعينيه ناحيتى كأنه يتأمل رد الفعل لما قاله ..
    ـ الشىء نفسه فعلوه فى المصريين بعد أن احتلوا بلادهم ..
    تحدث بلهجة تخلو من الكلفة . روى عن قدوم أبويه من أزمير ، فى هجرة الأرمن أواخر القرن التاسع عشر . آلاف الفارين من المذابح والمجاعات . استوعبتهم الخيام والعشش فى أفنية الكنائس والمدارس الأرمنية ، ثم خرجوا إلى وظائف الحكومة ، والحرف التى يتقنها الأرمن ، ونقلوها إلى مصر : التصوير ، وصناعة الزنكوغراف ، وصنع البسطرمة ، وإصلاح الأحذية ..
    قال :
    ـ عمل أبى ثلاث سنوات فى وكالة ماتوسيان للسجاير بشارع فرنسا . لم تكن مهنته ، فاستقال منها ، وافتتح ورشة صغيرة لصناعة الجلود ..
    واستعاد لهجة التفاخر :
    ـ كما ترى ، فإن إنجابى هو إنجاز أبى الأول !
    تحدث عن الإسكندرية الكوزوموباليتينية ، إسكندرية الخواجات . المقاهى والمخابز ومحال البقالة والدخان والسجائر والكازينوهات واللوكاندات .. كلها للأروام والأرمن والإيطاليين والإنجليز والفرنسيين ..
    قلت ضاحكاً :
    ـ لهذا تهتف المظاهرات : عاشت مصر حرة مستقلة ..
    قال :
    ـ حرة من الاحتلال العسكرى الإنجليزى ..
    دندن بأغنية شعبية أسبانية ، تروى عن أهل المدينة الذين ألقوا بالمسيح فى النهر لأن السماء لم تمطر ..
    قال :
    ـ هذا هو الجزاء الذى لقيته الجاليات الأجنبية فى مصر ..
    وأشار إلى صدره بأصابع مضمومة :
    ـ نحن قدمنا للإسكندرية خدمات كثيرة ..
    لاحظت تغيراً فى سحنته ، وما يشبه الغضب ..
    Reply With Quote  
     

  9. #9 رد: النص الكامل لرواية «صيد العصاري» للر 
    كاتب مسجل
    Join Date
    Jun 2006
    Posts
    1,123
    Rep Power
    20
    ـ 8 ـ

    قال الخواجة أندريا وهو يدفع أمامى الطبق الكبير بأصابعه :
    ـ المياس هو أجمل أنواع السمك فى المينا الشرقية ..
    تذكرت السؤال :
    ـ لماذا يسمونه صيد العصارى ؟
    ـ لأن أنسب أوقات صيده ساعات العصارى ..
    وأشار بيده ناحية البحر :
    ـ ألا تلحظ تعدد البلانسات فى ذلك الوقت ؟
    وحدجنى بنظرة متسائلة :
    ـ أظن أنك تحبه ؟
    قلت :
    ـ أفضله بالبطاطس ..
    ـ المهم أن تحبه . نورا ترفض السمك على المائدة ..
    كرر قوله إن أجمل المياس صيد العصارى . ترصه زوجته فى الصينية . تضع خلاله وفوقه ، شرائح البطاطس والبصل المبشور والطماطم . ترش الملح والفلفل الأسود . يعود البواب بالصينية من الفرن ، أكلة لا تنسى .
    وابتسمت عيناه :
    ـ هذا ما ستفعله ليليان فى المرة القادمة ..
    قالت نورا :
    ـ نحن نحتفل معك بعيد 28 مايو ..
    استطرد الخواجة أندريا :
    ـ الأرمن ـ حتى المقيمون فى المنفى ـ يشاركون حزب الطاشناق احتفاله بعيد قيام أول حكومة فى العصر الحديث ..
    ثم وهو يهز رأسه :
    ـ ظلت حوالى ألف يوم فقط .. لكنها أول حكومة مستقلة بعد مئات الأعوام من سقوط آخر ممالك الأرمن ..
    ولجأ إلى العد بأصابعه :
    ـ احتفالاتنا كثيرة .. فى 24 إبريل نحتفل بعيد الشهداء ، اليوم الذى أعطيت فيه إشارة البدء لقتل مليون ونصف المليون أرمنى سنة 1915 على أيدى القوات العثمانية . فى 26 يوليو نحتفل باليوم الذى اخترع فيه القديس الأب ميسروب ماشتوتس الحروف الأرمنية ..
    ولانت ملامحه :
    ـ احتفالاتنا كثيرة ..
    ألفت التردد على البيت . أجلس فى الصالة . يستعيد الخواجة أندريا ذكرياته . تشرق أحاديثنا وتغرب . يكتفى يوسف ويعقوب ـ إن كانا داخل البيت ـ بالتحية السريعة ، ويمضيان إلى حجرتهما ، أو إلى خارج البيت ..
    تحدث عن عضوية أبيه فى حزب الأرمينا جان ، أول الأحزاب السياسية الأرمنية . أسسه عدد من المدرسين الشباب . قصر هدفه على تحرير أرمينية . لم يصله بأهداف سياسية ولا اجتماعية . التحرير هو الهدف الأول ، وهو الهدف الأخير ..
    وهو يأخذ طبق الشاورمة من أمام يعقوب :
    ـ تحب الشاورمة ؟
    أومأت بالموافقة ..
    قال :
    ـ هل تعرف أن الشاورمة أكلة أرمنية ؟
    قلت فى لهجة مجاملة :
    ـ كنت أظنها شامية ؟
    ـ بل أرمنية . نقلها المهاجرون الأرمن من بلادهم ..
    وعلا صوته بالانفعال :
    ـ عزلة الشعب الأرمنى أفادته فى الاحتفاظ بشخصيته ..
    قالت الأم :
    ـ نحن نحرص على الزواج فيما بيننا ..
    قلت بعفوية :
    ـ لماذا ؟
    ـ هذا ما يحدث ..
    قال الخواجة أندريا :
    ـ ربما لحفظ التواصل العرقى بين أبناء الأرمن !
    ـ وحالات الزواج من غير الأرمن ؟
    ـ تصرف لن يدخل صاحبه النار .. لكن هذه هى عادة الأرمن !
    كانت نورا تتجه بنظرتها ناحية البحر . خذلنى الحدس ما إذا كانت قد استمعت إلينا ..
    تحدث الأب عن الشعور بعدم الأمان الذى بدّل عادات الأرمن . تحايلوا على الأتراك ، فارتدوا ملابسهم . وضعت النساء البراقع على الوجوه . تزوجت الفتيات فى سن مبكرة . تحدث عن تكيف الأرمن ـ بعاداتهم وتقاليدهم ـ مع المجتمع المصرى ، وإن لم ينصهروا فيه . ظلت لهم سلوكياتهم التى يحرصون عليها ..
    قال الخواجة أندريا :
    ـ من الناحية النظرية نحن لسنا أجانب .. كنا رعايا الدولة العثمانية ..
    وأشار إلى صدره بأصابعه المضمومة :
    ـ أنا شخصياً دفعت البدلية ..
    ثم فى صوت هامس ، كأنه يخاطب نفسه :
    ـ أظن أن الكنيسة الأرمنية كان لها دور فى احتفاظ الأرمن بقوميتهم ..
    وركز عينيه فيما لم أتبينه :
    ـ آباء الكنيسة هم قادة الشعب الأرمنى خارج بلاده ..
    ووضع يده ـ بود ـ على كتفى :
    ـ أنا دائم التردد عليها ، ولى فيها صداقات ..
    تحدث عن نادى " ديكران يرجات " بالإبراهيمية . أقدم ناد أرمنى فى مصر . قال إنه يقضى فيه أوقات فراغه ..
    قالت نورا :
    ـ أنا وأخوتى أعضاء فى نادى سموحة !
    تحدث الخواجة أندريا عن مواطنة الدرجة الثانية التى عومل بها الأرمن فى بلادهم : عدم قبول شهاداتهم فى المحاكم ، منعهم من حمل السلاح ، إلزامهم بدفع الجزية ..
    قال :
    ـ لاحظت أنى والمدام وحدنا نعرف ماذا جرى ، فشجعت نورا على وضع رسالتها ..
    وتلون صوته بحزن :
    ـ حتى الولدين لا يعرفان شيئاً عن أرمينية ، ولا عن الأرمن ..
    وأغمض عينيه ، وهز رأسه :
    ـ هما مصريان ..
    قلت :
    ـ هل هذا خطأ ؟
    ـ الخطأ أن أنسى جذورى !
    وعاد الانفعال إلى صوته :
    ـ أرمينية هى الصورة الأولى للوطن !
    لاحظت أن أفراد الأسرة يتحدثون بلغة أجنبية ـ هى اللغة نفسها التى يتحدث بها الدكتور جارو ونورا . أدركت أنها الأرمنية ـ لا يغيرونها إلا إذا كنت مشاركاً فى المناقشة .
    التقط الخواجة أندريا ملاحظتى . قال :
    ـ حاول الأتراك محو لغتنا ، وحاولوا قتل عاطفتنا القومية ، لكنهم لم يفلحوا ..
    وغمز بعينه اليسرى :
    ـ كما ترى ، نحن نحتفظ فى المهجر بلغتنا ومشاعرنا القومية .
    ***
    سحب الخواجا أندريا الناى من الحائط . قال :
    ـ أنا أجيد استعمال الناى ..
    ثم وهو يمسد الناى براحته :
    ـ تعلمت على يد أمين بوزارى أشهر عازفى الناى القدامى ..
    أدركت من إغماض عينيه ، وانهماكه فى العزف ، أنه قد استغرق فى حالة حنين . لمحت فى عينيه الدمع ، بعد أن أتم العزف وأعاد الناى إلى موضعه ..
    قلت مداعباً :
    ـ أين كنت يا خواجة أندريا ؟
    اكتفى بهز رأسه . ظل صامتا .
    قالت نورا :
    ـ هل تريد سماع أغنية أرمنية ؟
    عزف عليه ، وغنت نورا بكلمات أرمنية ، لم أفهمها ، لكن صوتها بدا جميلاً ..
    قالت :
    ـ هل أجيد الغناء ؟
    قلت :
    ـ جداً ..
    قال الخواجة أندريا :
    ـ حتى الثالثة من عمرها تقريباً كانت نورا تتكلم بالأرمنية ، ثم حرصنا على أن تقتصر أحاديثنا أمامها على العربية ..
    ثم وهو يربت خدها :
    ـ هى الآن إسكندرانية تماماً ..
    قلت لمجرد أن أتجه إليها بالسؤال :
    ـ لاحظت أن معظم أسماء العائلات الأرمنية تنتهى بحرفى " يان " ..
    مطت شفتيها ، وقالت :
    ـ لم ألحظ الأمر ..
    وأدارت خصلة الشعر حول إصبعها :
    ـ ربما لأن المقطع يان فى ختام معظم الأسماء يعادل ياء النسب فى اللغة العربية ..
    وقطعت الصمت الذى حل فجأة :
    ـ تعال نجلس فى حجرتى ..
    السرير الخشبى الصغير فى جانب الباب ، تعمدت ألا ألتفت إليه . الأنتريه الأسيوطى ـ كنبة وكرسيان ـ ظهره إلى النافذة المطلة على الشارع . المكتب الصغير لصق الجدار ، فوقه آلة كاتبة ، الكومودينو من خشب الزان ، تعلوه مكتبة ذات ثلاثة أرفف بضلفتين من الزجاج ، وإلى جانبه ما يشبه الدولاب الصغير ، أسفله ضلفة مغلقة ، وأعلاه أدراج مفتوحة صفت فيها اسطوانات . صف فوقه تماثيل صغيرة من الصلصال ، لمجموعة عازفين تختلف الآلات التى أمسكوا بها . على الأرض فروة خروف فرشت كسجادة . علقت على الجدران صور عائلية ، وجوه ، وصور زفاف ..
    لم تكن المكتبة مقتصرة على الكتب التاريخية . ما تطلبه فى إعداد رسالتها . تلاصقت قواميس بالعربية والفرنسية ، وكتب فى السياسة والاقتصاد ، وأعداد من روايات الجيب ..
    ـ قراءة للدراسة أم لمجرد المعرفة ؟
    تكلمت عن مصادر الرسالة ومراجعها . فرض التنوع عليها أن تتقن الأرمنية والعربية والفرنسية ، وتحاول فهم التركية والإنجليزية والروسية . الكتب والصحف والمخطوطات والرسائل والوثائق لا حصر لها ، مطبوعة وغير مطبوعة . مذكرات وذكريات وبحوث ولوائح وقوانين ومراسيم ومراسلات وتقارير وألبومات مصورة . حتى دفاتر وفيات المطرانية الأرمنية التى لم يسبق نشرها ، عادت إليها . تتعرف على أسماء النازحين ، والمدن التى نزحوا منها ، والمدن التى استقبلتهم فى أثناء النزوح . حتى برامج الحفلات الاجتماعية والفنية والثقافية توضح المشهد فى خلفية الصورة . همها أن تحسن القراءة والمتابعة والفهم ، والتوصل إلى النتائج الصحيحة ..
    التقطت عنوان كتاب " تاريخ الدولة العلية " لمحمد بك فريد . حدست أنه كان للخواجة أندريا من صفرة الورق ، وغلبة خطوط القلم الحبر فى دوائر وتقاطعات وتشابكات .
    قلت :
    ـ هذا الكتاب كان بداية اهتمامى بالكتب السياسية . اشتريته من مكتبة بالعطارين ..
    أكدت حدسى :
    ـ حصلت عليه من أبى . به معلومات عن دولة الخلافة ..
    وتنهدت :
    ـ كنت أتوقع من الدكتور جارو فائدة أكثر ..
    ـ أتصور أن هذا ما حدث ..
    ـ كرر وأغفل تواريخ مهمة ..
    وهزت كتفيها :
    ـ لعله تقدم العمر !
    ـ ألا يوجد من تستكملى عنده المعلومات التى تطلبينها ..
    ـ عرفت من أبى أنه هو الوحيد الذى شهد المذابح ..
    شردت . اتجهت عيناها إلى نقطة غير مرئية :
    لما بدأت فى الاستماع إلى أحاديث الدكتور جارو عن أرمينية . لم أكن أعرف أين هى ، ولا الظروف التى تعيشها بعد أعوام التهجير . ثم عرفت ما كان غامضاً ، أو ضبابياً ، فى انشغال نورا برسالتها . أبحث عن مراجع للرسالة فى مكتبات العطارين ، أقرأ ما تكتبه من بطاقات ، أستوضح ما لا أفهمه . أكتفى بالإنصات وهى تتكلم ، كأنها تتجه بكلماتها إلى أفق البحر أمامنا ..
    فى لحظة ـ لا أذكرها ـ تبينت أنى لا أبحث فى تاريخ مذابح الأرمن . أنا أبحث عن جذورى . نشأتى فى الإسكندرية . لكن أبى وأمى قدما من مدينة أخرى ، من وطن آخر .
    منذ بدأت الإعداد للرسالة . القراءة وتجميع البطاقات . داخلنى شعور أنى أختلف عن زملائى فى الكلية ، ومن أعرفهم بعيداً عن أسرتى . حتى الملامح ، تنبهت إلى أنها تختلف عن ملامح من أعرفهم من الأرمن . لاحظت أنى بدأت أطيل النظر ، وأتأمل . ربما طرحت المقارنة . لم أدرك ـ على وجه التحديد ـ متى استقر شعورى بأنى أنتمى إلى وطن ـ لم أره ـ يبعد عن الإسكندرية بآلاف الكيلومترات .
    تحدثت عن قراءاتها فى التاريخ والسياسة . ترددها على الأتيلييه ، وعلى تياترو محمد على ، تشاهد عروض الفرق الموسيقية والباليه والأوبرا . حضورها للحفلات الموسيقية فى نادى ديكران يرجات . حبها لأعمال رينوار وماتيس وشاجال وبيكاسو ومانيه . رحلاتها خارج المدينة مع طلاب الجامعة . ممارستها لرياضة المشى على رصيف كورنيش المينا الشرقية .
    قلبت فى أدراج الدولاب الصغير . أوبرات كارمن وعايدة وشهرزاد ودون جوان . سيمفونيات لبيتهوفن وشوبان وموزار . مقطوعات كلاسيكية لفردى وكليمنتى ..
    قلت :
    ـ هل تستمعين إلى أغنيات مصرية ؟
    حدجتنى بنظرة دهشة :
    ـ أحب أم كلثوم وعبد الوهاب وفريد الأطرش وليلى مراد ..
    استطردت فى تنبه :
    ـ وأحب ألحان سيد درويش .
    ثم وهى تهز كتفيها :
    ـ صوته لا يعجبنى !
    ومالت بفمها على أذنه :
    ـ هل أسمعك شيئاً ؟
    سحبت من المكتبة الصغيرة كتاباً منزوع الغلاف ، مهترئ الصفحات . أعفتنى من تخمين اللغة التى كتب بها فى قولها :
    ـ هذا ديوان بالأرمنية ..
    ـ هل تجيدين الأرمنية ؟
    ـ طبعاً ..
    ـ لكنك من مواليد الإسكندرية ..
    أمنت بهزة من رأسها :
    ـ وتخرجت فى مدرسة راهبات الأرمن الكاثوليك قبل أن أدخل الجامعة ..
    وعلا صوتها فى تذكر :
    ـ كيف أقرأ وثائق الرسالة لو لم أتقن اللغة التى كتبت بها ؟
    وبدأت فى القراءة ..
    استعارت صوتاً أضاف عمقاً إلى رقة صوتها :
    ترى إلى أين تحملين يا روحى المعذبة
    صليبك الخشبى الأسود ؟
    أثمة جمجمة جديدة لكى تصعدى فخورة
    حيث ينظر الجميع إلى إكليلك المضىء
    بحب جارف ؟
    هل أنت مثل يسوع تصعد الجبل ؟
    أم أنت مجرد لص حكم عليه بالموت ؟
    وهل كل إنسان هو بيلاطس
    الذى يغسل أمامك يديه ؟
    أى إكليل مضى ؟
    وكيف تصعدين يا روحى
    طوعاً فى طريق الآلام ؟
    وأنت لا تعرفين حتى نفسك
    إن كنت يسوع أم يهوذا ؟
    هل لديك يا روحى ميزان دقيق حاسم
    كى تزنى هذا الفكر الطليق
    فى انتصاف الليل الحالك لعذابك الأليم ؟ ( * )
    لم ألحظ انقضاء الوقت حتى بدت الشمس قرصاً أحمر فى نهاية الأفق . شدنا الحوار . أسأل وتجيب ، تسأل وأجيب . نتأمل ، ونبدى الملاحظات ، من شرفة غرفتها ـ حركة الحياة فى طريق الكورنيش .
    ــــــــــــــــــ
    ( * ) قصيدة للشاعر الأرمنى يغيشى تشارنتس (1897 ـ 1937 ) ت : د . فاروجيان كازانجيان . صياغة شعرية : محمد إبراهيم أبو سنة
    Reply With Quote  
     

  10. #10 رد: النص الكامل لرواية «صيد العصاري» للر 
    كاتب مسجل
    Join Date
    Jun 2006
    Posts
    1,123
    Rep Power
    20
    ـ 9 ـ

    أشارت نورا بيدها إلى شارع توفيق ..
    قلت :
    ـ مظاهرة ..
    ـ لماذا ؟
    ـ لألف سبب ..
    ثم وهى تصلح بأصابعها من فوضى شعرها :
    ـ اتهم النقراشى الإنجليز فى مجلس الأمن بالقرصنة ، وعاد ليمارس القهر على المصريين .
    كنا واقفين على باب مكتبة دار المعارف . صحبتها لشراء مراجع ، واشتريت كتاب محمد خطاب " المسحراتى " ..
    اعتدت أن أقضى ساعات فى مكتبة كلية الآداب ، فى البناية المطلة على شاطئ الشاطبى . أتشاغل بقراءة ما أشعر أنى سأفيد منه فى دراساتى . على الجانب المقابل من الطاولة الخشبية المستطيلة ، اللامعة . تضع نورا المراجع أمامها . تسجل فى بطاقات ما ترى أنه يفيدها فى رسالتها . تومئ برأسها ، دلالة أنها تستعد للانصراف . أسبقها إلى الباب ..
    خلفت المظاهرة شارع توفيق . اتسعت مساحتها باتساع ميدان محمد على . انجذبنا نحو الهتافات والزحام . سرنا فى قلب المظاهرة . لم نعرف إلى أين تتجه . اندسسنا فيها ، التصق كل منا بالآخر ، ورحنا نردد هتافات كان الشاب فى مقدمة المتظاهرين يرددها ، ضد الصهيونية والولايات المتحدة ، وبريطانيا .
    أرنو بجانب عينى إلى نورا . أشعر أنها قد استغرقت تماماً فى المظاهرة ، والهتافات ، وتكوير قبضات الأيدى ، وتحدى الخطر . يعلو صوتها بالهتاف ، وإمارات النشوة تكسو ملامحها ، وتخبط الأرض بقدميها ، وتلوح .
    علا صوت الشاب ـ فجأة ـ بهتافات غير التى كان المتظاهرون يرددونها وراءه : يسقط ملك النساء والحفاء .. لا ملك إلا الله .. فاروق يا نور العين .. أمك مرافقها اتنين .. على ماهر واحمد حسنين .
    لم أفكر ـ لحظة ـ فيما علا به صوت الشاب . حتى الهتافات التى رددتها وراءه ، لم أتدبرها ، ولا تنبهت إن كنت قد استمعت إليها من قبل ، أم أنها كانت وليدة اللحظة . مزق الشاب ـ فى مقدمة المظاهرة ـ العلم الأمريكى ، وأحرقه .
    عكس التصفيق وترديد الهتافات ، تأييد المطلين من النوافذ ، والواقفين فى المقاهى ، وعلى أبواب البيوت والأرصفة .
    هدأت المظاهرة فى اقترابها من شارع فرنسا . لاحت أمام قسم المنشية قوات بوليس ازدحم بها الشارع ، وأقامت الكردونات . خفتت أصوات المتظاهرين وهى تهتف بالنشيد " بلادى بلادى فداك دمى " . تلفتوا يبحثون عن قطع الحجارة ، وأيدى العساكر تحمل الهراوات والبنادق ، والجياد تجرى وسط الجميع ، لا يستطيع حتى العساكر ضبط خطواتها . لجأ العساكر إلى كعوب البنادق ، يضربون ويضربون ، لا يتحرون المواضع التى تتجه إليها ، ولا تشغلهم الآثار الدموية ـ وربما القاتلة ـ التى تحدثها . اختلط وقع الهتافات ، وتماسك الأيدى ، والضربات ، والصرخات ، والصهيل ، والقنابل المسيلة للدموع ، والدماء النازفة ..
    ***
    جاءنى صوتها فى التليفون ـ بعد غيبة أيام ـ فاتراً :
    ـ إن أردت ، يمكن أن نلتقى فى موعدنا .
    لم تشر إلى المكان ، لأنى كنت أسبقها إلى الكورنيش الحجرى أمام مدينة الملاهى بالأزاريطة . ربما سرنا إلى السلسلة ، أو إلى قبالة تمثال الخديو إسماعيل ، أصحبها إلى مكتبة كلية الآداب . مرتان ، التقينا ـ خارج البيت ـ فى ميدان أبى العباس ، وعلى شاطئ الأنفوشى . زرت معها ـ للبحث عن مراجع ـ المركز الثقافى الأمريكى بشارع فؤاد .
    تكلمت عن الموعد ، ولم تحدد المكان .
    حدست أنها تقصد الموضع الذى اعتدنا اللقاء فيه .
    سرنا فى اتجاه بحرى . خلفنا مرسى القوارب فى الميناء الشرقية ، والشارع المفضى إلى معهد الأحياء المائية ، وقلعة قايتباى ، ومساكن السواحل ، وكومات الحجارة والردم تتسع بها مساحة الأرض أول الأنفوشى ، وورش المراكب . تناهى أذان العصر من مسجد طاهر بك أول شارع الحجارى .
    أمسكت بساعدى . ساعدتها على القفز ـ بأقدامنا الحافية ـ على الكورنيش الحجرى ـ قبالة قصر أم البحرية ذى الطابع الشرقى والطوابق الثلاثة ـ إلى داخل الشاطئ . إلى اليسار ثكنات الحرس الملكى ، وقصر رأس التين ، وإلى اليمين البيوت التى تآكلت واجهاتها بملح البحر ، وفى الأفق تعلو الجزيرة الصغيرة
    مد الموج يلامس الرمال . تضوى لحظات ، ثم تعود الرمال إلى انطفائها ، بامتصاصها للماء ، وبحرارة الشمس ..
    يترامى صوت ارتطام الأمواج بالصخور ، أسفل الكورنيش الحجرى ، ترافقه صيحات النورس ، وهبات الريح المندفعة من ناحية الشمال ..
    جلست فوق الكورنيش . تحتضن ساقيها ، وترنو إلى الأفق . يترامى صوت تكسرات الأمواج . وثمة بقايا طحالب وأعشاب وقناديل بحرية ، واندفعت كابوريا نحو حجر داخل الرمل ..
    انداحت دفقة هواء مفاجئة . طار أسفل فستانها ، فظهرت ساقاها وما فوق ركبتيها . تملكتنى رغبة أن ألمس البشرة الوردية ، الناعمة ..
    لاحظت أنى أختلس النظر ، فشبكت يديها على الركبتين ، ونطق التوتر فى ملامحها ..
    قلت لمجرد أن يدور حوار :
    ـ لكل إنسان حلم .. وحلم هذا الصياد تركز فى السنارة التى تنتهى بها القصبة .. إنها وسيلته بالطعم الملتف حولها لاجتذاب السمك !
    قالت :
    ـ قرأت حكاية عن صياد طلعت شبكته بعروسة بحر ، عرضت عليه أن يطلق سراحها لقاء مساعدته فى الحصول على ما تضمه أعماق البحار من كنوز وثروات ..
    قلت وأنا أغوص فى زرقة عينيها :
    ـ عروستى لا تعادلها كنوز الدنيا كلها !
    كنت أرى فى عينيها أسئلة كثيرة ، وإن لم تجرؤ على مصارحتى . أدركت أنها تخفى وراء الابتسامة التى تملأ الوجه ما تعانيه . راعيت ميلها إلى الصمت . لم أشأ أن أسألها فى ما قد لا تجيب عنه ..
    ـ أين كنت ؟
    ـ لم أترك حجرتى ..
    ـ لماذا ؟
    عانيت ارتباكاً ، فتنقلت نظرتى بين الرضوض والكدمات الزرقاء فى ساقها ، والقوارب التى تصيد المياس فى خليج الأنفوشى . رفعت الجونلة ـ بعفوية أربكتنى ـ إلى ما فوق الركبتين ، وأشارت بيدها :
    ـ زميل فى الدراسات العليا ظن نفسه كازانوفا ..
    قالت إنها لم تبح لأحد بذلك السر . اختصتنى بما أطالت كتمه فى نفسها . حتى نظرات الخواجة أندريا القلقة ، وأسئلة الأم ، اكتفت أمامها بالصمت . ما حدث أكبر من أن تحاول استعادته : حصاره لها فى الشقة المغلقة . نظرته الشهوانية ، المتوعدة ..
    قال من بين أسنانه :
    ـ لماذا أنت هنا ؟
    ـ لنذاكر معاً ..
    ـ فقط ؟
    هزت رأسها :
    ـ فقط ..
    ـ هل هذا كل ما تملكه فتاة أرمنية ..
    أدركت ما يفكر فيه :
    ـ أولاً .. أنا مصرية ..
    ورمته بنظرة ساخطة :
    ـ ثانياً .. هل الأرمن يختلفون عن بقية البشر ؟!
    التف ساعداها ـ بتلقائية ـ حول وجهها . تتقى الصفعات التى فاجأها بها ، صفعات قاسية ، رافقتها عبارات قاسية ، وشتائم . لف شعرها حول قبضته . اجتذبها . طرحها على الأرض . ظل يوجه إليها اللكمات والصفعات ، والشتائم ..
    ـ تملكنى شعور أنه يريد قتلى !.. يضرب ليقتل لا ليؤذى !
    ـ لماذا ؟
    وهى تهز راحة يدها :
    ـ لا أعرف .. لا أعرف ..
    وأنا أغالب التردد :
    ـ آسف .. لكن هل كان يتوقع شيئاً ؟..
    شوحت بيدها :
    ـ لا أعرف ذلك النوع من التوقعات !
    وغامت فى عينيها سحابة دامعة :
    ـ أستعيد الموقف فلا أجد ما يبرر فعلته إلا أنه مجنون ..
    سكت قليلاً ، ثم قلت :
    ـ هل رويت ما حدث للأسرة ؟
    ـ النتائج السلبية سأتحملها بمفردى !
    داخلنى شعور أنى أراها للمرة الأولى . ليست هى الباحثة التى ألتقى بها فى عيادة الدكتور جارو ، ولا الصديقة التى تصحبنى إلى بيت أسرتها ، ومكتبة كلية الآداب ، وكورنيش الشاطئ ، بل ولا حتى الفتاة الجميلة بشعرها الأصفر ، وعينيها الزرقاوين ، وأنفها الصغير . هذه فتاة أخرى . تهبنى ثقتها ، تحدثنى عن معاناتها ، وما كتمت روايته .
    ***
    Reply With Quote  
     

  11. #11 رد: النص الكامل لرواية «صيد العصاري» للر 
    كاتب مسجل
    Join Date
    Jun 2006
    Posts
    1,123
    Rep Power
    20
    - 10 -

    طارت بى الدنيا ـ رغم تأثرى ـ لأنها باحت لى بالسر الذى تحتفظ به لنفسها . بما حرصت ألا ترويه لأحد ..
    لماذا اختارتنى من بين كل الذين تعرفهم لتحكى لى أسرارها ؟
    أثق أنها تعرف كثيرين . تتناثر فى كلماتها أسماء كثيرة ، وأحداث شارك فى صنعها من لا أذكرهم ، لكنهم ـ بالتأكيد ـ يملأون ذاكرتها ..
    هل هى صادقة فى تحذيرها لى ؟ . قالت : إنى إذا أعدت رواية الأسرار التى ائتمنتنى عليها ، فستكون الأسرار قد جاوزت اثنين ، فعرفها ثالث ؟ .. وانغماسها فى الأحاديث الهامسة مع العجوز ، ألا يسرق ما تتصور أنها كتمت صدرها عليه ؟
    أيقنت ـ فى لحظة لا أذكرها ـ أنى لم أعد أعرف أحداً ، ولا شيئاً ، فى الدنيا سواها . ألتقى بالآخرين ، أحادثهم ، أسير فى الشوارع ، أقف على شاطئ البحر ، أتلقى الرسائل من القرية ، أحيا كما يحيا الناس . لكن صورتها وحدها هى التى تشغلنى .
    ما نتبادله فى أحاديثنا يشى بالصداقة ، لكنه لا يتطلع إلى تسمية ، أو تسميات ، أخرى ..
    الحب !..
    شعرت أنى أحبها . لا يشغلنى فى هذا العالم سوى أن تكون لى . لا تشغلنى القراءة ولا الكتابة ولا الآراء المؤيدة أو المعارضة ، ولا فرص النشر ، ولا عملى عند فيصل مصيلحى ، ولا أى شئ . أن أكون محباً لها ، محبوباً منها ، هو ما يهمنى . تهاوى جدار السر بينى وبينها ، أعطى كل منا نفسه للآخر بالفضفضة ، ورواية ما كان يعتبره شأنه الشخصى .
    أنا أحبها .
    أتصور أنى أرى الحب فى عينيها . أثق أنها تبادلنى الحب ، وإن لم تهبنى ما أحيا على توقعه : كلمة ، أو إيماءة ، أو نظرة ذات معنى ..
    هل أحبتنى ؟!..
    لم يغب شعورى ، ولا شحب ، ولا تخاذل ، بأنها تضمر لى ما أسميه الحب ، ما أضعه فى إطاره ..
    خلت دنياى إلا منها : شعرها الأصفر ، المتموج ، على رأسها وكتفيها ، وعيناها الصافيتا الزرقة ، وأنفها الصغير ، وشفتاها الرقيقتان كورقتى وردة ، وقوامها الذى يستدعى معنى العافية . أصحو ، وأنام ، وأقرأ ، وأكتب ، وأسير ، وأجلس ، وأسأل ، وأجيب ، وأناقش ، وأشاهد . لا تبرح ذهنى . ربما ناقشتها ـ بينى وبين نفسى ـ فيما أكتمه فى داخلى ، لا أقدر أن أواجهها به .
    كانت تدير الفونوغراف فى حجرتها على أسطوانات لباخ أو موزار أو بيتهوفن . ترنو ناحيتى . تتأمل انعكاس الموسيقا فى ملامحى . أحببت الموسيقا الكلاسيكية لأنى أحب نورا . تنقلنى إلى أجواء تختلط فيها عيناها ، وابتسامتها ، وخصلة الشعر الملتفة حول إصبعها ، والهارمونى المنساب فى عالم بلا زمان ولا مكان ..
    فاجأتنى بالقول ـ ذات مساء ـ ونحن نفترق فى محطة الرمل ـ :
    ـ لا إله إلا الله .
    قلت بعفوية :
    ـ محمد رسول الله .
    تنبهت ـ فى اللحظة التالية ـ إلى ما قالت ..
    اعتدت ـ فيما بعد ـ قولها : بسم الله الرحمن الرحيم .. اسم الله عليك .. ودين النبى .. وحياة أبو العباس ..
    تمنيت أن نتبادل ـ ذات يوم ـ كلام المحبين . يصعب أن أحدسه معها . ماذا أقول ؟ ماذا تقول ؟. لكنه لابد أن يختلف عن كلام المظاهرات ، وذكريات الدكتور جارو ، وقضايا السياسة ، ومراجع رسالة الماجستير ..
    عدنا إلى السير فى ميدان المنشية ..
    بدا الميدان صامتاً ، ساكناً ، يختلف عن الصورة التى كان عليها يوم الصدام بين المتظاهرين وقوات البوليس . لم يعد إلا قطع حجارة متناثرة ، وفروع أشجار ، وبقع دماء داكنة ..
    صحبتنى إلى مكتب البريد الرئيسى بالمنشية . وضعت حوالة الجنيهات الخمسة فى داخل المظروف . كتبت عليه " السيدة الفاضلة والدة صلاح بكر ـ الصوامعة ـ طهطا . أرفقت بالحوالة كلمات ، لمّحت فيها إلى أن العمل قد يأخذ وقتى فى الفترة القادمة .
    كيف تستقبل أمى زواجى من نورا ، لو أن أميرتى وافقت ؟
    حياتها تختلف عن حياتنا . إنها جميلة بارك الله لك فيها . هى ليست من دينك . هل تعرف أهلها ؟ هل تقبل العيش بعيداً عن الإسكندرية ؟.
    حتى لو عارضت أمى ، فإنها ـ هذا هو ما اعتدته ـ ستوافق ، وتبارك ، وتحب نورا مثلما أحببتها ..
    Reply With Quote  
     

  12. #12 رد: النص الكامل لرواية «صيد العصاري» للر 
    كاتب مسجل
    Join Date
    Jun 2006
    Posts
    1,123
    Rep Power
    20
    ـ 11 ـ

    بدت العيادة ممتلئة بالمترددين . على غير العادة . هو الوقت الذى خصصه الدكتور جارو لاستقبال نورا ، ولاستقبالى ..
    لمح وقفتى المترددة :
    ـ ادخل ..
    وأشار إلى صناديق كرتونية صغيرة فوق المكتب :
    ـ مستوصف سوق السمك القديم عاجز عن استيعاب طالبى التطعيم من الكوليرا ..
    ونفث تنهيدة :
    ـ أحاول القيام بدور ..
    ونقر بإصبعه على جبهته كالمتنبه :
    ـ خذ المصل أنت أيضاً ..
    كنت أجلس فى لقاءات تسجيل ذكرياته لنورا فى فترات متباعدة . مجرد الحرص أن تظل صلتى بالدكتور جارو ، وصداقتى له . ألتقى بنورا بعيداً عن العيادة . فى بيتها ، أو فى أماكن نختارها ، أو تختارها المصادفة . صار العالم كله ملكاً لنا ..
    اعتدت من العجوز أحاديث المرارة . يقتحمه الشعور بأنه وحيد . تغيب البواعث ، وإن بدت الوحدة قاسية . المرء يولد ، يتعلم ، يعمل ، يأكل ، يشرب ، يتزوج ، ينجب ، يحب ، يكره ، يشيخ ، يمرض ، يموت ..
    لماذا يولد أصلاً ؟ لماذا لا يموت من البداية ؟
    صارحنى أنه ظل كارهاً لمصر أعواماً طويلة ، حتى ألف الأمكنة والبشر ، وإن بقيت صورة واحدة ، ثابتة ، لا تختلط بغيرها من الصور . يتجه ـ بالحنين ـ إلى مدن وأماكن فى أرمينية . يذكر الأسماء . لا أعرف موضعها على وجه التحديد . لا أعرف حتى كيف أنطقها جيداً . أكتفى بالخيال فى تصور المدن والبنايات والميادين والشوارع والجبال ، والناس الذين افترق عنهم بتشريد المنافى ..
    ـ كان الموقع هو مشكلة أرمينية مثلما كان مشكلة مصر . أرمينية ملتقى الطرق التجارية والعسكرية بين أوروبا وآسيا .. ومصر ملتقى الطرق بين أوروبا وإفريقيا وآسيا .. لذلك تعددت الغزوات للبلدين منذ التاريخ القديم ..
    ولاحظت ارتجافاً فى شفته السفلى :
    ـ الأحلام بعيداً عن الوطن مجرد حالة مرضية ..
    وعكس وجهه ما يعتمل فى نفسه من انفعالات :
    ـ كنت أعد نفسى للعودة إلى أرمينية لولا الوباء الذى فاجأ الجميع ..
    حدست أن الرجل يعانى : هل يستعيد بالتطعيمات ما رواه عن دوره فى إنقاذ جرحى النفى من بلاده ؟
    بدا الحدس يقيناً ، لما التفت ناحيتى فى وقفته أمام الطابور :
    ـ منذ قرار مجلس الأمن بتقسيم فلسطين لم يعد من السهل توقع ما سيحدث .
    اكتفيت بهزة من رأسى ..
    قال :
    ـ منذ ما يقرب من ربع قرن أنهت الحكومة العثمانية قضية الأرمن رسمياً . أعلنت أنه لم يعد للأرمن وجود فى دولة الخلافة !
    وهز سبابته :
    ـ تحدث قرار تقسيم فلسطين عن العرب واليهود . أما معاهدة لوزان فى 1923 فقد خلت من كلمتى أرمينية والأرمن ..
    وداخل صوته تهدج :
    ـ لم يعد للأرمن ادعاء مجرد الحق فى الحياة ..
    وتبدّلت نبرة صوته :
    ـ أخشى أن ذلك ما يعدونه للفلسطينيين !
    Reply With Quote  
     

Similar Threads

  1. Replies: 24
    Last Post: 13/07/2008, 08:24 AM
  2. Replies: 70
    Last Post: 29/05/2008, 09:43 AM
  3. النص الكامل لرواية «شغل الليل والنهار» لثروت مكايد
    By د. حسين علي محمد in forum مكتبة المربد
    Replies: 36
    Last Post: 28/02/2008, 06:08 AM
  4. النص الكامل لمجموعة «ما لا نراه» لمحمد جبريل
    By د. حسين علي محمد in forum مكتبة المربد
    Replies: 19
    Last Post: 25/01/2008, 08:26 AM
  5. Replies: 18
    Last Post: 23/12/2007, 11:20 AM
Posting Permissions
  • You may post new threads
  • You may post replies
  • You may not post attachments
  • You may not edit your posts
  •